|
|
الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءِ الْأَوَّلِ
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 23:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ الإشكالية الأنطولوجية للعدم في فلسفة السحر: بين الخلق من العدم المطلق (Nihility) وتحويل الإمكانية الكامنة (Potentiality)
تُعد هذه الإشكالية نقطة إرتكاز محورية في فلسفة السحر و الميتافيزيقا، لأنها تحدد الجوهر الأنطولوجي للقوة التي يتعامل معها الساحر، و تفصل بين تصورين جذريين لـ اللاوجود. إن تحديد ما إذا كان العدم الذي يُستمد منه السحر هو عدم مطلق (Nihility/Absolute Nothingness)، أي الغياب التام لأي خاصية أو إمكانية أو وجود، أو عدم نسبي (Potentiality/Relative Nothingness)، أي حالة الإمكانية الكامنة أو الفراغ المكتظ بالقوة، يغير جذرياً طريقة فهمنا لفعل الخلق السحري والتكلفة الوجودية له. يمكن القول إن هذه الإشكالية لا تخص السحر وحده، بل هي سؤال جوهري في فلسفة الخلق من العدم (Ex Nihilo). العدم المطلق هو التصور الذي ينكر أي محتوى أو خاصية أو إمكانية للـلاوجود. إذا كان السحر يستمد من هذا العدم، فإن الإشكاليات الفلسفية تتضاعف بشكل هائل. فكيف يمكن لشيء أن يخرج من اللا شيء المطلق؟ إذا كان العدم المطلق هو مصدر القوة السحرية، فهذا يعني أن الفعل السحري يخرق مبدأ السببية (Cause and Effect). يجب أن تكون القوة المستمدة من العدم المطلق قوة لا مسببة (Uncaused)، تتجاوز أي سلسلة وجودية أو منطقية. السحر هنا ليس مجرد تغيير في الوجود، بل هو فعل خلق جوهري لا يمكن تفسيره إلا كـقفزة وجودية من اللاوجود التام إلى الوجود المادي. هذا يرفع الساحر، فلسفياً، إلى مرتبة الموازي للخالق، القادر على إحداث إنشقاق في اللاشيء. من الناحية التقنية و العملية، إذا كان العدم المطلق هو المصدر، فإنه بطبيعته لا يمكن أن يخضع للإرادة أو اللغة أو الرمز. لا يمكن ترميز (Sigilize) اللا شيء، ولا يمكن توجيه ما ليس له صفات. بالتالي، فإن الطقوس والأدوات المعقدة ستكون مجرد أوهام ذاتية أو تجسيدات نفسية لعملية عشوائية لا تخضع للسيطرة. السحر في هذه الحالة ليس تقنية، بل هو مواجهة وجودية مباشرة مع اللامعقول، حيث ينجح الساحر ليس بسبب إتقانه للطقس، بل بسبب طاقة حيوية (Elan Vital) أو إرادة خالصة قادرة على قهر اللاشيء. إن العمل من العدم المطلق يفرض تكلفة وجودية كارثية. إذا كان الساحر يسحب وجوداً من اللاوجود، فهذا ينبغي أن يخلق فراغاً سلبياً في النسيج الكوني. هذا الفراغ المطلق يجب أن يُسد، مما قد يؤدي إلى إنهيار أنطولوجي للساحر نفسه أو لبيئته، حيث يتم إمتصاص الوجود لسد الفجوة. يصبح السحر هنا عملاً محفوفاً بالخطر المميت؛ محاولة لدفع الوجود