أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-















المزيد.....


الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 07:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ العدم بين الوجودية والميتافيزيقا: السحر كنقطة تقاطع بين الفراغ الذاتي (نقص المعنى) والفراغ الكوني (المادة الأولى)

تُعتبر هذه الإشكالية إختبارًا حقيقيًا لموقع السحر بين الفلسفة الوجودية (Existentialism) التي تركز على الذات والمعنى، والفلسفة الميتافيزيقية الكونية (Metaphysics) التي تركز على طبيعة الواقع والمادة. إن تحديد ما إذا كان العدم الذي يواجهه الساحر هو فراغ ذاتي (نقص المعنى) أم فراغ كوني (غياب المادة) ليس مجرد تفريق نظري، بل هو تحديد للمستوى الذي يتم عليه الفعل السحري؛ هل السحر هو تقنية نفسية (Psychological Technique) لفرض المعنى، أم هو تقنية أنطولوجية (Ontological Technique) لتشكيل الواقع المادي؟ إذا كان العدم الذي يواجهه الساحر هو في جوهره فراغ ذاتي (Existential Vacuum)، فإن هذا يضع السحر بالكامل ضمن إطار الوجودية (Existentialism) و علم النفس الميتافيزيقي. في هذا التصور، لا يواجه الساحر فراغًا في الكون، بل فراغًا في الكيان الداخلي (Inner Being) أو نقصًا في المعنى (Lack of Meaning). هذا النقص هو الذي يخلق الحاجة (Necessity) للإرادة الساحرة. يصبح السحر هو الإستجابة الوجودية لهذا الفراغ؛ محاولة لـفرض المعنى على واقع عبثي، أو خلق القيمة في عالم لا معنى له. من وجهة نظر تقنية و عملية، يُصبح السحر مجموعة من التقنيات النفسية (Psychotechniques). فالرموز السحرية (Sigils) ليست موجّهات للطاقة الكونية، بل هي أدوات لـتفريغ الوعي من الشكوك والروابط المنطقية، ثم إعادة برمجته بمعانٍ و إمكانيات جديدة. الطقوس والتعاويذ هي مسرحيات نفسية تهدف إلى تجاوز العقل الواعي وإقناع العقل اللاواعي بـوجود ما كان غائبًا عن المعنى. في هذه الحالة، فإن النجاح السحري هو تغيير في الإدراك (Perception Shift) وفي الواقع الشخصي (Personal Reality) للساحر والهدف. إذا كان العدم ذاتيًا، فإن السحر هو فعل تأليه للذات (Self-Apotheosis)، يركز على الإستقلال الوجودي للساحر كمركز للخلق والقيمة، لكنه يثير الشك حول قدرته على إحداث تغيير موضوعي في الواقع المادي المشترك. إذا كان العدم الذي يواجهه الساحر هو في جوهره فراغ كوني (Cosmic Vacuum)، فإن هذا يعيد السحر إلى مجاله التقليدي كـعلم أنطولوجي (Ontological Science) يسعى للتعامل مع بنية الواقع. هذا الفراغ الكوني ليس فراغًا مطلقًا (النيستي)، بل هو أقرب إلى وعاء الطاقة غير المتبلورة أو المادة الأولى (Prima Materia) التي تفتقر إلى التحديد المادي. الساحر يواجه الفراغ هنا بمعنى غياب الصورة (Form) وليس غياب القوة. يصبح السحر في هذه الحالة عملية تدخل خارجي يهدف إلى فرض شكل (Form) على هذا الفراغ الكوني. الطقوس هي مولدات طاقة كونية تفتح ثغرات في النسيج المادي (الوجود المشكَّل) للسماح لقوة العدم (غياب المادة/الصورة) بالتدفق وتجسيد الشكل الذي تحدده الإرادة الساحرة. الرموز والتعاويذ هي لغة التحديد الأنطولوجي التي تملأ هذا الفراغ الكوني. إذا كان العدم كونيًا، فإن السحر هو قوة موضوعية قادرة على إحداث تغييرات مادية حقيقية وملموسة في الواقع المشترك مثل التحويل، التدمير المادي، أو الخلق المادي. هذا يضع السحر في مواجهة مباشرة مع قوانين الفيزياء، ويجعله منافسًا على سلطة تنظيم الوجود المادي. في التحليل الأكثر عمقاً للممارسة السحرية المتقدمة، يُمكن القول إن العدم الذي يواجهه الساحر ليس حصراً ذاتيًا أو كونيًا، بل هو منطقة تقاطع (Intersection Zone) بين الإثنين. تبدأ العملية السحرية فعلياً بـالتصفير الذاتي. الساحر يقوم بـإلغاء الإدراك العادي، الشك، المنطق، المعنى الوجودي المعتاد من خلال الطقس والتركيز. هذا الفراغ الذاتي (نقص المعنى) يمثل الثغرة أو البوابة التي تسمح بـالوصول الواعي إلى الفراغ الكوني (المادة الأولى). أي أن الساحر لا يستطيع التعامل مع العدم الكوني إلا بعد أن يُنشئ العدم داخله. و بالتالي، فإن النجاح السحري يتطلب خلقًا مزدوجًا؛ أولا: خلق ذاتي، الساحر يخلق اليقين و المعنى داخل نفسه حيث يلغي الفراغ الذاتي. ثانيا: خلق كوني، هنا الساحر يخلق الوجود و الشكل في الواقع المادي حيث يملأ الفراغ الكوني. إن وجود السحر يقتضي أن يكون العدم كياناً فلسفياً مزدوجاً. الوجودية تعلمنا أن العدم هو مصدر القلق والحاجة (الفراغ الذاتي)، بينما الميتافيزيقا تعلمنا أنه مصدر القوة والمادة الخام (الفراغ الكوني). الساحر هو الكيان الوحيد الذي يملك التقنية والجرأة لإستغلال الفراغ الداخلي لفتح وإستخدام الفراغ الخارجي، مما يجعل السحر عملية تحويل عميقة للذات وللواقع في آن واحد.

