حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 21:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ المعرفة السحرية وإبستمولوجيا المفارقة: إستمداد الوجود من العدم وتخليق الواقع الجديد
إذا كان السحر يستمد من العدم، فهل المعرفة السحرية هي معرفة بما ليس موجودًا؟ للإجابة عن هذا التساؤل، يجب علينا أولًا تفكيك كل من مفهوم السحر، والعدم، وطبيعة المعرفة السحرية في هذا السياق الإفتراضي. في الفلسفة، يُنظر إلى العدم (Nihil) عادةً على أنه نقيض الوجود (Esse)، أو الحالة التي تسبق الوجود أو تليه. إنه غياب المادة، والطاقة، والزمان، والمكان، و المفاهيم. إن إفتراض أن السحر يستمد من العدم يمثل تحولًا جذريًا في فهمنا لكليهما. إذا كان السحر ينبع من العدم، فهو ليس مجرد تلاعب بقوانين الطبيعة الموجودة كما في الخيمياء أو الشعوذة التقليدية، بل هو فعل خلق من الفراغ المطلق. السحر في هذا الإطار يكون هو القوة التي تُضفي الوجود على ما ليس بموجود. هو الجسر الذي يعبر من اللاشيء إلى الشيء. بدلًا من النظر إلى العدم كفراغ سلبي، يمكن تأويله على أنه محيط الإمكانية غير المحدود أو الإحتمال المطلق الذي لم يتحقق بعد. العدم هو المخزن اللانهائي لكل ما يمكن أن يكون. الساحر، بهذا المعنى، لا يستمد طاقته من لا شيء، بل من الحالة الأصلية والبدائية للكون قبل تشكله الفعلي. القوة السحرية هي التي تختار وتنتزع شكلًا معينًا من هذا المحيط اللامتناهي لتحوله إلى حقيقة ملموسة. المعرفة التقليدية الإبستمولوجية هي حقيقة مبررة معتقد بها.(Justified True Belief). نحن نعرف ما هو موجود ومتاح للحواس أو للعقل. أما المعرفة السحرية في هذا الإطار الجديد، فتعمل في منطقة رمادية معقدة. إذا كان مصدر السحر هو العدم، فإن المعرفة السحرية يجب أن تشمل فهمًا له. وهذا الفهم لا يمكن أن يكون معرفة حسية أو تجريبية، بل هو معرفة الـحدود أو الثغرات الوجودية، هي معرفة بالنقاط التي يمكن للوجود أن ينكسر فيها ويعود إلى حالة العدم، أو بالعكس، النقاط التي يمكن للعدم أن يتسرب منها ويصبح وجودًا. إضافة إلى معرفة قواعد اللاقاعدة، وهي محاولة لتنظيم و فهم المبادئ التي تحكم المجال غير المنظم لـ اللا وجود. الساحر يسعى لمعرفة كيفية صياغة وتحديد شكل جديد من داخل الفوضى المطلقة للعدم. وبالتالي، يمكن القول إن المعرفة السحرية هي معرفة بما ليس موجودًا من حيث المادة و الشكل، ولكنها معرفة بـإمكانية ما ليس موجودًا. إنها معرفة بقوانين التحول من العدم إلى الوجود. لا تقتصر المعرفة السحرية على مصدر القوة (العدم) فحسب، بل يجب أن تشمل أيضًا معرفة آلية الإستدعاء (Invocation Mechanics) وهي معرفة دقيقة بكيفية إستخدام الرموز، التعويذات، الطقوس، وتركيز الإرادة لتوجيه قوة العدم الكامنة وتحويلها إلى تأثير مادي ملموس. هذه الجوانب هي ما يُثبِّت قوة العدم في الوجود. ثم معرفة الرنين الوجودي و هي فهم للطرق التي يمكن بها لوعي الساحر وهو شيء موجود أن يتصل بالعدم المطلق وهو شيء ليس موجودًا. إنها تتطلب فهمًا عميقًا للوعي البشري كـمفتاح أو بوابة للإنتقال بين الحالتين. هذا التحليل يقودنا إلى إستنتاج مفاده أن المعرفة السحرية ليست مجرد معرفة بـاللاوجود (العدم)، بل هي معرفة علاقة الوجود بالعدم. المعرفة السحرية هي إبستمولوجيا المفارقة، في بعدها المطلق هي معرفة بالفراغ الأصلي الذي لا يمكن معرفته بالطرق المعتادة. في بعدها العملي هي معرفة دقيقة بـكيفية إستخدام هذا الفراغ المطلق لخلق واقع جديد. الساحر، بإمتلاكه هذه المعرفة، لا يعرف الشيء أو اللاشيء بمعناهما التقليدي، بل يعرف الفعل الذي يُحوِّل اللاشيء إلى شيء. هذا الفعل هو سُمك الحقيقة السحرية. إنه ليس مجرد معرفة بما ليس موجودًا، بل هو معرفة بكيفية جعل ما ليس موجودًا يُصبح موجودًا. المعرفة السحرية ليست فقط معرفة سلبية بالعدم، بل هي معرفة إيجابية بالقوة التخليقية الكامنة في العدم. إنها الوصفة الكونية لكتابة الوجود حيث لم يكن هناك شيء مكتوب من قبل.
