أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ التَّاسِعَ عَشَرَ-















المزيد.....

الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ التَّاسِعَ عَشَرَ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 15:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ هندسة الصمت: الطلسم بوصفه ثقباً في جدار الواقع

تُعد العلاقة بين الجمالية السحرية المتمثلة في كتابة الطلاسم و جمالية العدم المتمثلة في بساطة الفراغ واحدة من أكثر التقاطعات الفلسفية عمقاً، حيث يلتقي فيها الإمتلاء الرمزي بالخلاء الوجودي. إن الطلسم، في جوهره، ليس مجرد خطوط متشابكة أو رموز مبهمة، بل هو محاولة بائسة وشجاعة في آن واحد لإختزال الوجود بأسره داخل حيز ضيق؛ إنه تكثيف للعدم ليصبح قوة فاعلة. من هنا، تبرز جمالية العدم كأفق ضروري للطلسم، إذ لا يمكن للرمز السحري أن يكتسب سلطته إلا إذا إنبثق من الفراغ وإرتد إليه، فالسحر في نهاية المطاف هو فن التلاعب بالفجوات الموجودة في نسيج الواقع، وتوظيف الفراغ كقناة لمرور المعنى الخارق. في التحليل الفلسفي للطلسم، نجد أنه يعتمد على إستراتيجية الحذف والتركيز، وهي جوهر جمالية الفراغ. الطلسم يحذف التفاصيل المادية للعالم، الصور، الأجساد، الكلمات المفهومة، و يستعيض عنها بخطوط مجردة ونقاط صامتة. هذا التجريد هو في الحقيقة إحتفاء بالعدم؛ فالفراغ الذي يحيط بالطلسم داخل الورقة أو التميمة ليس مساحة فارغة بالمعنى الفيزيائي، بل هو صمت مشحون يسمح للرمز بأن يتنفس. هنا تلتقي بساطة الفراغ مع تعقيد الطلسم؛ فكلما زاد الفراغ حول الطلسم، زادت حدة حضوره، تماماً كما في الفلسفة الزينية (Zen) حيث يمنح الفراغ للمادة كينونتها. إن الطلسم ينمو في الفراغ، وبدون هذا العدم المحيط به، سيتحول إلى مجرد ضجيج بصري يفقد خاصيته السحرية التي تعتمد على الإختزال الكوني. علاوة على ذلك، ترتبط جمالية العدم بالطلسم من خلال مفهوم اللامعنى المنتج. جمالية العدم تفترض أن الإمتلاء الحقيقي يكمن في البساطة التي تقترب من الصفر، والطلسم يتبنى هذه الرؤية عبر كتابة رموز لا تقرأ بالمعايير اللغوية المعتادة. هذا الغياب للمدلول المباشر هو عدم دلالي يفتح الباب أمام إحتمالات لانهائية. إن بساطة الفراغ تعني التخلي عن الزوائد، والطلسم هو الوصول إلى جوهر القوة عبر التخلي عن وضوح اللغة. لذا، فإن الكتابة السحرية هي ممارسة عدمية بإمتياز، لأنها تؤمن بأن الحقيقة لا توجد في الكثرة، بل في النقطة المنفردة، في الخط الذي يشق العدم، وفي الفراغ الذي يسبق الخلق. الساحر، بهذا المعنى، هو فنان يدرك أن العدم هو المادة الخام التي يُصاغ منها الوجود السحري. يمكن القول إن العلاقة بين الطلاسم و جمالية العدم تتجسد في فعل المحو. في التقاليد السحرية القديمة، غالباً ما تكتسب الطلاسم قوتها القصوى لحظة محوها أو ذوبانها، و هو ما يعيدنا مباشرة إلى فكرة جمالية الزوال المرتبطة بالعدم. إن الطلسم يولد من الفراغ (العدم قبل الكتابة)، و يتجلى ككثافة رمزية، ثم يعود إلى العدم بعد المحو أو التحقق. هذا المسار الدائري يجعل من بساطة الفراغ ليست مجرد خلفية، بل هي المبدأ والمنتهى. إن جمالية الطلسم لا تكمن في كونه شيئاً مضافاً للعالم، بل في كونه ثقباً في جدار الواقع، يسمح للعدم بأن يتسرب ويغير مجريات الأمور. إنها جمالية الأقل الذي يفعل الأكثر، حيث يصبح الفراغ هو الأداة الأكثر تعقيداً في يد الساحر والفيلسوف على حد سواء.

