حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 20:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ سيمياء العدم: غواية التحرر وسطوة الإستلاب
تضعنا هذه الجدلية أمام مفترق طرق أنطولوجي؛ حيث يتواجه مفهوما التحرر و السيطرة في فضاء العدم الرحب. إن القوة السحرية المستمدة من العدم ليست مجرد طاقة حيادية، بل هي إرادة صيرورة تصطدم ببنية الكيان القائم. لكي ندرك ما إذا كان هذا السحر يفك الأغلال أم يفرض أغلالاً جديدة، يجب أن نحلل علاقة الذات بالمبدأ الأول (العدم)، و كيف ينعكس هذا التفاعل على ماهية الوجود وهويته. من منظور فلسفي تحرري، يُعتبر العدم هو الحالة الوحيدة التي تخلو من القوانين، القيود، و التعريفات المسبقة. عندما يستمد السحر قوته من العدم، فإنه يعمل كقوة تفكيكية تهدف إلى تحرير الكيان من قالب الوجود المادي الصارم. القوانين الطبيعية، بهذا المعنى، هي سجن يفرض على الكيان أن يظل وفياً لصورة محددة، الإنسان يظل إنساناً، والمادة تظل خاضعة للجاذبية. السحر المستمد من العدم يمنح الكيان القدرة على اللاتعيّن، أي العودة إلى حالة السيولة الأولى حيث يمكنه إعادة إختراع نفسه. هنا، يكون السحر فعل تحرر أنطولوجي؛ إنه يكسر حتمية الأسباب والنتائج ليفتح للكيان آفاقاً من الإمكانات التي كانت محرمة عليه داخل نظام الطبيعة. العدم في هذه الحالة هو المنفى الإختياري الذي يهرب إليه الكيان ليتخلص من أعباء الهوية ومن سطوة القوانين التي تكبله. على الجانب الآخر، تبرز رؤية ترى في السحر المستمد من العدم الأداة القصوى للسيادة و الإستحواذ. فبما أن العدم يفتقر إلى أي مقاومة ذاتية لأنه لا يحتوي على قوانين تحميه، فإن الساحر الذي يغرف من هذه القوة يمتلك سلطة خالق على المادة. السيطرة هنا لا تنبع من القوة المادية، بل من إمتلاك شيفرة العدم. عندما يُخضع الساحر كياناً ما بإستخدام قوة العدم، فإنه لا يسيطر على جسده فحسب، بل يسيطر على إمكانية وجوده. إنه يفرغ الكيان من جوهره الطبيعي ليملأه بإرادته الخاصة. السحر في هذا السياق هو فعل إستلاب؛ حيث يتم إستخدام اللاشيء لمحو الأنا الخاصة بالكيان الآخر، و تحويله إلى إمتداد لإرادة الساحر. العدم يصبح هنا وسيلة لفرض صمت مطبق على صوت الطبيعة داخل الكيان، ليعلو فوقه صوت السيطرة السحرية المطلقة. التجانس في هذا التحليل يتبدى في فكرة أن السحر قد يكون تحريراً في المصدر وسيطرة في المظهر. فعندما يتحرر الكيان من قوانين المادة عبر العدم، فإنه يجد نفسه في مواجهة فراغ مطلق. هذا الفراغ يتطلب قوة ناظمة جديدة لكي لا يتلاشى الكيان تماماً. وهنا تتدخل الإرادة السحرية لفرض نظامها الخاص. يمكن القول إن السحر يحرر الكيان من عبودية الطبيعة