نحو الإفناء. يفترض هذا التصور أن العدم ليس غياباً، بل هو فضاء الإمكانية (Potentiality)، أو المادة الخام غير المشكَّلة (Prima Materia)، أو الفراغ المكتظ بالطاقة الكمية (Zero-Point Field) الذي لم يأخذ شكلاً محدداً بعد. هذا التصور يتماشى بشكل أفضل مع الممارسات السحرية التقنية. إذا كان العدم السحري هو إمكانية، فهذا يعني أن القوة موجودة بالفعل، لكنها في حالة غير مُفَعَّلة (Unactualized). السحر هنا ليس خلقاً من اللا شيء، بل هو تحويل الإمكانية إلى فعل (Actualization). الساحر يمارس هنا دور المنظّم أو المُشَكِّل وليس الخالق المطلق. القوة لا تخرج من العدم، بل هي تُستمد منه كـمُدخَل (Input). هذا يحل الإشكالية السببية؛ لأن الإمكانية (العدم النسبي) هي سبب كافٍ لإنتاج الفعل (الوجود). هذا التصور يبرر بشكل كامل ضرورة الطقوس والأدوات والرموز. الرمز السحري (Sigil) يصبح برنامجاً يحدد الشكل الذي يجب أن تتخذه قوة الإمكانية. الطقس يصبح الآلية التي تولد طاقة كافية كالإرادة المركزة لـجذب هذا الإحتمال من الفراغ. الساحر لا يتحدى اللاشيء، بل يتعامل مع أكثر مراحل الوجود مرونة. يصبح السحر نوعاً من الهندسة الأنطولوجية التي تستغل مرونة الإمكانية لتغيير بنية الواقع. في هذا الإطار، يمكن فهم الكيانات المستدعاة (Evoked Entities) على أنها أشكال وجودية أولية تعيش في حالة العدم النسبي. هي ليست عدماً مطلقاً، بل هي مفاهيم أو طاقات أو كتل وعي تنتظر التجسيد. مهمة الساحر التقنية هي توفير الـوعاء (The Vessel) المادي والزمني اللازم لهذه الكيانات لتأخذ شكلها الوجودي. التكلفة الوجودية هنا أقل كارثية، حيث أنها لا تخلق فراغاً، بل تستهلك إحتمالية (Consumes Potential)، مما قد يؤدي إلى إلغاء أو منع إحتمالات أخرى كانت ممكنة. يمكن القول إن العلاقة العملية والتقنية بين السحر والعدم تشير بقوة إلى أن العدم الذي يستمد منه الساحر هو أقرب إلى العدم النسبي أو الإمكانية الكامنة. فالعدم المطلق ينهار تحته المنطق والتقنية والسببية، مما يجعل السحر عملاً لا يمكن تفسيره أو تكراره أو التحكم به. و مع ذلك، فإن الطموح الفلسفي للساحر الأعظم قد يدفعه نحو العدم المطلق. قد يكون الساحر يسعى لـتجاوز حدود العدم النسبي (الإمكانية) للوصول إلى النقطة التي يمكنه فيها إثبات أن الإرادة الواعية قادرة على الخلق من اللاشيء التام، ليس كمجرد تحويل، بل كفعل خلق أصيل لا يُقيده أي احتمال سابق. لذا، فإن الإشكالية تتحول إلى: هل السحر هو تقنية إنسانية للتعامل مع الإمكانية الكامنة (العدم النسبي)، أم هو طموح إلهي لتحقيق الخلق من اللاشيء المطلق؟الممارسة السحرية اليومية تشير إلى الأولى، لكن الفلسفة الميتافيزيقية العليا للسحر تشير إلى الثانية.