_ علمَنَة العدم السحري: الفراغ الكمي كـتجسيد فيزيائي للجوهر الكامن وتقنية السحر كـإنهيار إرادي لدالة الموجة

تُعد هذه الإشكالية نقطة تلاقٍ بالغة الأهمية بين الفلسفة الميتافيزيقية القديمة وأحدث ما توصل إليه العلم الحديث، وهي محاولة لعلمنة (Scientization) مفهوم العدم السحري. العلاقة بين الفراغ الكمي (Quantum Vacuum)، كما تصفه فيزياء الكم، والفراغ الميتافيزيقي (Metaphysical Void) الذي يستحضره السحر، هي علاقة تتجاوز مجرد التشابه، لتصل إلى حد إعتبار أحدهما التجسيد الرياضي والفيزيائي للآخر. هذا التحليل يهدف إلى دمج التصورات السحرية للعدم ضمن إطار أنطولوجي موحد يمكن من خلاله تبرير فعالية السحر كـتقنية فائقة للطبيعة. الضرورة تقتضي تعريف الفراغين؛ العدم كـاللاحقيقة في الفيزياء ولاحقيقة في السحر، لتحليل العلاقة، يجب تحديد طبيعة كل فراغ. أولا: الفراغ الكمي (Quantum Vacuum) هو ليس فراغًا محضًا بالمعنى الكلاسيكي (غياب المادة)، بل هو أدنى حالة طاقية (Lowest Energy State) للحقل الكمي. يتميز بـتذبذبات كمومية (Quantum Fluctuations) مستمرة تولد جسيمات إفتراضية (Virtual Particles) تظهر وتختفي في أجزاء من الثانية. هذا الفراغ هو مكتظ بالطاقة الكامنة (Zero-Point Energy)، وهو مصدر دائم لـ الخلق والإفناء العشوائي على مستوى الجسيمات دون الذرية. ثانيا: الفراغ الميتافيزيقي السحري، الذي يعد بمثابة الـجوهر الكامن (Prima Materia) أو العدم النسبي (Relative Nothingness) الذي وصفناه سابقًا. هو حالة لا وجود فيها للشكل أو التحديد، لكنها غنية بالإمكانية المطلقة (Absolute Potential). السحر يستدعي هذا الفراغ لتحقيق خلق أو إلغاء محدد. يكمن العمق الفلسفي في العلاقة بين هذين المفهومين في فكرة أن الفراغ الكمي يمثل الآلية الموضوعية التي يعمل من خلالها الفراغ الميتافيزيقي. الفراغ الكمي، لكونه يمتلك طاقة هائلة كامنة (Zero-Point Energy) و قدرة على الخلق و الإنهاء العشوائي للجسيمات، يتطابق بشكل مثالي مع التصور الميتافيزيقي للعدم كـوعاء للطاقة غير المتبلورة. هذا التوافق يوفر للسحر خلفية وجودية يمكن العمل عليها. في فيزياء الكم، يُفهم ظهور الجسيمات من الفراغ على أنه إنهيار دالة الموجة (Wave -function- Collapse) التي تعني ببساطة تحول الإحتمال إلى واقع نتيجة الملاحظة. يمكن تفسير الفعل السحري هنا على أنه تطبيق إرادي مكثف على الحقل الكمي. الإرادة الساحرة، الموجهة بالرمز (Sigil) والطقس، تعمل كـالملاحظ المرشد (Observer/Guide) الذي يُجبر دالة الموجة على الإنهيار نحو النتيجة المحددة المطلوبة، بدلاً من تركها للصدفة العشوائية. الفراغ الكمي يخلق عشوائياً جسيمات إفتراضية تظهر وتختفي. الساحر، عبر الممارسة، يهدف إلى إلغاء عشوائية هذا الخلق وإستبدالها بـالتحديد الهادف. الرمز السحري هو معادلة التحديد التي تُطبق على الفراغ الكمي لتجسيد جسيم حقيقي يحمل خصائص الهدف السحري سواء كان شيئًا ماديًا أو حدثًا. بالرغم من التوافق الأنطولوجي، تظل هناك إشكاليات تقنية وفلسفية. إذا كان السحر يعتمد على التأثير في الفراغ الكمي، فإن السؤال التقني يصبح؛ ما هي الآلية المادية التي تسمح للإرادة التي تُعتبر غير مادية أو نفسية بـتوليد طاقة كافية للتأثير على حقل هائل كالفراغ الكمي؟ الإجابة السحرية تكمن في مفهوم الطاقة الحيوية (Subtle Energy) أو الـبريانا التي يولدها الساحر لـتضخيم تأثير نيته. الطقس السحري، خاصة إنشاء الدائرة، يُمكن تفسيره كـجهاز عزل (Isolation Device) لإنشاء ظروف مخبرية تسمح للساحر بالتلاعب بالفراغ الكمي المحلي دون أن تنهار دالة موجته بفعل الملاحظات العشوائية للعالم الخارجي. يصبح الطقس هو المنهجية العلمية السحرية للتعامل مع هذا الفراغ. إن العلاقة بين الفراغ الكمي و الفراغ الميتافيزيقي هي علاقة تجسيد و تطبيق. الفراغ الكمي هو الواقع الفيزيائي لـ العدم المكتظ بالطاقة، بينما الفراغ الميتافيزيقي هو الإطار الفلسفي و الإدراكي الذي يستخدمه الساحر لـفهم وتوجيه هذه الطاقة. وجود السحر الفعال يقتضي أن تكون الإرادة الواعية قادرة على التأثير في أدنى مستويات الواقع (الكمي)؛ مما يجعل السحر تقنية لـتحويل الإمكانية الكمومية العشوائية إلى حقيقة وجودية محددة.

_ محاكاة الأزل: السحر كـإعادة تشغيل للّحظة الأنطولوجية الأولى لخروج الوجود من العدم (The Initial Cosmological Singularity)