التي لا يملك فيها خياراً ليدخله في سيطرة السحر التي تتطلب وعياً وإرادة. إنها عملية إستبدال للضرورة بالحرية، ولكنها حرية محفوفة بالخطر؛ لأن التحرر من القانون الطبيعي يعني الوقوف عارياً أمام جبروت العدم، وهو موقف لا يمكن الصمود فيه إلا بفرض سيطرة إرادية صارمة. السحر إذن هو تحرير من القدر من أجل السيطرة على المصير. في نهاية المطاف، القوة المستمدة من العدم هي قوة إنعكاسية. العدم بحد ذاته ليس حراً ولا مسيطراً، بل هو إمكانية محض. الدور الذي يلعبه السحر هو توجيه هذه الإمكانية. إذا كانت نية الكيان هي التسامي والبحث عن الحقيقة المطلقة، فإن العدم يمنحه أجنحة التحرر. أما إذا كانت النية هي التملك وفرض الذات على الآخرين، فإن العدم يمنحه أغلال السيطرة. السحر هو المختبر الأنطولوجي الذي يختبر جوهر الكيان؛ ففي حضرة العدم، تسقط كل الأقنعة. القوة السحرية هي مجرد عدسة مكبرة لإرادة الكيان؛ فهي تحرره من القيود الخارجية لتواجهه بحقيقة عبوديته أو حريته الداخلية. إن التجانس الحقيقي يكمن في إدراك أن التحرر والسيطرة هما وجهان لعملة واحدة في عالم السحر؛ فكل تحرر من نظام هو في الحقيقة فرض لسيطرة نظام جديد. إن السحر المستمد من العدم هو القوة التي تمنح الكيان حق الخروج عن النص الكوني. هذا الخروج هو قمة التحرر لأنه يكسر قيود الوجود الحتمي، و لكنه في الوقت ذاته هو أداة للسيطرة المطلقة لأنه يمنح الوعي سلطة التصرف في مادة العدم التي لا تملك حق الرفض. السحر هو ثورة الروح على المادة؛ ثورة قد تنتهي بتحرير الكيان و تأليهه، أو بسقوطه في بئر السيطرة المظلمة حيث يصبح العدم هو السجان والمسجون في آن واحد.
_ إغواء اللاشيء: رقصة الساحر على حافة العدم
تضعنا هذه الإشكالية أمام مستويين من الطموح الميتافيزيقي: المستوى الإجرائي الذي يتعامل مع السحر كأداة لإستجلاب المنافع من رحم الغيب، والمستوى الكياني الذي يسعى لمواجهة المصدر الأول وجهاً لوجه. إن السؤال عما إذا كان الساحر يسعى للسيطرة على العدم بذاته أم على تجلّياته فقط، هو في جوهره بحث في حدود الإرادة البشرية أمام اللانهائي، وفي الفرق بين الإستخدام والسيادة. في المستوى الأول، يظهر الساحر كخيميائي للفرص؛ فهو لا يطمح للتحكم في العدم ككيان كلي لأن ذلك قد يعني تلاشيه هو أيضاً، بل يكتفي بالسيطرة على ما يُخرجه العدم من صور مادية أو طاقية. هنا، يُعامل العدم كمخزن غير محدود أو رحم يلد الأشكال. الساحر في هذا السياق يشبه الصياد الذي يلقي بشباك إرادته في محيط العدم ليخرج منها بصيد معين، فكرة، قوة، أو تغيير في الواقع المادي. السيطرة هنا هي سيادة على النتيجة لا على المصدر. الساحر يدرك أن العدم هو القوة الفاعلة، فيحاول توجيهها