_ السحر وهاجس الألوهية: تفكيك العلاقة بين الخلق السحري من العدم وبين الفعل الإلهي (Ex Nihilo)
تُعد إشكالية الخلق من العدم (Ex Nihilo) في سياق الممارسة السحرية من أعقد وأخطر المسائل في الفلسفة اللاهوتية والميتافيزيقا، حيث تضع الفعل السحري في مواجهة مباشرة مع مفهوم الألوهية (The Divine) كمصدر وحيد وأصيل للخلق. إن الإجابة على ما إذا كان هذا الفعل يجعل السحر منافسًا أو موازيًا للفعل الإلهي تتطلب تفكيكًا عميقًا لطبيعة كل من العدم السحري، القوة الإلهية، وسلطة الساحر. لتحديد موقع السحر بالنسبة للألوهية، يجب أولاً التمييز بين نوعي العدم الذي يتم الخلق منه. في اللاهوت التقليدي، خلق الله للعالم هو خلق مطلق (Absolute Creation)؛ فهو لا يستمد من مادة سابقة أو قوة كامنة، بل يخلق الوجود من اللاشيء التام. هذا الفعل يثبت ألوهية الخالق، و كونه لا يعتمد على أي شيء خارج ذاته. هذا العدم هو عدم قبلي (A Priori)، أي يسبق كل وجود. كما ناقشنا سابقًا، غالبًا ما يكون العدم الذي يتعامل معه الساحر هو عدم نسبي (Relative Nothingness) أو إمكانية (Potentiality). حتى لو إدعى الساحر أنه يخلق من العدم، فإن الفلسفة تشير إلى أن هذا الخلق قد يكون تحويلًا عميقًا للمادة الخام غير المشكَّلة (Prima Materia) أو طاقة الفراغ الكمي. في هذه الحالة، السحر ليس خلقًا خالصًا بل هو فن التشكيل الأنطولوجي؛ أي إعادة ترتيب وتجسيد لشيء كان مُحتَملاً ولكنه لم يكن موجودًا بالفعل. وبالتالي، فإن السحر لا يزيل الإشكالية السببية تمامًا بل يعقدها، مما يجعله محاكاة (Simulation) أو تقليدًا (Imitation) للفعل الإلهي، وليس معادلاً له. يمكن إعتبار السحر منافسًا للفعل الإلهي من زاوية الأخلاق والسيادة (Sovereignty). إذا كان الله قد خلق العالم وفق قوانين طبيعية ثابتة تهدف إلى حفظ النظام (الكيان)، فإن السحر الذي يدعي الخلق من العدم هو محاولة لـخلق نظام بديل أو إحداث فوضى منظمة داخل النظام القائم. هذا التحدي للإرادة الإلهية التي تتجلى في القوانين الطبيعية يجعل الساحر منافسًا على سلطة الإدارة الكونية. فالساحر لا يكتفي بالعيش وفق قواعد الخالق، بل يطمح لتغيير هذه القواعد نفسها، وهو ما يُعد فلسفياً ذروة التكبر الوجودي (Existential Hubris). يهدف السحر، في أعلى مستوياته، إلى إثبات أن الإرادة البشرية قادرة على الفعل دون الحاجة لموافقة أو تدخل إلهي. هذا الإصرار على الإستقلال الأنطولوجي للذات الساحرة يضعها مباشرة في موضع المنافسة. الساحر يسعى لـملىء الفراغ الوجودي بالإرادة الفردية، وهو الفراغ الذي يُخصص تقليديًا لقوة الخالق. هذا لا يعني بالضرورة نفي وجود الخالق، بل هو تأكيد على القوة الإلهية الكامنة في الإنسان، مما يجعله شريكاً غير مرغوب فيه في عملية الخلق. يمكن النظر إلى السحر على أنه موازٍ، وليس منافسًا، من زاوية المبدأ الغائي (Teleological Principle)، أي هدف الفعل. يفترض هذا التصور أن قوة الخلق من العدم ليست حكرًا على