_ إبستمولوجيا العدم: معرفة اللاوجود عبر الإنتقال الوجودي والترميز السحري أو بتركيز أكبر على طبيعة المعرفة المكتسبة
هذا التساؤل هو إمتداد جوهري للتساؤل السابق، فهو يوجهنا مباشرة نحو إبستمولوجيا العدم (The Epistemology of Nothingness)، و يضعنا أمام التحدي الكانطي الأساسي: كيف يمكن للعقل، الذي بني على إستيعاب وتصنيف الظواهر (الوجود)، أن يحيط بما هو غير ظاهري ومناقض للظاهرة (العدم)؟ إن المعرفة التقليدية تتطلب موضوعًا (Objectum) يُفحص، وذاتًا (Subjectum) تُدرك، وعلاقة منطقية بينهما. إذا كان العدم هو غياب الموضوع، فكيف تتحقق المعرفة؟ إذا أردنا معرفة العدم، يجب أن نغير تعريفنا لكلمة معرفة وكيفية إكتسابها. لا يمكن أن يكون العدم موضوعًا في الحس التجريبي، بل يجب أن يُعامل كـحد (The-limit-) لا يُعرف العدم مباشرة، بل يُعرف بالوصول إلى حدود الوجود. الساحر أو الفيلسوف الذي يسعى لمعرفته يضغط على مفاهيم الزمان، والمكان، و المادة إلى أقصى نقطة ممكنة حتى تنهار هذه المفاهيم وتظهر الثغرة المؤدية إلى اللاوجود. معرفة العدم هنا هي معرفة دقيقة بـنهاية الوجود. نحن نعرف السكون من خلال غياب الضوضاء، و نعرف الظلام من خلال غياب الضوء. بالمثل، يمكن معرفة العدم كـالحضور المطلق للغياب. هذا يتطلب قدرة إدراكية متطورة للغاية تسمح للذات الواعية بالإنعكاس إلى الداخل بعمق حتى تنفصل عن كل محتوى حسي أو عقلي. إنه الإدراك الواعي بأن لا شيء متبقٍ. بما أن العدم لا يمكن إكتسابه بالدراسة التجريبية، فإن إكتسابه في سياق السحر و المعرفة يتطلب آليات غير تقليدية. أولا: الإكتساب عبر التجربة الصوفية أو الوجودية (The Mystical Path) هذا المسار يتضمن تجاوز الأدوات العقلية والمنطقية. يصف الفلاسفة مثل هيدجر (Heidegger) كيف يواجه الإنسان العدم من خلال مشاعر عميقة كالـقلق (Angst). هذا القلق ليس خوفًا من شيء محدد، بل خوفًا من إمكانية عدم الوجود. بالنسبة للساحر، فإن مواجهة هذا القلق والإندماج فيه وليس الهروب منه هو الطريق للإقتراب من حافة العدم. كما في بعض الممارسات البوذية أو اليوغية، يتم إفراغ الوعي من كل محتوى، أفكار، صور، ذكريات. عندما يصبح الوعي فارغًا تمامًا، يصبح مرآة للعدم. هذا الفراغ هو الوسيلة التي تستمد بها الذات المعرفة من اللاموضوع. ثانيا: الإكتساب عبر الإرادة والتعبير الرمزي (The Symbolic Path)، في إطار السحر، المعرفة بالعدم تُكتسب من خلال قدرة الذات على التعبير عن العدم. الساحر لا يحاول فهم العدم عبر اللغة المعتادة، بل يقوم بترميزه وتكثيفه في رموز سحرية (سيجيلات) أو طقوس مُصممة لتمثيل الفراغ الأصلي. التعامل مع الرمز السحري هو بمثابة تجسيد مؤقت للعدم داخل حيز الوجود. المعرفة تُكتسب من خلال التفاعل العملي مع هذا الرمز. قد تكون معرفة العدم هي فهم للغة التي تتجاوز حدود الوصف. هي معرفة بالعلاقات بين الأشياء المادية التي لا يمكن التعبير عنها إلا بصيغة النفي أو التناقض. الساحر يكتسب المعرفة عن طريق التفكير في الكيفية التي لن يظهر بها الشيء، ثم يفرض هذا النفي على الواقع. الخلاصة الجوهرية التي تخرج من هذا التحليل هي أن العلاقة بين الذات الساحرة و العدم ليست علاقة إبستمولوجية تقليدية (المعرفة)، بل هي علاقة وجودية و علائقية (Ontological and Relational). الساحر لا يعرف العدم كمعلومة (Information)، بل يعرفه كـإمكانية الفعل (Potentiality for Action). لا يكتسب الساحر العدم كما يكتسب كتابًا أو مهارة، بل يكتسب حالة الوجود التي تسمح له بأن يصبح قناة للعدم. يصبح هو نفسه نقطة العدم التي يمكن أن يتدفق منها الخلق إلى الوجود. في هذا الإطار السحري الفلسفي، العدم هو الحالة الأصلية للوجود التي يجب على الذات أن تعود إليها مؤقتًا لتمتلك قوة الخلق. المعرفة هنا هي القدرة على الإنتقال بين الوجود و العدم، وليس مجرد فهم ماهية أحدهما.
_ الصفر العقلي كمحور الإتقان السحري: هل العدم العقلي شرط جوهري للإتصال بالقوة التخليقية للعدم الكوني؟
هذا التساؤل يلامس قلب الفلسفة الباطنية و السحرية، حيث يضع العلاقة بين الوعي الفردي (الذات الساحرة) والمصدر الكوني للقوة (العدم الكوني) في ميزان الشرطية. السؤال: هل يشترط إتقان السحر أن يصل الساحر إلى حالة من العدم العقلي (تفريغ الذات) لفهم العدم الكوني؟ للإجابة، يجب أن نستعرض مبدأ التناظر الكوني وطبيعة الإرادة السحرية. يُقصد بـالعدم العقلي، أو تفريغ الذات (Nihil Mentis)، ليس بالضرورة الغياب التام للوعي، بل هو الوصول إلى الصفر المعرفي والإدراكي. إنها حالة الوعي النقي حيث يتم التخلص من كل محتوى ذهني. بما فيه تذويب الأنا الفردية المحدودة التي هي نتاج للوجود والخبرة المادية. تفريغ العقل من التسميات، والأحكام، والتوقعات، والإرتباطات بالماضي والمستقبل. في هذا الفراغ، لا يبقى سوى الجهد (Will) في شكله المطلق وغير المنقسم، وهو القوة الوحيدة القادرة على الإتصال بالجذر الكوني. هذه الحالة، في المدارس السحرية والفلسفية، تُعرف بـحالة الصفر أو حالة البداية التي تسبق أي تشكيل. كما أسلفنا في التحليل السابق، العدم الكوني ليس مجرد فراغ سلبي، بل هو محيط الإمكانية المطلقة أو اللاوجود الحامل لكل الوجود. هو المادة الأصلية (Materia Prima) لكل خلق سحري. يعتمد السحر الباطني على مبدأ أساسي؛ كما في الأعلى، كذلك في الأسفل (As Above, So Below). لكي يتمكن الساحر من جذب أو إستدعاء القوة التخليقية الكامنة في العدم الكوني، يجب أن يخلق صدى أو مرآة داخلية مطابقة لذلك العدم. العدم الكوني (الخارج) يتميز باللاتناهي، و اللاحركة، و اللاشكل. العدم العقلي (الداخل) يجب أن