تطرح هذه الإشكالية تصوراً ميتافيزيقياً جذرياً للعلاقة بين السحر والعدم، حيث لا يُنظر إلى الفعل السحري كمجرد تدخل في الواقع القائم، بل كـإعادة تشغيل (Reactivation) أو محاكاة (Simulation) للحظة الأنطولوجية الأكثر أهمية في الكون؛ لحظة خروج الوجود من العدم (The Initial Cosmological Singularity). هذا التصور يرفع السحر إلى مستوى التقنية الكونية (Cosmic Technique) التي تسعى لإستغلال النقطة التي كانت فيها قوانين الوجود غير مستقرة وغير محددة بعد. لفهم العلاقة، يجب أولاً تحديد ما تعنيه اللحظة الأولى للخلق في هذا السياق الفلسفي هذه اللحظة ليست حدثاً زمنياً، بل هي نقطة تحول ميتافيزيقية حيث كان العدم النسبي (الإمكان) على وشك الإنهيار إلى الوجود المشكَّل (الواقع). في تلك اللحظة، كانت الصورة (Form) والـقانون (Law) لم يتم تثبيتهما بعد. كان العدم يتمتع بـسيولة مطلقة (Absolute Fluidity)، حيث كانت جميع الإحتمالات متساوية ولم يتم إختيار أي منها بعد لتصبح حقيقة. في تلك اللحظة، كانت القوانين السببية والفيزيائية مرنة أو لينة (Soft). أي أن التدخل الإرادي الإلهي أو السحري كان له التأثير الأقصى بأقل قدر من الجهد، لأن مقاومة الوجود المنظَّم كانت في أدنى مستوياتها. إذا كان السحر يعيد تشغيل تلك اللحظة، فإن الممارسات السحرية التقنية تهدف إلى إحداث تذبذب (Oscillation) في الوجود الحالي يجعله أقرب ما يمكن لتلك السيولة الأولى. الطقوس السحرية المعقدة كالتأمل العميق، أو ممارسات التجريد الحسي هي محاولات تقنية لـتصفير (Zeroing) الوعي و البيئة المحيطة، محاكاةً لحالة اللاشيء الأولي. الهدف هو إلغاء الإدراك بالواقع القائم جزئياً لكي يتمكن الوعي من القفز إلى حالة اللاحالة (No-State) التي كانت سائدة في لحظة الخلق الأولى. هذا الإلغاء هو ما يُنشئ ثغرة (Rift) أو بوابة (Gateway) للوصول إلى قوة العدم الكامنة. في اللحظة الأولى للخلق، كانت هناك إرادة مطلقة إلهية أو كونية هي التي إختارت صورة الوجود الحالي من بين اللامتناهي من الإمكانيات. الساحر، من خلال التركيز المطلق على الرمز (Sigil)، يحاول تقليد هذه الإرادة الكونية الأولى. الإرادة الساحرة تصبح القوة التي تفرض تحديداً جديداً على العدم، محاكاةً للفعل الذي تم في البداية لإنشاء الوجود الحالي. الرمز السحري هو البيان (Declaration) الذي يحدد الصورة الجديدة التي يجب أن تتبلور من العدم، تماماً كما حددت القوانين الأساسية للكون صورته الأولى. إن إعادة تشغيل هذه اللحظة لا تهدف إلى تدمير الكون بالكامل، بل إلى إحداث تعديلات دقيقة في البرنامج الأساسي (Core Programming) للواقع. عبر الوصول إلى نقطة الانطلاق، يمكن للساحر أن يغير القوانين المحلية كقوانين الاحتمال و الصدفة التي تحكم كياناً معيناً، مما يسمح بخلق كيان جديد أو إلغاء كيان قديم بأقل جهد. هذا التصور يثير تبعات عميقة على فهمنا للسحر. إذا كان الساحر يعيد تشغيل لحظة الخلق الأولى، فإنه يواجه فوضى الإمكان المطلق غير المحدود. الخطر التقني هنا يكمن في عدم قدرة الساحر على إعادة إغلاق اللحظة بشكل صحيح، مما قد يؤدي إلى طوفان أنطولوجي يغرق الواقع بالفوضى والكيانات غير المستقرة، أو يمتص الساحر نفسه إلى حالة العدم المطلق. هذا يتطلب أن يكون الساحر فناناً في الإغلاق بقدر ما هو فنان في الفتح. يصبح السحر تاريخاً مضاداً (Counter-History). فبدلاً من قبول الوجود كنتيجة لـ الإختيار الكوني الأول، يحاول الساحر مراجعة هذا الإختيار. كل عمل سحري ناجح هو بمثابة إعادة كتابة هامشية لتاريخ الخلق، مما يثبت أن الإمكانية لم تنتهِ بمجرد تثبيت الوجود. هذا التفسير يلغي الزمن كعائق أمام السحر. ففي نقطة الخلق الأولى، لم يكن الزمن قد تبلور بعد. عندما يعيد الساحر تشغيل هذه اللحظة، فإنه يتحرر من القيود الزمنية، مما يفسر قدرته على التأثير في الماضي أو المستقبل، لأن كل شيء يعود إلى حالة اللاحالة الزمنية في العدم. يُمكن القول إن الممارسة السحرية المتقدمة تسعى فعلاً إلى محاكاة اللحظة الأولى للخلق، ليس لإعادة بناء الكون، بل لـ الوصول إلى الحالة الميتافيزيقية التي كانت فيها الإمكانية غير محدودة والوجود غير مستقر. السحر هو التقنية الوجودية لإستغلال هذه النقطة الحرجة، ليثبت الساحر أن الإرادة الواعية قادرة على التحديد و التشكيل في مواجهة العدم المطلق.