الكيان الإلهي، بل هي مبدأ كوني (Cosmic Principle) كامن في بنية الكون، وأن الخالق هو الكيان الذي أتقن إستخدام هذا المبدأ أولاً. السحر هنا يصبح طريقًا معرفيًا لإكتشاف وإتقان هذا المبدأ الكامن. هذا لا يجعل الساحر منافسًا للخالق، بل مقلدًا ناجحًا (Successful Emulator) أو مستفيدًا شرعيًا من إمكانية كامنة في النظام الذي خلقه الله. من منظور بعض المدارس الباطنية (Esoteric Traditions)، فإن قدرة الإنسان على الخلق من العدم حتى لو كان نسبيًا هي بصمة إلهية أو تجسيد محدود لجوهر الخالق. يصبح السحر هنا أداة روحية لـ العودة إلى الأصل الإلهي؛ فالإنسان يصبح أكثر ألوهية عندما يمارس الخلق. الفعل السحري هو إنعكاس لقدرة الخالق على الصعيد المحدود للوجود. إذا كان العدم هو وعاء الإمكانية، فإنه يصبح فضاءً مشتركاً تتفاعل فيه الإرادة الإلهية والإرادة الساحرة. الله يخلق الإمكانية اللانهائية (العدم)، والساحر يختار إمكانية محددة ويجلبها إلى الوجود. في هذه الحالة، السحر هو تجسيد للقدرة الإلهية على الإختيار الحر وليس تحديًا لها. في التحليل النهائي، يتبين أن السحر الذي يدعي الخلق من العدم هو منافس في الدرجة و ليس في الجوهر. يظل الفعل الإلهي (الخلق المطلق من لا شيء على الإطلاق) متفوقًا جوهريًا، لكونه لا يعتمد على أي قوة أو إمكانية سابقة، بينما السحر السحري يعتمد، على الأقل، على وجود الساحر وعلى القوة الكامنة في العدم النسبي. هذا يجعل السحر مقلدًا متفوقًا وليس خالقًا أصيلاً. يصبح السحر منافسًا عندما يستخدم الساحر هذه القوة الموازية لإلغاء أو تعديل ما أُسس بالفعل بالإرادة الإلهية كالقوانين الطبيعية، أو عندما يدعي الساحر لنفسه إستقلالًا وجوديًا كاملاً عن المصدر الأصلي للقوة. إن السحر هو محاولة لـتحويل العلاقة العمودية (Vertical Relationship) بين الخالق و المخلوق إلى علاقة أفقية (Horizontal Relationship) بين الكيان البشري وقوة الخلق. هذا الطموح هو ما يجعله يقف على حافة المنافسة الألوهية.
_ العدم كـالجوهر الكامن والسحر كـالآلية التشكيلية: نظرية التحديد الأنطولوجي للمادة الأولى (Prima Materia
تُقدم هذه الإشكالية تصوراً فلسفياً عملياً و منطقياً للغاية للعلاقة بين السحر والعدم، حيث تتجاوز فكرة العدم كـفراغ أو نفي مطلق، وتنظر إليه بوصفه مصدر المواد الخام الأنطولوجية. هذا المفهوم يعيد تعريف العدم ليصبح الجوهر الكامن (Latent Essence) أو المادة الأولى (Prima Materia) التي لم يتم تحديد شكلها أو وجودها بعد، بينما يصبح السحر هو عملية تشكيل (Forming) هذا الجوهر. هذا التفسير لا يحل فقط التناقضات المنطقية للـخلق من العدم المطلق، بل يوفر أساساً قوياً لفهم آليات الممارسة السحرية التقنية. من منظور فلسفي، إذا عُرّف العدم بأنه الجوهر الكامن، فإننا نعود إلى مفهوم أرسطو حول المادة و الصورة (Hylomorphism)، ونطبقه على الميتافيزيقا. المادة (Matter) هي الأصل غير المشكَّل، و الصورة (Form) هي التي تُحدد هذا