_ أقنعة الغياب: الطلسم بوصفه جسداً مادياً للعدم النشط

تكمن الإجابة على هذا التساؤل في منطقة برزخية تجمع بين الميتافيزيقا وعلم الجمال، حيث يمكن إعتبار الإبداع السحري، لا سيما في تجلياته الخطية والرمزية (الطلاسم)، هو المحاولة الإنسانية الأكثر جسارة لتجسيد العدم النشط في قالب مادي. إن السحر في جوهره الفلسفي لا يسعى لإضافة مادة جديدة إلى العالم، بل يسعى لإستدعاء القوة الكامنة في الفجوات أو في ما ليس موجوداً بعد. عندما يخط الساحر طلسمه، فهو لا يرسم شكلاً جمالياً بالمعنى التقليدي، بل هو يقوم بعملية تسييج لجزء من الفراغ، محولاً إياه من عدم مطلق إلى عدم متعين وذي سلطة. هنا، يصبح الإبداع السحري هو جسر الكينونة الذي يعبر عليه العدم ليؤثر في الوجود المادي، حيث تعمل الرموز السحرية كأدوات لإختراق حجاب الواقع الصلب وإفساح المجال للعدم لكي يتنفس داخل المادة، مما يمنحها خصائص تتجاوز قوانين الطبيعة المعتادة. إن العلاقة بين السحر والعدم تتجلى بوضوح في مفهوم التكثيف التجريدي. فبينما يميل الوجود المادي إلى الإمتلاء والكثرة و الضجيج، يميل الإبداع السحري نحو الإختزال و الغموض والصمت الدلالي. الطلسم هو نقطة لا أبعاد لها في فضاء المعنى، فهو يمثل أقصى درجات التجريد التي تقترب بالشيء من التلاشي (العدم). هذا التلاشي ليس ضعفاً، بل هو مصدر القوة؛ فالسحر يؤمن بأن القوة الحقيقية تكمن في اللطافة لا في الكثافة. لذا، فإن التعبير المادي عن السحر هو في الحقيقة مادة تنفي ماديته، أي أنها مادة مصاغة بطريقة تجعلها تبدو وكأنها ثقب أسود يمتص المعاني المستهلكة ليطرح بدلاً منها إمكانات بكر. العدم هنا ليس لاشيئاً سلبياً، بل هو الرحم الوجودي الذي تخرج منه كل الصور، و الإبداع السحري هو اليد التي تغرف من هذا الرحم لتصنع أشكالاً مادية هي في حقيقتها أقنعة للعدم. من زاوية أخرى، يمثل الإبداع السحري تعبيراً عن العدم من خلال إستراتيجية الغياب الحاضر. في العمل السحري، يكون الجزء الأهم هو ما لا يُرى و ما لا يُقال. الكلمات السحرية كالبرهتية أو الأسماء غير المفهومة هي كلمات أفرغت من معناها اللغوي لتصبح أوعية للعدم؛ فهي لا تشير إلى أشياء في العالم، بل تشير إلى فراغات في الوعي الكوني. هذا الإفراغ المتعمد للمدلول هو تمثيل مادي للعدم؛ حيث يصبح الرمز جسداً مادياً يسكنه فراغ مطلق. إن جمالية السحر هي جمالية الحدود القصوى، حيث تلتقي المادة بالعدم في لحظة إشتعال إبداعي، فيصبح الطلسم بمثابة توقيع العدم على ورقة الوجود. إن الساحر لا يخلق شيئاً من لا شيء، بل هو يُظهر اللاشيء في هيئة شيء، متلاعباً بالتضاد بين بساطة الفراغ وتعقيد الرمز المكتوب. يتضح أن الإبداع السحري هو التعبير المادي الأكثر إخلاصاً لفكرة العدم، لأنه الوحيد الذي يجرؤ على التعامل مع الغياب كقوة فاعلة. إن الطلسم السحري هو جسد للعدم، وهو الموضع الذي يتوقف فيه الواقع عن كونه منطقياً ليصبح ممكناً. من خلال بساطة الفراغ المحيط بالرمز، ومن خلال تعقيد الرمز الذي يهرب من التفسير، يتشكل وعي جمالي فريد يرى في العدم منبعاً للفيض الإبداعي. إن السحر بهذا المعنى هو فن ترويض العدم وتحويله إلى علامات مادية قادرة على تغيير وجه العالم، مما يجعل من الجمالية السحرية وجمالية العدم وجهين لعملة واحدة تبحث في سر الوجود عبر بوابات التلاشي والظهور.