_ قلب الهرم الأنطولوجي: السحر كدليل عملي على أصالة العدم (Primacy of Nothingness) ومصدر الحركة الكونية

تُعد هذه الإشكالية إختبارًا لـمبدأ الأصالة (Principle of Primacy) في الأنطولوجيا، حيث تسعى لتحديد أي المفهومين، الوجود (Being) أو العدم (Nothingness)، هو الأكثر جوهرية وأصالة. إن طرح السؤال عما إذا كان السحر دليلاً على أصالة العدم بناءً على كونه مصدر كل تغيير، يعني إعادة تعريف العلاقة السببية والجوهرية بينهما. هذا التحليل يتبنى موقفاً يرى أن التغيير (Change) هو المؤشر الأنطولوجي الأهم، وأن السحر، كـتقنية لإحداث التغيير الجذري، يشير إلى أن العدم هو الأساس العميق الذي تنطلق منه حركية الكون. لتأكيد أصالة العدم، يجب أن نثبت فلسفيًا أن الوجود في حد ذاته عاجز عن التغيير الجذري. من وجهة نظر ميتافيزيقية، يُنظر إلى الوجود المشكَّل (Actualized Being) على أنه حالة من التحديد (Determination) والثبات (Fixity) النسبي. القوانين الطبيعية كالحفظ، والسببية المباشرة تضمن استمرار الوجود على صورته الحالية. هذا الوجود، بطبيعته، يميل إلى الجمود الأنطولوجي أو الـتكرار (Repetition). أي تغيير يحدث داخل الوجود هو عادةً تحويل سطحي أو تبادل للطاقة كـ -$-E=mc^2-$-، ولكنه لا يغير جوهر الوجود ذاته. العدم، الذي يُفهم هنا كـالجوهر الكامن (Latent Essence) أو الإمكان المطلق (Absolute Potentiality)، هو النقيض تمامًا للثبات. إنه يمثل حالة ما قبل التحديد (Pre-Determination)، وبالتالي فهو حر من القوانين الثابتة. لكي يحدث تغيير جوهري (Radical Change)، أي تغيير يؤدي إلى خلق كيان جديد أو إلغاء كيان قديم وهو ما يُعرف بالـتحوّل الأنطولوجي، يجب أن ينطلق هذا التغيير من مكان لا يخضع لقوانين الوجود الحالي، وهذا المكان هو العدم. إذاً، العدم هو مصدر الحركة الأولى التي تُكسر جمود الوجود. يُقدم السحر، بصفته تقنية لإحداث التغيير الذي يبدو مستحيلاً في الإطار العادي للوجود، دليلاً عملياً على الأصالة المذكورة. عندما يمارس الساحر الخلق من العدم (Ex Nihilo) أو الإلغاء الأنطولوجي، فإنه يقوم بعملية لا يمكن تفسيرها بـقوانين الحفظ الموجودة في الوجود. هذه الأفعال كإظهار كيان جديد بالكامل أو إخفاء شيء جذريًا تتطلب إستمداد قوة من خارج نظام الوجود المُحدَّد. القوة الوحيدة الكافية لهذا الإختراق الجذري هي قوة العدم، المتمثلة في الإمكان اللامحدود. تُعتبر الإرادة الساحرة، الموجهة بالطقوس والرموز، هي التقنية الفلسفية التي تسمح بـإلالتفاف حول الثبات الوجودي و الوصول مباشرة إلى العدم. نجاح السحر يثبت أن الطبقة الأكثر عمقًا وأصالة من الواقع ليست الوجود الذي نراه، بل هي طبقة العدم الكامنة التي تملك مفاتيح إعادة التشكيل (Reconfiguration). في الممارسة السحرية، يتم التعامل مع كيانات ورموز تعبر عن اللا كيان أو الفراغ. إن فعالية هذه الرموز والقوى المستمدة منها تؤكد أن القوة لا تكمن في ما هو موجود ومرئي، بل في ما هو غير موجود وغير مُشكَّل، أي العدم. إذا كان السحر دليلاً على أصالة العدم، فإن هذا يقلب الهرم الأنطولوجي التقليدي. النموذج التقليدي؛ الوجود هو القاعدة والمنطلق، ومنه ينشأ العدم كفراغ ثانوي أو فراغ جانبي. النموذج السحري؛ العدم هو القاعدة/المصدر الأصلي، وينبثق منه الوجود كـتشكل سطح ظاهر. في هذا النموذج، يصبح العدم هو الأساس الميتافيزيقي (Metaphysical Substrate) الذي يستند إليه الوجود. الوجود يصبح مجرد فقاعة أو نظام فرعي منبثق من العدم اللامحدود. السحر ليس سوى تقنية للتلاعب بالواجهة (Interface) بين الفقاعة و الأساس. هذا التصور يوصلنا إلى إستنتاج مفاده أن الوجود والعدم ليسا نقيضين جوهريين، بل هما حالتان مختلفتان لـ الجوهر الكوني نفسه. الوجود هو الجوهر المُتبلور (Crystallized)، و العدم هو الجوهر غير المُتبلور (Uncrystallized). السحر هو الدليل الوحيد الذي يثبت القدرة على التحول الجذري بين هاتين الحالتين. يُعد السحر دليلاً قوياً، في سياق فلسفة الممارسة، على أن العدم أكثر أصالة من الوجود، ليس بالمعنى الزمني أيهما جاء أولاً، بل بالمعنى الجوهر والوظيفي. العدم هو المصدر الحيوي (Vital Source) لكل طاقة تغيير و تحول، بينما الوجود هو مجرد النتيجة المؤقتة و المُحدَّدة لهذا المصدر. الساحر، في سعيه للتغيير الجذري، يضطر للإلتفاف حول قوانين الوجود و الإتصال المباشر بمصدر الحركة الكامنة في العدم، مؤكداً بذلك أصالة الإمكان (Primacy of Potential) على الحقيقة (Actuality).