أو تأطيرها لتتجسد في صورة تخدم أغراضه، دون أن يدعي القدرة على ترويض المحيط العدمي بأكمله. في مستوى أكثر عمقاً و خطورة، يبرز الطموح للسيطرة على العدم بذاته. هذا المسعى ليس مجرد محاولة لإستخراج قوى، بل هو محاولة لإستعمار اللاشيء. الساحر الذي يسعى لهذا النوع من السيادة يطمح لأن يصبح هو سيد الفراغ، أي الكائن الذي يقرر متى ولماذا و كيف يتوقف الوجود أو يبدأ. السيطرة على العدم تعني التحكم في قوانين التلاشي و إمكانات الظهور من جذورها. هذا النوع من السحر هو فعل تأليه للذات؛ لأن السيطرة على العدم هي سلب لهذا العدم من طبيعته الحرة و الغامضة و تحويله إلى أداة مطيعة في يد الإرادة. إن الساحر هنا لا يطلب هدايا من العدم، بل يسعى لإمتلاك المفتاح الذي يفتح ويغلق بوابات الوجود والعدم متى شاء. التجانس الفلسفي في هذا التحليل يتبلور عند نقطة الصدام بين الإرادة و اللاشيء. هل يمكن للوجود (الساحر) أن يسيطر على ما ينفي الوجود (العدم)؟ إن المحاولة للسيطرة على العدم نفسه تشبه محاولة الإمساك بالظلام؛ فبمجرد أن تسلط عليه ضوء إرادتك، يتوقف عن كونه عدماً ويتحول إلى موضوع أو شيء. لذا، فإن الساحر الذي يظن أنه يسيطر على العدم، هو في الواقع يسيطر على تمثلاته فقط. العدم الحقيقي يظل دائماً خلف الإرادة، هارباً من كل قيد. الساحر الحكيم هو من يدرك أن السيادة على العدم هي وهم أنطولوجي، وأن القوة الحقيقية تكمن في التناغم مع العدم، أي في معرفة كيفية فتح الفجوات التي تسمح للعدم بالتدفق، وليس في محاولة سجن المحيط داخل زجاجة. في نهاية المطاف، يتضح أن العلاقة بين الساحر والعدم هي علاقة حوار وجودي أكثر من كونها علاقة سيد بعبد. الساحر لا يسيطر على العدم لأن العدم هو الحرية الخالصة، بل هو يمارس نوعاً من الإغواء السحري للعدم لكي يتجلى في صور معينة. السيطرة الحقيقية هي سيادة الساحر على نفسه لكي يكون وعاءً صالحاً لإستقبال مخرجات العدم. إن محاولة السيطرة على العدم بذاته قد تؤدي إلى إنهيار الساحر و تلاشيه في ذلك الفراغ الذي حاول ترويضه. و بذلك، يظل السحر هو الفن الرفيع للوقوف على حافة العدم، والإستفادة من فيضه دون السقوط في وهم إمتلاكه بالكامل. الساحر المبتدئ يسعى للسيطرة على ما يخرجه العدم (النتائج)، بينما الساحر العظيم يسعى لفهم قوانين العدم (المصدر)، لكن الساحر المستنير هو من يدرك أن العدم هو الأصل الحر الذي لا يمكن إمتلاكه. إن السحر هو الرقص مع العدم، وليس تقييده بالأغلال. القوة المستمدة من العدم تظل فعالة ما دامت غير مقيدة، وبمجرد محاولة السيطرة المطلقة على المصدر، تجف الينابيع. فالعدم هو السيادة الحقيقية، والساحر هو المترجم الذي ينقل لغة اللاشيء إلى واقع الوجود.