_ الطلسم الجنائزي: الكارثة الكونية بوصفها السحر العكسي لإسترداد العدم

تتموضع فكرة الكارثة الكونية في المخيال السحري و الفلسفي بوصفها اللحظة التي يرتد فيها الإنبثاق إلى أصله، و هي ليست مجرد نهاية فيزيائية للوجود، بل هي فعل إسترداد وجودي يعيد كل ما تفرع وتعدد إلى وحدة العدم المطلق. فإذا كان السحر في نشأته الأولى هو فن إستخراج الكينونة من مكامن الغيب عبر الكلمة و الرمز، فإن الكارثة الكونية تُمثل السحر العكسي أو الطلسم النهائي الذي يمحو السطور ليعيد الصفحة بيضاء كما كانت. إنها لحظة العودة القسرية حيث تنهار البنية التراتبية للكون التي شيدتها الإرادة السحرية واللوغوس، لتذوب الفوارق بين المادة و الروح، وبين المعنى والعبث، في بوتقة الفراغ الأصيل. الفلسفة السحرية ترى في الوجود توتراً دائماً بين رغبة الشيء في البقاء ورغبة العدم في إحتواء كل شيء، و الكارثة هي اللحظة التي ينتصر فيها الصمت الكوني على ضجيج الكينونة، معلنةً أن الخلاء هو الحالة الطبيعية الوحيدة، وما الوجود إلا إستثناء سحري عابر. تتجلى العلاقة بين السحر والعدم في سياق الكارثة من خلال مفهوم إنحلال الرموز. إن الكون، وفق الرؤية السحرية، مشيد من شبكة معقدة من الرموز والطلاسم الكونية التي تربط النجوم بالأرض والأجساد بالأرواح. الكارثة الكونية هي اللحظة التي تفقد فيها هذه الرموز مغناطيسيتها الرابطة؛ فتبدأ العناصر بالتحلل والعودة إلى بساطة الفراغ الأول. هذا التحول ليس فوضى عشوائية، بل هو جمالية التلاشي في أسمى صورها. عندما تنهار الأشكال الهندسية للكون، فإنها لا تذهب إلى دمار مادي فحسب، بل هي تتحرر من عبىء الوجود لتستريح في العدم. إن الكارثة هي الفعل السحري الأكبر الذي ينهي غربة المادة ويعيدها إلى وطنها الأم؛ الفراغ الذي لا شكل له. هنا يلتقي السحر بالعدم في نقطة النهاية، حيث يصبح المحو هو القيمة الجمالية الوحيدة المتبقية، و تصبح بساطة العدم هي الرد النهائي على تعقيد الوجود الزائف. فلسفياً، يمكن إعتبار هذه العودة القسرية بمثابة تطهير كوني، حيث يعمل العدم كمغناطيس عملاق يجذب الشظايا المشتتة للوجود ليعيد صهرها في الوحدة الأولى. السحر في جوهره هو محاولة للسيطرة على العدم و توظيفه، لكن الكارثة الكونية تعلن فشل هذه السيطرة أمام جبروت الفراغ. إنها اللحظة التي يدرك فيها الساحر الكوني أن الطلاسم التي خطها على جدار الزمن ليست سوى سراب يتبدد أمام شمس العدم الساطعة. هذه العلاقة الجدلية تقترح أن العدم ليس خصماً للسحر، بل هو غايته السرية؛ فكل فعل سحري هو في الحقيقة توق للوصول إلى حافة العدم لإستمداد القوة، و الكارثة هي العناق الأخير الذي لا فكاك منه. إنها ليست موتاً بالمعنى البيولوجي، بل هي إنتقاء وجودي يختار الصفر كقيمة مطلقة، محولاً صخب الوجود إلى سكون أبدي يتسم بجمالية الفراغ المطلق. وعلى هذا النحو، تصبح الكارثة الكونية سحرياً هي الإكتمال الذي يلي النقصان. الوجود في تشتته هو حالة من النقص والحاجة، بينما العدم هو الإمتلاء باللاشيء، وهو الحالة التي لا تحتاج إلى سند. إن العودة القسرية إلى العدم هي اللحظة التي يستعيد فيها الفراغ كرامته المسلوبة من قبل المادة. وفي إطار جمالية العدم، تصبح الكارثة هي اللوحة النهائية التي تُرسم بمداد التلاشي، حيث تُمحى الخطوط والرموز والطلاسم لتكشف عن الحقيقة العارية؛ أن وراء كل سحر، وراء كل وجود، يكمن فراغ بسيط ومهيب هو أصل الحكاية ومنتهاها. إن الكارثة هي الصمت الذي يلحق اللحن الجميل، و هي الفراغ الذي يمنح للطلسم معناه قبل أن يبتلعه، مما يجعل من السحر و العدم ثنائية لا تنفصم، تتجلى في أبهى صورها الدرامية لحظة العودة الكبرى إلى حضن اللاوجود.