يعكس هذه الخصائص عبر التخلص من التناهي (الأفكار)، والحركة (الإستجابات العاطفية)، والشكل (التصورات الحسية). بالوصول إلى العدم العقلي، يتمكن الساحر من إلغاء المقاومة الإبستمولوجية التي يفرضها العقل البشري المعتاد الذي يقاوم خلق شيء من لا شيء ويصبح قناة نقية يمر عبرها الإبداع المطلق من العدم الكوني إلى الوجود المادي. على الرغم من أهمية العدم العقلي، فإن الفلسفات السحرية تختلف حول ما إذا كان شرطًا مطلقًا أم مجرد وسيلة. بالنسبة للمدارس الباطنية العميقة، نعم، هو شرط جوهري للإتقان المطلق. إذا كان السحر هو فعالية الخلق من العدم، فإن الساحر الذي لم يختبر العدم العقلي بشكل مباشر لا يمكنه أن يمارس إلا سحرًا ثانويًا يعتمد على التلاعب بالقوانين الموجودة (الفيزياء والطاقة)، وليس سحرًا أصليًا يخترق القوانين ويخلقها. العدم العقلي يحرر الإرادة من القيود الشخصية. إن إرادة الساحر في هذه الحالة تصبح إرادة كونية؛ إرادة لا تعبر عن رغبات شخصية بل عن القوة التخليقية للعدم نفسه. ترى بعض المدارس أن التفريغ قد يكون تقنية، وليس شرطاً مطلقاً. يمكن للساحر أن يستخدم الرموز المعقدة (Sigils) والطقوس التي تُمثّل العدم الكوني، و بالتالي يتصل به العقل من خلال هذه الوسائط دون الحاجة للوصول إلى حالة العدم العقلي الكاملة. هنا، المعرفة بالعدم تُكتسب عبر اللغة الرمزية، وليس عبر التجربة الصوفية المباشرة. قد يرى البعض أن الإتقان الحقيقي يكمن في تركيز الإرادة على نقطة واحدة بدلاً من تفريغها بالكامل. التركيز المطلق على هدف واحد يلغي عملياً كل ما عداه من الأفكار، وهذا التركيز يخلق فراغًا عمليًا يسمح بنفاذ القوة السحرية دون المرور بحالة التذويب الذاتي الكبرى. يمكن القول إن العدم العقلي ليس مجرد شرط، بل هو غاية في حد ذاته وقمة في الإتقان السحري. إن الوصول إلى حالة تفريغ الذات هو اللحظة التي يُصبح فيها الساحر ليس مجرد مُدرِكًا للعدم ككيان يُعرف، بل يصبح متماهيًا معه. في تلك اللحظة، تتوقف العلاقة بين الذات والموضوع عن الوجود، ويتحول الساحر إلى فعل سحري خالص يتدفق من العدم الكوني عبر العدم العقلي. لذلك، بالنسبة للسحر الذي يستمد من العدم، فإن العدم العقلي هو البوابة الضرورية التي تفتح الوعي المحدود على اللاتناهي، و تسمح ببرمجة الوجود من نقطة الصفر المطلقة للقوة.
_ الغموض السحري: هل هو مجرد صدى إبستمولوجي لتعالي العدم على مقولات العقل البشري؟