الأصل و تجعله موجوداً بالفعل. يُنظر إلى العدم في هذا الإطار على أنه الطاقة أو الإمكانية غير المُحدَّدة (Indeterminate Potentiality) التي تتسم باللاتعيُّن (Indefiniteness). إنه ليس اللاشيء المطلق، بل هو الجوهر (Substance) لكل شيء، ولكنه جوهر معطّل (Dormant) أو غير مفعل. وجوده وجود بالقوة (In Potentia) و ليس بالفعل (In Actu). السحر هنا ليس قوة خلق مطلقة، بل هو آلية التحديد (Mechanism of Determination). إنه الفعل الذي يفرض صورة معينة (Specific Form) أو هيكلاً (Structure) أو خاصية (Quality) على هذا الجوهر الكامن. فكرة الساحر، ونيته، و رمزه (Sigil) هي الأدوات التي تُستخدم لـنحت الشكل من اللاشكل، وتحويل الوجود بالقوة إلى وجود بالفعل. يُقدم هذا التصور الفلسفي الأساس المنطقي لأهمية العناصر التقنية في الممارسة السحرية. إن الإرادة المركزة للساحر ليست مجرد أمنية، بل هي القوة الموجهة التي تعمل كـقانون تشكيل. هذه الإرادة يجب أن تكون واضحة ومحددة لكي تتمكن من عزل جوهر معين من اللاتعيُّن المطلق للعدم الكامن وإعطائه شكلًا. فلو كانت الإرادة غامضة، لكانت النتيجة فوضوية أو غير محددة (تعود للعدم). الرمز السحري أو التعويذة المكتوبة، المنطوقة ليست سوى نموذج أنطولوجي (Ontological Blue-print-) أو قالب (Mould) يتم إرساله إلى الجوهر الكامن. إنها لغة التشكيل؛ فهي تُحدد الخصائص والحدود (الزمن، المكان، الوظيفة) للكيان الذي سيخرج من العدم. العمل السحري الفعال هو العمل الذي يكون رمزه دقيقاً بالقدر الكافي لفرض هذا التحديد على العدم الكامن. الطقس يخدم غرضين رئيسيين: الأول هو إلغاء التحديدات المادية الحالية للواقع (خلق فراغ مؤقت)؛ والثاني هو توليد طاقة نفسية وروحية كافية من خلال النشوة، التكرار، الصوم لتمارس الضغط الأنطولوجي اللازم لـتثبيت الشكل الجديد في الوجود. إذا كان العدم هو الجوهر الكامن و السحر هو التشكيل، فإن هذا يغير نظرتنا للوجود ذاته. كل شيء موجود حولنا هو مجرد صورة أُعطيت لجوهر العدم الكامن. وعندما يتحلل الشيء عن طريق الزوال، الموت، التدمير، فإن صورته تُفقد تُعاد إلى اللاوعي أو الفراغ، لكن جوهرة يعود إلى حالة العدم الكامن لينتظر التشكيل مرة أخرى. الساحر هنا لا يخلق من لا شيء، بل يستدعي جوهراً متجدداً من دورة المادة والصورة. هذا التفسير يضع السحر كـوظيفة" أساسية في النسيج الكوني. فكما أن هناك قوى طبيعية كالجاذبية والكهرباء تحكم المادة المشكَّلة، فإن السحر هو القوة التي تحكم التحول من اللاتشكُّل إلى التشكُّل. إنه الجسر بين حالة الإمكان المطلق وحالة الوجود الفعلي. يُمكن القول إن تعريف العدم بأنه الجوهر الكامن و السحر بأنه عملية التشكيل هو التفسير الأكثر قوة ومنطقية في فلسفة السحر العملي. إنه يرفع السحر من مجرد خرق للقوانين إلى التقنية الميتافيزيقية العليا للتعامل مع المادة الأولى للكون، ويجعل الساحر فناناً أنطولوجياً، مُحددًا للوجود وليس بالضرورة خالقًا له من الصفر.