_ مكياج الهاوية: السحر بوصفه وهماً جمالياً لترويض رعب العدم

تطرح فرضية كون السحر وهماً ذاتياً إشكالية فلسفية تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد التشكيك في الظواهر الخارقة، لتعيد صياغة السحر بوصفه آلية دفاعية وجودية يخلقها العقل البشري لسد الفجوة المرعبة بين إدراكه المحدود وبين العدم اللامتناهي. في هذا الإطار، لا يعود السحر ممارسة خارجية للتأثير في المادة، بل يصبح لغة باطنية يخترعها الوعي لترجمة صمت العدم إلى أصوات ورموز قابلة للإحتمال. إن العقل البشري، بطبيعته التي تأبى الفراغ، يجد نفسه في مواجهة حتمية مع العدم حيث يتبدى الفراغ الوجودي، الموت، اللامعنى، وبدلاً من الإستسلام لهذا الخواء، يقوم بإسقاط شبكة من الطلاسم والتعاويذ على وجه العدم، محولاً إياه من هاوية سحيقة إلى ساحة لعب سحرية. هنا، يصبح السحر هو الوهم الضروري الذي يحول الرعب من التلاشي إلى طقس من التجلي، حيث يمنح الإنسان لنفسه وهماً بالسلطة على ما لا يمكن السيطرة عليه. إن العلاقة بين هذا الوهم الذاتي وجمالية العدم تكمن في أن السحر يعمل كمرشح جمالي للعدم؛ فالعدم في صورته الخام هو بساطة مطلقة لدرجة أنها قد تدمر الوعي الذي يحاول إستيعابها، لذا يقوم العقل بإبتكار السحر كقناع مزخرف يرتديه هذا العدم. الطلاسم والرموز السحرية، في جوهرها، ليست سوى محاولات بشرية لرسم الخواء؛ هي خطوط تحاول الإمساك بظل العدم وتأطيره داخل حدود العقل. الفلسفة هنا تفترض أن السحر هو فعل خلق وهمي يهدف إلى تأثيث العدم، فبدلاً من أن يرى الإنسان الفراغ كعدم مخيف، يراه كخفاء سحري مليء بالقوى والكيانات. هذا الوهم ليس تزييفاً للحقيقة بقدر ما هو إعادة إبتكار لها، حيث يصبح السحر هو الطريقة الوحيدة التي يمكن للعقل من خلالها أن يقيم علاقة مع العدم دون أن يذوب فيه. إنه فن البقاء على حافة الهاوية عبر بناء جسور من الخيال. علاوة على ذلك، يتجلى هذا الوهم الذاتي في كون السحر هو تجسيد مادي للرغبة في مواجهة العدم. فالعقل يرفض فكرة أن الوجود مجرد صدفة بيولوجية في محيط من الفراغ، فيخلق النظام السحري ليعطي للعالم معنى خفياً. هذا المعنى الخفي هو في الحقيقة صدى لصوت العقل وهو يهمس في أذن العدم. إن بساطة الفراغ تُستبدل بتعقيد الطقس، وصمت الكون يُستبدل بهسيس التعاويذ؛ وكل ذلك لكي يشعر الذات البشرية بأنها ليست وحيدة في مواجهة العدم. السحر بهذا المعنى هو المرآة التي يرى فيها العقل صورته المنعكسة على صفحة العدم، فيظن أن القوى التي يراها هي قوى كونية، بينما هي في الواقع طاقة خياله المحض. هذا التحليل يجعل من السحر والعدم ثنائية تنسج من الذات ومحيطها، حيث يكون السحر هو المحاولة اليائسة والجميلة في آن واحد لترويض العدم عبر ترميزه وتحويله إلى نص شعري أو طلسمي. بشكل عام؛ يمكن القول إن وصف السحر بالوهم الذاتي لا يقلل من شأنه، بل يرفعه إلى مرتبة الإبداع الأنطولوجي. فإذا كان العدم هو الحقيقة المطلقة الوحيدة، فإن السحر هو أسمى أنواع الكذب التي تمنح للعدم شكلاً وجمالية. إن جمالية العدم الممثلة ببساطة الفراغ هي الحقيقة التي يهرب منها السحر عبر جمالية الإمتلاء الكامنة في تعقيد الطلاسم. إن السحر هو الطريقة التي يحول بها العقل البشري الفقدان إلى إمكان، والعدم إلى منبع للقوة. إننا لا نمارس السحر لنغير العالم، بل لكي نقنع أنفسنا بأننا لسنا مجرد ذرات عابرة في فراغ لا ينتهي. السحر هو وهم السيطرة الذي يجعل الحياة في مواجهة العدم ممكنة، بل وجميلة أيضاً، حيث يصبح العدم بفضل هذا الوهم هو المسرح الكبير الذي نؤدي عليه أدوارنا السحرية قبل أن يُسدل الستار النهائي ونعود إلى الصمت الأصيل.