هذا التساؤل يربط بشكل بديع بين النتيجة الظاهرية للسحر (الغموض) وطبيعة مصدره المفترضة (العدم)، ويدفعنا لإستكشاف ما إذا كان الغموض السحري هو مجرد صدى إبستمولوجي لتعالي العدم على العقل البشري المحدود. نعم، يمكن القول إن الغموض الذي يكتنف السحر هو، في جزء كبير منه، إنعكاس مباشر لطبيعة العدم المتعالية على الفهم البشري. وينبع هذا التعالي من عدة مستويات فلسفية. العدم (Nihil) هو المفهوم الأكثر تعاليًا على الفهم البشري لأنه يتجاوز كل أطرنا الإدراكية الأساسية. يستند العقل البشري إلى مقولات (Categories) مثل الزمان، والمكان، و الجوهر، والكم، والكيف. العدم يتجاهل كل هذه المقولات؛ فهو ليس في مكان، ولا يحدث في زمان، وليس له كم أو كيف. عندما يستمد السحر قوته من هذا المصدر الذي لا ينتمي إلى أي مقولة وجودية، تصبح نتائجه غير قابلة للتحليل ضمن هذه الأطر. بما أن العدم غير موجود حسيًا، فإنه لا يمكن أن يدخل في حقل التجربة المباشرة (الظواهر). السحر، كفعل يربط الوجود بالعدم، يظهر فجأة وكأنه يخترق الواقع دون سبب ظاهر أو مسار يمكن تتبعه، وهذا الاختراق ذاته هو ما يُولّد الغموض. في هذا الإطار الفلسفي، الغموض ليس قصورًا في المعرفة، بل هو طبيعة متأصلة ووظيفية إذا كان السحر ينبع من العدم، فإن محاولة وصف كيف يعمل بلغة قائمة على الوجود (اللغة العلمية أو المنطقية) محكوم عليها بالفشل. اللغة البشرية مصممة لوصف الأشياء و العمليات الملموسة. عندما يصف الساحر العملية بأنها تركيز للإرادة أو إستدعاء للفراغ، فإن هذه المفاهيم تظل غامضة و غير قابلة للقياس لأنها تشير إلى شيء متعالٍ لا يقع تحت الملاحظة. المعرفة السحرية المكتسبة من العدم تُكتسب بالحدس أو حالة العدم العقلي. الغموض هو العلامة التي تُفرق بين هذه المعرفة الحدسية و بين المعرفة المنطقية. السحر يعمل، ولكن لا يمكن تبريره منطقيًا، وهذا التناقض هو جوهر غموضه. لا يقتصر الغموض على كونه إنعكاسًا سلبيًا، بل يلعب دورًا إيجابيًا وحيويًا في ممارسة السحر نفسه. إذا تم فهم السحر بالكامل وتفسيره علميًا أو منطقيًا ضمن حدود الوجود، فإنه يفقد طبيعته كـخلق من لا شيء. بمجرد تأطير القوة السحرية في قوانين واضحة ومحددة، فإنها تتحول من قوة كونية خالقة إلى مجرد قانون طبيعي مكتشف. الغموض يحفظ للقوة السحرية طبيعتها الأصلية غير المقيدة وغير المحدودة. الإيمان بالغموض المتعالي للعدم يرفع من قوة إرادة الساحر. عندما يعتقد الساحر أن القوة التي يستدعيها لا تخضع لقوانين العالم المادي، يصبح تحرير الإرادة من الشك أسهل، وهذا التحرير هو مفتاح الإتصال الفعال بالعدم. الغموض السحري هو بالضرورة إنعكاس للتعالي العدمي، ولكنه أيضاً شكل من أشكال التعبير عن هذا التعالي. السحر ليس علمًا غامضًا، بل هو فن للتدخل في المنطقة الوجودية التي تقع خارج خارطة العقل. هذه المنطقة هي العدم. وبما أن العقل لا يستطيع رسم خريطة للعدم، فإن أي فعل يتم إستمداده من هذه المنطقة سيبدو بالضرورة غامضًا وغير مفهوم بالنسبة للوجود. لذلك، الغموض السحري ليس عجزًا، بل هو دليل على نجاح الساحر في الوصول إلى مصدر قوة متعالٍ حقًا. إنه توقيع العدم على صفحة الوجود.