_ الإستدلال الفلسفي من فعالية السحر: لماذا يجب أن يكون العدم وعاء للطاقة غير المتبلورة وليس فراغاً محضاً
تُعتبر هذه الإشكالية تقريراً فلسفياً قوياً يُبرر وجود وفعالية السحر، خاصة في سياق الممارسة التقنية. فهي تطرح أن فعالية السحر أي قدرته على إحداث تغيير ملموس في الوجود لا يمكن أن تتوافق منطقياً مع تعريف العدم كـفراغ محض (Pure Vacuum´-or-Absolute Nothingness). إذا كان العدم فراغاً مطلقاً، فمن المستحيل أن يخرج منه أي قوة أو كيان، مما يجعل الفعل السحري مستحيلاً أو مجرد وهم ذاتي. وبدلاً من ذلك، فإن وجود السحر يقتضي أن يكون العدم وعاء للطاقة غير المتبلورة (A Vessel of Uncrystallized Energy)، وهو ما يتوافق مع مفهوم العدم النسبي (Relative Nothingness) أو الجوهر الكامن (Latent Essence) الذي ناقشناه سابقاً. فلسفياً، يواجه أي تصور لسحر ينشأ من فراغ محض تحديات لا يمكن التغلب عليها في الأنطولوجيا والسببية. ينص مبدأ الإستحالة السببية (The Principle of Causal Impossibility) على أنه لا يمكن للشيء أن يخرج من اللاشيء المطلق (Ex nihilo nihil fit). إذا كان العدم فراغاً محضاً، فإنه يفتقر إلى أي خاصية وجودية (Ontological Property)، بما في ذلك خاصية الإمكانية (Potentiality) لكي يعمل السحر، يجب أن تكون هناك مادة خام أو قوة أولية يمكن للإرادة الساحرة أن تتلاعب بها. الفراغ المحض لا يوفر هذه المادة؛ لذا، فإن أي نجاح سحري يجب أن يكون قد نشأ من داخل الوجود نفسه كعمل نفسي داخلي وليس من العدم، مما يهدم الإدعاء الجوهري للسحر. حتى لو حاولنا تفسير العدم كـطاقة سلبية أو طاقة مضادة، فإن هذا التعريف يمنحه خاصية (خاصية السلبية)، مما يخرجه من كونه فراغاً محضاً. أي تعريف يحوي خاصية سواء كانت سلبية أو إيجابية أو غير مُحددة هو تعريف لـشيء ما، وإن كان هذا الشيء غير موجود بالشكل المادي المعتاد. لذا، فإن الإصرار على فعالية السحر هو في حد ذاته نفي فلسفي للعدم كفراغ. إن تعريف العدم بأنه وعاء للطاقة غير المتبلورة يوفر الأساس المنطقي والتقني اللازم لنجاح الممارسة السحرية. هذه الطاقة تُعرف بأنها قوة كامنة لا نهائية لكنها تفتقر إلى الصورة (Form) أو التحديد (Determination). يمكن ربط هذا المفهوم بـالإمكانيات الكمية (Quantum Possibilities) أو طاقة نقطة الصفر (Zero-Point Energy) في الفيزياء النظرية، حيث يكون الفراغ مليئاً بالإمكانيات غير المتحققة. السحر هنا يصبح عملية إدخال البلورة.(النية والرمز) في هذا الوعاء اللامحدود من الطاقة. يصبح الفعل السحري تقنياً هو إلزام هذه الطاقة اللامحدودة بإتخاذ شكل محدود ومحدد. التعويذة (Spell) تعمل كـمرشح (Filter)، و الإرادة تعمل كـقوة الضغط(Pressure) التي تدفع الطاقة من حالتها غير المتبلورة إلى حالة التجسيد (Manifestation) في الوجود المادي. هذا التفسير لا يخرق السببية، بل يوسعها لتشمل الإمكانية كسبب للقوة. هذا الإطار الفلسفي له تبعات مباشرة على كيفية ممارسة السحر. إذا كان العدم طاقة غير متبلورة، فإن دقة و وضوح النية أمر بالغ الأهمية. فلو كانت النية غامضة، فإن الطاقة غير المتبلورة ستأخذ شكلاً مشوهاً أو غير مستقر، مما يؤدي إلى فشل السحر. الرمز (Sigil) أو الختم (Seal) هو الأداة التقنية التي تحدد الحدود الوجودية للطاقة المستمدة من العدم. هذا التصور يقدم تفسيراً منطقياً لظاهرة الإستنزاف الوجودي (Existential Drain) أو التكلفة التي يدفعها الساحر. لكي يقوم الساحر بـجذب الطاقة غير المتبلورة و إجبارها على التبلور، فإنه يستخدم طاقة ذاتية (Autogenous Energy) مستمدة من كيانه (التركيز، الصيام، النشوة). هذه الطاقة الذاتية هي بمثابة المحفز الذي يبدأ عملية التبلور، وعندما تُستهلك، يشعر الساحر بالإنهاك. يقتضي وجود السحر الفعال أن يكون العدم ليس فراغاً محضاً، بل مستودعاً ميتافيزيقياً للقوة الجوهرية. إن قبول أن العدم هو وعاء للطاقة غير المتبلورة هو خطوة فلسفية ضرورية لإنقاذ السحر من الإفلاس المنطقي ووضعه في إطار متماسك يفهم الفعل السحري كـفن التشكيل الإرادي لقوة كونية كامنة. هذا التفسير لا يكتفي بوصف السحر، بل يحدد طبيعة مصدره بدقة.