_ تسييل الوجود: الهلوسة السحرية كبوابة لرؤية شفافية العدم

يُمثل الإدراك المتغير للواقع، سواء تجلى في هيئة وجد سحري أو هلوسة تتجاوز الحواس، المحاولة الأنطولوجية الأكثر راديكالية لإختراق كثافة الوجود المادي وصولاً إلى شفافية العدم. في هذا الإطار الفلسفي، لا تُعتبر الهلوسة السحرية خطأً في المعالجة العقلية، بل هي توسيع للثقوب في نسيج الواقع؛ فالعقل عندما يتخلى عن القوانين الصارمة للمنطق الفيزيائي، يبدأ في رؤية ما وراء الأشكال. إن الوجود المادي يعمل كستار كثيف يحجب البساطة المطلقة للفراغ، والإدراك المتغير هو عملية تسييل للمادة؛ حيث تبدأ الجدران والأجساد والأشياء في فقدان صلابتها، لتكشف عن العدم الكامن في صلب ذراتها. هنا، يصبح السحر هو فن النظر من خلال الأشياء لا إليها، حيث يسعى الوعي المتغير إلى رصد تلك اللحظة الحرجة التي يلمس فيها الوجود حافة العدم، محولاً الهلوسة إلى أداة معرفية تسبر أغوار الخلاء الأصيل الذي يسبق تشكل الصور. إن العلاقة بين الإدراك المتغير و جمالية العدم تتجلى في مفهوم تحطم الهيكل؛ فالوعي السحري يدرك أن الواقع هو مجرد بناء إصطلاحي هش، وأن الحقيقة تكمن في الفراغات التي تفصل بين المدركات. عندما يختبر الساحر أو المتأمل حالة من الهلوسة، فإنه في الواقع يفكك طلاسم المادة ليعيدها إلى حالة الهيولي أو المادة الأولى التي تكاد تلامس العدم. هذه الحالة من الإدراك تمنح العدم حضوراً مرئياً؛ فالألوان المتراقصة والأنماط الهندسية التي تظهر في حالات الوجد السحري ليست سوى إهتزازات العدم وهو يحاول التجسد. إن بساطة الفراغ لا تظهر للعين المجردة، بل تتطلب عيناً مهلوسة قادرة على رؤية الفراغ الممتلئ بالإحتمالات. السحر هنا هو محاولة لرؤية العدم ليس كغياب، بل كأصل متوهج، حيث تصبح الرؤية المتغيرة هي المجهر الذي يكشف عن الفراغ الذي يسكن قلب كل مادة صلبة، محولاً العالم من كتلة صماء إلى شبكة من النور والظلال تطفو فوق بحر من العدم. علاوة على ذلك، يمثل الإدراك المتغير تحدياً لنهائية الوجود عبر إستدعاء العدم إلى ساحة الوعي. إننا في حالتنا العادية نعيش في وهم الإمتلاء، لكن الهلوسة السحرية تكشف لنا عن خفة الكينونة وعن كون الوجود مجرد قشرة رقيقة فوق عمق سحيق من اللاشيء. هذا النوع من الإدراك هو تعبير عن جمالية التلاشي؛ حيث تصبح الرؤية السحرية هي فعل المحو الإرادي