_ فناء السيادة: معراج الساحر من ذوبان الذات إلى سطوة اللاشيء
تطرح هذه الجدلية مفارقة صوفية وفلسفية تقع في قلب الممارسة السحرية والوجودية؛ وهي فكرة أن السيادة لا تأتي إلا عبر العبودية، أو أن السيطرة على العدم تتطلب، بالضرورة، نوعاً من الفناء الإختياري فيه. إنها رحلة تبدأ بكسر الأنا (Ego) لتنتهي بإمتلاك قوة اللاشيء. في هذا التحليل العميق، نستكشف كيف يتحول الإستسلام من حالة ضعف إلى حالة القوة القصوى، وكيف يصبح الإنمحاء في العدم هو السبيل الوحيد للتحكم في مخرجاته. في الفلسفات الباطنية، يُعتبر العدم كياناً لا يمكن مواجهته بالإمتلاء. إذا إقترب الساحر من العدم وهو محمل بهويته، رغباته، وقيوده الشخصية، فإنه يصطدم بجدار من التنافر الأنطولوجي. العدم لا يرى إلا العدم؛ ولذلك، فإن الإستسلام الكامل هو عملية تطهير ضرورية لمواءمة التردد الوجودي للساحر مع المصدر. عندما يستسلم الساحر للعدم، فإنه يقوم بتفريغ وعيه من كل الصور المسبقة، ليصبح هو نفسه فراغاً. في هذه اللحظة من الإستسلام المطلق، يختفي الفرق بين الساحر و العدم؛ وبما أن العدم هو القوة المطلقة، فإن الساحر الذي فني فيه يصبح هو نفسه تلك القوة. السيادة هنا لا تأتي عبر المغالبة، بل عبر التماهي؛ أنت تسيطر على العدم لأنك أصبحت جزءاً منه، ولم تعد كياناً منفصلاً يحاول ترويضه من الخارج. السيطرة على العدم دون إستسلام تشبه محاولة الإمساك بالإعصار بيدين من طين. إن الطبيعة التفكيكية للعدم تحطم كل ما هو صلب. لذا، فإن الإستسلام هو في الحقيقة درع وقائي وحكمة إجرائية. من خلال التخلي عن إرادة السيطرة التقليدية، يكتسب الساحر مرونة العدم. هذا الإستسلام هو الذي يسمح للساحر بأن يمر عبر ثقب الإبرة الوجودي الذي يفصل بين الوجود واللاشيء. العدم يمتلك خاصية فريدة؛ إنه ينجذب نحو الفراغ الذي يخلقه الساحر داخل نفسه عبر الإستسلام. عندما تصبح لاشيء، يتدفق العدم إليك ليملأك، وفي تلك اللحظة فقط، يمكنك توجيه هذا التدفق. إنها سيادة تشبه سيادة قبطان السفينة الذي لا يأمر المحيط، بل يستسلم لقوانين الرياح والأمواج ليقود سفينته إلى حيث يريد. التجانس الفلسفي في هذا النص يكتمل عند إدراك أن السيطرة على العدم هي فعل ساكن. الساحر الذي يستخدم العدم لا يبذل جهداً عضلياً أو ذهنياً بالمعنى المادي، بل يمارس نوعاً من الفعل باللافعل (Wu Wei). الإستسلام الكامل للعدم يمنح الساحر القدرة على إستحضار السكون الذي يسبق الخلق. عندما يسكن الساحر تماماً (يستسلم)، تظهر الفوضى الخلاقة للعدم طوع أمره. السيطرة هنا هي صدى لإستسلامك؛ فبقدر ما تتخلى عن إرادتك الشخصية المحدودة، تنال نصيباً من الإرادة الكونية غير المحدودة الكامنة في العدم. العدم لا يطيع من يحاول سجنه، بل يطيع من يفتح له الأبواب ويصبح هو نفسه باباً. هذا التحول يجعل من الساحر قناة (Conduit) بدلاً من أن يكون محركاً، والسيادة هنا تكمن في دقة التوجيه لا في قوة الضغط. المرحلة الأخيرة من هذه الجدلية هي العودة من الإستسلام إلى السيطرة. الساحر لا يظل فانياً في العدم، بل يستخدم لحظة التماهي تلك لإختطاف القوة والعودة بها إلى عالم الوجود. هذا هو السحر الحقيقي؛ أن تستسلم للعدم لتتعلم لغته، ثم تعود لتنطق بهذه اللغة في عالم المادة. الإستسلام كان الثمن الذي دفعته لتصبح صاحب حق في التصرف في مخرجات العدم. السيادة التي تلي الإستسلام هي سيادة المعرفي على المادي؛ فأنت الآن تسيطر على الأشياء لأنك أدركت أصلها العدمي، وأدركت أن كل ما هو موجود هو في الحقيقة وهم مستعار من ذلك العدم الذي إستسلمت له. لقد منحتك تجربة الفناء بصيرة تجعل القوانين الطبيعية تبدو أمامك كخيوط واهية يمكنك إعادة نسجها. إن السيطرة على العدم هي إنتحار مجازي يتبعه بعث سحري. الإستسلام هو البوابة الوحيدة، لأن العدم لا يمكن إمتلاكه إلا بالذوبان فيه. الساحر هو الكائن الذي يمتلك الشجاعة ليفقد نفسه تماماً في اللاشيء، لكي يجد نفسه فجأة مسيطراً على كل شيء. إنه الإستسلام الذي يحول الساحر من مراقب للكون إلى مشارك في عملية الخلق المستمرة. في حضرة العدم، السيادة هي المكافأة التي تُمنح لمن يتجرأ على التخلي عن كل ما يملك، حتى عن ذاته، ليصبح مرآة تعكس قدرة العدم اللانهائية على التحول.