_ فلسفة التدمير السحري (Destructive Magick): تفكيك الصورة وعودة الكيان إلى حالة العدم الكامن (Abolition of Form)
تُقدم هذه الإشكالية نقطة توازن فلسفية مضادة لمفهوم الخلق السحري (Ex Nihilo)، حيث تركز على التدمير السحري (Destructive Magick) أو عملية الإلغاء (Abolition). إن فهم كيفية عمل السحر على إلغاء كيان موجود كالشيء، العلاقة، أو حتى جزء من الوجود الذاتي يقتضي قبول أن العدم هو الوجهة النهائية والجوهرية لهذا الإلغاء. الإشكالية الفلسفية هنا لا تكمن في إمكانية التدمير لأن التدمير المادي أمر واقع، بل في كيفية قيام السحر بـتسريع، توجيه، أو تسهيل عملية عودة الكيان إلى حالة العدم، وهو ما يُعرف بـالتفكيك الأنطولوجي. بالإعتماد على التصور الذي يرى العدم كـالجوهر الكامن غير المشكَّل (Prima Materia)، فإن التدمير السحري لا يُعد إفناءً للمادة، بل هو عملية إزالة للصورة (Abolition of Form) أو التحديد (Determination). أي كيان موجود، شجرة، علاقة، فكرة هو في الأساس جوهر كامن (العدم النسبي) فُرضت عليه صورة محددة بالقوانين الطبيعية أو الإرادة. هذا التثبيت يخلق الحدود التي تجعل الكيان موجوداً و مستقلاً عن العدم. يعمل السحر التدميري على تقويض (Undermining) أو إلغاء (Annulment) هذه الحدود و الصورة المفروضة. إنه يهدف إلى تفكيك الروابط الأنطولوجية للكيان، وليس بالضرورة تحويل كل ذراته. على سبيل المثال، إلغاء علاقة سحرية لا يعني تدمير الأفراد، بل إلغاء الصورة الوجودية لتلك العلاقة المشتركة، و إعادتها إلى حالة العدم النسبي (حالة اللاعلاقة). إذا كان العدم هو نهاية الإلغاء، فإنه يُفهم فلسفياً كـالحالة الأصلية للإستقرار و اللاتعيُّن (Indefiniteness). الكيان المُلغَى سحرياً لا يتبخر، بل يعود إلى حالة القوة (In Potentia)، حيث يُصبح جزءاً من الجوهر الكامن مرة أخرى، ينتظر صورة جديدة. الساحر هنا لا يخلق عدماً جديداً، بل يُعيد كياناً موجوداً إلى العدم القائم بالفعل. يُقدم السحر تقنيات تهدف إلى تسريع عملية الإنحلال الوجودي، وهي عملية طبيعية و لكن السحر يقوم بتوجيهها نحو العدم. يتضمن التدمير السحري تقنية عمليّة لـتصفير الخصائص المحددة للكيان، أي جعله غير موجود بالقيمة الوجودية. هذا قد يتضمن إستخدام رموز أو تعويذات تهدف إلى إدخال العدم في الكيان المستهدف. فبدلاً من إضافة قوة، يتم تطبيق قوة الإلغاء (The Force of Annulment) المستمدة من العدم. في بعض مدارس السحر مثل سحر الفوضى، يُستخدم الإلغاء عبر إدخال الفوضى (Chaos) في النظام. الفوضى هنا ليست مجرد إضطراب، بل هي تعبير عن قوة العدم الكامنة