للعالم من أجل ملامسة الجوهر. عندما يهلوس الساحر، فإنه لا يرى أشياءً غير موجودة، بل يرى عدم وجود الأشياء التي نعتبرها نحن ثابتة. هذا الإنزياح الإدراكي هو الجسر الذي يعبر عليه العقل ليفهم بساطة الفراغ؛ فالفراغ لا يمكن إدراكه إلا عندما ينهار الإمتلاء. لذا، فإن السحر هو التدريب على الرؤية العدمية، حيث يتعلم الوعي كيف يفكك الوجود مادةً مادة، ورمزاً رمزاً، حتى لا يتبقى سوى نور العدم الباهر الذي يبتلع كل الصور في وحدة بصرية وميتافيزيقية واحدة. يظهر أن الإدراك المتغير للواقع هو في جوهره حنين الوجود للعودة إلى العدم عبر بوابة الوعي. إن الهلوسة السحرية هي اللحظة التي يقرر فيها العقل أن يتوقف عن تصديق المادة لكي يبدأ في تذوق الفراغ. إنها رحلة من التعقيد الزائف للواقع إلى البساطة المطلقة للعدم، حيث يتم إستخدام الرمز والطلسم كمفاتيح لفتح أبواب الإدراك المغلقة. السحر والعدم، في هذه الحالة، يتداخلان لدرجة يصبح فيها الرائي هو نفسه المرئي؛ حيث تذوب الذات في الموضوع، و يذوب الوجود في العدم، وتصبح الهلوسة هي الحقيقة الوحيدة التي تعلن أن كل ما نراه هو مجرد زبد سحري يطفو فوق محيط من الصمت الخالد. إن رؤية العدم من خلال الوجود هي الغاية القصوى لكل معرفة سحرية، وهي اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان أن جمالية الفراغ هي في الحقيقة جمالية الوجود نفسه وقد تحرر من قيود المادة.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...


المزيد.....




- السعودية.. الشيخ السديس يعلق على إلقاء شخص لنفسه من صحن المط ...
- العاهل السعودي ومحمد بن سلمان يبعثان برقيتي عزاء بمقتل رئيس ...
- اليابان: إصابة 14 شخصًا في هجوم بسكين ومادة سائلة داخل مصنع ...
- حمص.. تفاصيل التفجير في مسجد الإمام علي بن أبي طالب في سوريا ...
- قتلى في انفجار بمسجد علوي في حمص وتنديد رسمي وعربي واسع
- عشرات بين قتيل وجريح في انفجار داخل مسجد في ثاني أكبر حاضنة ...
- ثمانية قتلى بتفجير داخل مسجد في حي ذي غالبية علوية بحمص و-سر ...
- الاحتلال يسيطر على 80% من غزة ويواصل الحصار ومنع المساعدات
- نتنياهو يعلن الاعتراف بجمهورية أرض الصومال
- الانتقالي الجنوبي يتحدث عن قصف سعودي بحضرموت ويؤكد التزامه ب ...


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ التَّاسِعَ عَشَرَ-