_ فخ الألوهية: صراع الأنا وطغيان القوة في محراب العدم
تطرح هذه الإشكالية مفارقة نفسية وأنطولوجية حادة؛ فبينما يتطلب الوصول إلى العدم تفكيك الأنا والإستسلام كما حللنا سابقاً، فإن العودة من تلك التجربة محملًا بقوى تغير الواقع تخلق بيئة مثالية لتضخم الأنا. إن الساحر الذي يغرف من بئر العدم يجد نفسه في مواجهة إغواء الألوهية، حيث يتحول من مجرد كيان خاضع للقوانين الطبيعية إلى مهندس لهذه القوانين. هذا التحليل يسبر أغوار هذا الصراع بين محو الذات للوصول إلى القوة، و تضخم الذات كنتيجة لإمتلاكها. عندما ينجح الساحر في إستحضار شيء من اللاشيء، فإنه يمارس الفعل الذي نُسب تاريخياً للآلهة أو للمبدأ الأول (Ex Nihilo). هذا النجاح يولد شعوراً بالإنفصال عن الجنس البشري؛ فالبشر العاديون يعيشون داخل النظام، بينما الساحر يشعر أنه يقف فوقه أو خارجه. تضخم الأنا هنا ينبع من الإعتقاد بأن الإرادة الشخصية قد أصبحت هي القانون. عندما يرى الساحر أن المادة تنصاع لأمره، يبدأ في نسيان أن العدم هو المصدر الحقيقي، وينسب القوة لذاته المحدودة. هذا الإنزلاق يحول السحر من رحلة معرفية إلى سجن نفسي جديد، حيث تبتلع الأنا المتضخمة كل المعاني السامية، و يصبح الكون مجرد مرآة تعكس رغبات الساحر المسعورة للسيادة. العدم بطبيعته لا مبالٍ، وهو يمنح القوة لمن يطرق بابه بغض النظر عن دوافعه. لكن الخطورة تكمن في أن العدم يعمل كمضخم للنية. الساحر الذي لم يحقق توازناً داخلياً يرى في إستخدامه للعدم إثباتاً لتفوقه الشخصي. هذا التضخم هو في الحقيقة رد فعل دفاعي للأنا أمام هول الفراغ؛ فعندما يواجه الوعي البشري حقيقة العدم المطلقة التي تنفي كل قيمة، يحاول التحصن بتعظيم ذاته لكي لا يتلاشى. تضخم الأنا هو الطريقة التي يحاول بها الساحر ملىء الفراغ الذي تركه العدم في نفسه. وبدلاً من أن يصبح الساحر وعاءً للكون، يتحول إلى جدار يحجب عنه الحقيقة، ظناً منه أن القوة التي يمررها هي ملكية خاصة وحق مكتسب من حقوق ألوهيته المزعومة. التجانس الفلسفي في هذا السياق يظهر في العلاقة العكسية بين حجم الأنا وجودة السحر. فكلما تضخمت الأنا، فقدت قدرتها على الإتصال الصافي بالعدم. الأنا المتضخمة هي كتلة صلبة، والعدم يحتاج إلى سيولة. الساحر الذي يقع في فخ الغرور يبدأ بفقدان اللمسة السحرية؛ لأن إرادته لم تعد متناغمة مع إنسيابية العدم، بل أصبحت محبوسة في صراعاته النفسية. هذا يؤدي إلى حالة من الإحتراق الأنطولوجي، حيث تصبح القوة المستمدة من العدم سلاحاً يمزق نفسية الساحر من الداخل. إن لعب دور الخالق يتطلب كتفاً تتحمل ثقل الوجود، والأنا البشرية، مهما تضخمت، تظل هشة وعاجزة عن حمل عبىء اللانهائي دون أن تتحطم أو