التي ترفض أي ترتيب أو صورة. الساحر يقوم بفتح ثغرة فوضوية تسمح للعدم بالتدفق والعمل على تفكيك الروابط الداخلية للكيان المستهدف، وإخراجه من حالة الوجود المنظم. الطقوس التدميرية مثل كسر المرايا، حرق الصور، أو الطقوس العكسية هي آليات تقنية لـفصل النية عن الوجود وتوجيهها نحو العدم. هذه الممارسات لا تدمّر مادياً، بل هي إجراءات رمزية تهدف إلى إعلام العدم بأن هذا الكيان قد أصبح جاهزاً للعودة، مما يجعله عرضة بشكل خاص لقوى الإنحلال الكونية. بموجب هذا الإطار، لا يُنظر إلى العدم كقوة تدميرية نشطة، بل كـوعاء إستقبال أو المصير الحتمي الذي يستوعب الكيانات المُلغاة. العدم هو في الواقع نهاية مؤقتة (Temporary End) للوجود المشكَّل. الساحر الذي يمارس الإلغاء يسهل فقط العودة إلى هذه المرحلة الإنتقالية، وليس إفناء الشيء للأبد. هذا يقلل من الخطورة الأنطولوجية للسحر التدميري، حيث إنه لا يهدد بـمحو الكون، بل بـإعادة تدوير الوجود. هذا الفهم يثير إشكالية أخلاقية: هل الساحر مسؤول عن مصير الكيان الذي أعاده إلى العدم؟ إذا كان العدم هو الجوهر الكامن، فهل للكيان المُلغَى حق العودة إلى الوجود بشكل جديد؟ يصبح التدمير السحري عملية تحمل مسؤولية وجودية؛ فالساحر لا يتخلص من الشيء، بل يعيده إلى حالة الإنتظار، مما قد يسمح بظهوره مرة أخرى بشكل مختلف. يعمل السحر على إلغاء الوجود عبر تقنيات تفكيك الصورة والتحديد، ليعود الكيان إلى حالة العدم كـجوهر كامن (Potentiality). هذا الفعل لا يُخلق عدماً، بل يستدعي خاصية الإنحلال الكونية الكامنة في العدم لإنهاء الوجود المشكَّل. العدم هنا ليس قوة مدمرة في ذاته، بل هو الخلفية الوجودية اللانهائية التي تُنهي كل الكيانات المحدودة.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
المزيد.....
-
هل ستصادر أمريكا المزيد من أصول النفط الفنزويلية؟.. ترامب ير
...
-
بيانات ملاحية تكشف تحركات عسكرية.. ما الذي يجري قبالة الساحل
...
-
ظهور ترامب وكلينتون وغيتس في مجموعة جديدة من صور إبستين
-
مصادر لرويترز: أميركا حجبت معلومات مخابرات عن إسرائيل خلال ع
...
-
أميركا حجبت معلومات مخابراتية عن إسرائيل خلال عهد بايدن
-
عون: تطور العلاقات مع سوريا -بطيء-.. وجاهزون لترسيم الحدود
-
اليمن.. القوات المسلحة الجنوبية تطلق -عملية الحسم- في أبين
-
ترامب: غزو أوكرانيا -يشبه- فوز أمريكا في مباراة الهوكي -معجز
...
-
ماذا قال ترامب عن ظهوره في صور جيفري إبستين؟
-
إسرائيل تواصل خنق غزة بمنع المساعدات
المزيد.....
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
المزيد.....
|