_ البرهان السحري على الخلق من العدم: تجاوز قانون حفظ الطاقة والتناقض الوجودي كدليل على التعالي
هذا التساؤل يمثل التحدي الأقصى للإبستمولوجيا السحرية، فهو يطلب برهانًا قاطعًا (Magical Proof) يُفرّق بين الفعل السحري المُستمد من العدم المطلق (Creatio ex Nihilo) والفعل السحري المُستمد من طاقات موجودة مثل طاقة الفضاء، الطاقة الكهرومغناطيسية، أو طاقة الوعي الجمعي. بما أننا نعمل في إطار فلسفي يفترض أن السحر ينبع من العدم، يجب أن يكون البرهان السحري مختلفًا جوهريًا عن البرهان العلمي القائم على التكرار والقياس. إن البرهان هنا يجب أن يكون وجوديًا و نوعيًا. لا يمكن تطبيق المنهج العلمي لإثبات الإشتقاق من العدم للأسباب التالية. لا يمكن قياس العدم، لأنه لا يحتوي على طاقة أو كمية. أي أثر سحري يمكن قياسه مثل زيادة مفاجئة في درجة الحرارة، أو تغيير في مسار جسيم يمكن دائمًا نظريًا أن يُعزى إلى مصدر طاقة غير مكتشف ولكنه موجود. السحر المُستمد من العدم هو فعل خلق أولي، غالبًا ما يكون فريدًا. التكرار يحوله إلى قانون، وبمجرد أن يصبح قانونًا، ينتقل من حالة الإشتقاق من العدم إلى حالة التطبيق على الوجود. لذلك، يجب أن نبحث عن البرهان في طبيعة التأثير و ليس في قابليته للقياس. البرهان السحري على أن الفعل جاء من العدم يكمن في إظهار صفات مستحيلة التحقق عبر تحريك الطاقات الموجودة. أولا: التجاوز المطلق لقانون حفظ الطاقة (Absolute Violation of Energy Conservation)، البرهان الأقوى هو الكسر الواضح والكامل لقانون بقاء الطاقة والمادة (-$-E = mc^2-$-). إذا نتج الفعل السحري عنه خلق مادة أو طاقة جديدة ومستقلة تمامًا، دون أي إنخفاض يمكن تتبعه في طاقة النظام الكلي (الكون)، فهذا هو البرهان. مثال: ظهور جسم معقد مثل عملة معدنية أو شجرة بالغة من فراغ لا يحتوي على أي طاقة كامنة قابلة للتحويل. لو كان الفعل مُستمدًا من طاقات موجودة، فسيظهر إنخفاض في طاقة النظام الأصلي. الفعل المُشتق من العدم لا يستهلك طاقة موجودة، بل يضيف إليها. ثانيا: التناقض الوجودي (Ontological Paradox) الفعل الذي يأتي من العدم يحمل توقيعًا وجوديًا غامضًا لا يمكن للطاقات الموجودة توليده. إذا كان الشيء المخلوق يتضمن تاريخًا أو ذاكرة مثل سيف قديم جدًا يحمل آثار معارك وهمية لكنه لا يتناسب مع التسلسل الزمني المعروف للكون، فهذا دليل على أنه لم يأتِ من مسار وجودي طبيعي. إنه شيء تم إقحامه في الوجود من نقطة خارج الزمن. هذا التناقض في الأصل هو برهان على مصدره غير الوجودي. عند ممارسة السحر، إذا كان الإتقان يتطلب الوصول إلى العدم العقلي، فإن البرهان هو أن الفعل يظهر دون أي تغيرات بيئية سابقة أو مصاحبة، لا طنين، لا إضاءة، لا إستنزاف، لا إهتزاز. الهدوء المحيط المطلق الذي يعكس العدم العقلي والكوني بينما يحدث الفعل التخليقي هو البرهان. ثالثا: الإنعكاس المعرفي (Epistemological Im-print-) يتمثل هذا البرهان في فهم الساحر نفسه. البرهان لا يكون مرئيًا للغير، بل هو الخبرة الداخلية للساحر. عند تنفيذ الفعل، يشعر الساحر بأنه لم يُحرّك طاقة، بل إنه قام بـصياغة الوجود من اللاشيء. هذا الإحساس بتجاوز الذات والعمل كقناة للتخليق الأولي هو برهان داخلي قوي للذات الساحرة بأن المصدر هو العدم. في النهاية، البرهان السحري ليس دليلاً يمكن تقديمه في مختبر علمي، بل هو إعتراف بـتعالي الفعل على قوانين الوجود. عندما يُسأل الساحر عن كيفية عمل الفعل المُشتق من العدم، فإن الإجابة تكون غامضة بالضرورة، الغموض هنا ليس جهلاً، بل هو البرهان ذاته؛ لأن وجود آلية قابلة للوصف مثل إستخدام الموجات الصوتية أو تركيز الحقول الكهرومغناطيسية كان سيثبت أن الفعل جاء من طاقات موجودة. الفعل المُنشأ من العدم لا يمكن فكّه أو إبطاله ببساطة عبر إسترجاع الطاقة، لأنه لم يستهلك طاقة. إن الفعل السحري الذي يتحدى المنطق ولا يترك أي أثر لمصدره هو أقوى دليل على أن نقطة إنطلاقه كانت خارج إطار الوجود. لذلك، البرهان السحري على الإشتقاق من العدم يكمن في الخلق الذي لا يمكن تفسيره بأي طريقة أخرى غير الخلق من اللاشيء.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