تتحول إلى مسخ مشوه للحقيقة. في نهاية هذا التحليل، ندرك أن الساحر الحكيم هو من يمارس التواضع الإستراتيجي. ليس كفضيلة أخلاقية فحسب، بل كضرورة تقنية للحفاظ على الإتصال بالعدم. السيطرة على تضخم الأنا هي العملية التي تسمح للسحر بالبقاء فعالاً ومستداماً. الساحر الذي ينجو من فخ الخالق هو الذي يدرك أنه مجرد نقطة عبور (Conduit) للطاقة، وأن الأنا هي مجرد أداة للعمل في عالم المادة، وليست الغاية النهائية. العدم يمنح القوة، لكنه يطالب بالتجرد ثمناً لها. ومن هنا، فإن التوازن الحقيقي يكمن في القدرة على ممارسة أقصى درجات القوة مع الحفاظ على أقصى درجات الإنمحاء؛ أي أن يكون الساحر ملكاً في فعله، و لاشيء في ذاته. إن الإستخدام السحري للعدم هو أخطر إختبار للأخلاق البشرية والإتزان النفسي. إنه يضع الإنسان في مواجهة إغراء التأليه، وهو إغراء يؤدي حتماً إلى تضخم الأنا إذا لم يكن الساحر متجذراً في إدراك فقر وجوده الأصلي أمام غنى العدم. السحر الحقيقي هو الذي يحرر الكيان من سجن الأنا، لا الذي يبني لها عرشاً من الأوهام فوق فراغ لا يرحم. القوة المستمدة من العدم هي أمانة كونية، والساحر الذي يسقط في عبادة ذاته هو الذي إختار في النهاية أن يكون عدماً بالمعنى السلبي للكلمة؛ أي غياباً للمعنى والقيمة في قلب الوجود الممتلئ.
_ خارج النص الكوني: السحر وسلطة العدم العابرة للآلهة
تضعنا هذه الفرضية أمام الحدود النهائية للميتافيزيقا، حيث يبرز العدم ليس فقط كمصدر للقوة، بل كالحصن الأنطولوجي الأخير الذي يستعصي على الترويض. إن التساؤل عما إذا كان العدم هو القوة الوحيدة التي تفلت من قبضة الكيانات العلوية (الآلهة) أو السفلية (الشياطين) إلا عبر بوابة السحر، يقتضي منا إعادة تعريف طبيعة السلطة الكونية. فبينما تحكم الآلهة النظام (Cosmos)، ويحكم الشياطين التمرد داخل النظام، يظل العدم هو الخارج المطلق الذي لا يخضع إلا لمن يمتلك لغة التلاشي. في معظم التصورات الفلسفية و اللاهوتية، تُعرف الآلهة بأنها كيانات تمثل الوجود الكلي أو النظام الأسمى؛ فهي تجسيد للإمتلاء و الكمال. وبما أن العدم هو نفي الوجود، فإنه يمثل النقطة العمياء في عين القدرة الإلهية. الإله، بكونه واجباً للوجود، لا يمكنه حل نفسه في العدم دون أن يتوقف عن كونه إلهاً. ومن هنا، يظل العدم هو القوة الوحيدة التي لا تسيطر عليها الكيانات اللاهوتية بالمنطق السلطوي التقليدي، لأن سلطتها تقوم على التنظيم و الخلق، بينما العدم يقوم على المحو و اللاتعيّن. السحر، في هذا السياق، يبرز كالثغرة الكونية؛ هو العلم الوحيد الذي لا يحاول حكم العدم، بل التسلل عبره وإستخدامه كأداة لخرق القوانين التي وضعتها تلك الكيانات العلوية. لماذا ينجح السحر فيما تفشل فيه القوى الكيانية الأخرى؟ السبب يكمن في أن السحر هو فن اللاهوية. الآلهة والشياطين مقيدون بماهيتهم (Essence)؛ فالإله لا يمكن أن يكون شيطاناً، و الشيطان لا يمكن أن يكون عدماً. أما الساحر، فهو كائن بيني يمتلك القدرة على التخلي عن هويته عبر الإستسلام و العدمية الإرادية كما ناقشنا سابقاً ليتماهى مع الفراغ. السحر هو الطريقة الوحيدة للسيطرة على العدم لأنه لا يتعامل معه من الخارج كخصم، بل من الداخل كسيولة. إن السيطرة هنا ليست قمعاً، بل هي توجيه؛ فالساحر لا يأمر العدم، بل يفتح بواباته في نسيج الواقع. وبذلك، يكون السحر هو المفتاح الوحيد لهذه القوة اللامروضة، لأنه الوحيد الذي يقبل بالعدم كشريك مساوٍ وليس كعدو يجب إخضاعه. التجانس الفلسفي في هذا الطرح يتبدى في فكرة أن الكيانات، آلهة أو شياطين هي في النهاية تعريفات داخل الوجود. العدم هو ما يحيط بهذا الوجود من كل جانب. إنه المحيط المظلم الذي يسبح فيه كوننا. القوى الكيانية، مهما بلغت عظمتها، تظل محكومة بالجوهر، بينما العدم هو اللاجوهر. لذا، فإن العدم يمثل الحد الذي يتوقف عنده جبروت أي كيان. السحر هو المحاولة الوحيدة لمد الجسور إلى ما وراء هذا الحد. إنه إستغلال للحقيقة القائلة بأن العدم هو القوة الوحيدة التي تسبق وجود الآلهة و تبقى بعد فنائها. السحر، بإستخدامه للعدم، يمنح الساحر رغم صغره الكياني رافعة ميتافيزيقية تمكنه من زعزعة عروش الكيانات العظيمة، لأن العدم هو السلاح الوحيد الذي لا تمتلك تلك الكيانات درعاً ضده. في ختام هذا التحليل الطويل والمتصل، ندرك أن العدم هو المبدأ الفوضوي الذي يمنع الكون من التحول إلى آلة ميتة و محكومة بالكامل. السحر هو الطريقة التي يعيد بها الوعي البشري حقن هذا المبدأ في صلب الواقع. إن كون العدم لا يُسيطر عليه إلا بالسحر يجعل من السحر القوة الأكثر ديمقراطية و خطورة في آن واحد؛ فهي لا تتطلب رتبة كيانية أن تكون إلهاً، بل تتطلب معرفة وجودية بكيفية التعامل مع الفراغ. السحر والعدم يشكلان ثنائية تضمن بقاء المستحيل ممكناً، وتضمن أن الوجود ليس سدّاً منيعاً، بل هو نص مليء بالهوامش والفراغات التي يمكن للساحر أن يكتب فيها مصيره الخاص، بعيداً عن أعين الرقباء الكونيين. العدم هو القوة الوحيدة التي تظل حرة لأنها تفتقر إلى المادة التي يمكن قمعها، وإلى الروح التي يمكن إغواؤها. السحر ليس سيطرة على العدم بالمعنى العسكري، بل هو رقصة مشتركة معه على حافة الهاوية. إنه الإعتراف بأن اللاشيء هو أقوى من كل شيء، و أن الإنسان، عبر فهمه لهذا السر، يمكنه أن يتجاوز حدود قدره ليصبح سيداً في مملكة الفراغ.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