_ العدم كـمرآة الوجود: الفلسفة الهرمسية للتناظر الميتافيزيقي والسحر كتقنية لعبور السطح العاكس

تُقدم هذه الإشكالية تصوراً هرمسياً (Hermetic) و رمزياً (Symbolic) عميقاً للعلاقة بين العدم والوجود، حيث لا يكون العدم نقيضاً أو مصدراً وحيداً، بل كياناً متعايشاً (Coexisting Entity) متطابقاً في الجوهر و لكنه معاكس في الصورة. في هذا الإطار الفلسفي، يُنظر إلى العدم على أنه مرآة الوجود (Mirror of Being)، حيث يعكس كل ما هو موجود بصورة مقلوبة (Reversed Image) أو على شكل سلب (Negative). بناءً على ذلك، يصبح السحر هو التقنية الرمزية والعملية للعبور فوق هذا السطح العاكس، أي أن السحر هو الجسر (The Bridge) الذي يسمح بالتفاعل بين العالمين المتوازيين. لتحديد العدم كـإنعكاس مرآة، يجب أن يُفهم الوجود والعدم على أنهما كيانان متناظران يتقاسمان الجوهر ولكن يختلفان في الصورة والتحديد. هذا التصور يرفض فكرة أن العدم هو فراغ محض أو غياب مطلق. بدلاً من ذلك، يُفترض أن كل جوهر (Essence) أو قوة كامنة (Potential Force) موجودة في الوجود لها نظير (Counterpart) أو إنعكاس معاكس في العدم. على سبيل المثال، إذا كان الوجود يتسم بـاليقين (Certainty)، فإن العدم ينعكس كـالإحتمال اللانهائي (Infinite Possibility). إذا كان الوجود هو الضوء، فإن العدم هو الظل، ليس بمعنى النقص بل بمعنى الصورة العاكسة. يمكن النظر إلى العدم كـصورة سلبية (Negative Image) للكون. في هذه الصورة، تكون العلاقات معكوسة، فالأسباب تنعكس إلى نتائج، والزمن يتدفق معكوساً، والقوانين المادية تصبح غير ثابتة. هذا الإنعكاس لا يعني النفي، بل يعني أن العدم هو الوجود في حالة مُحولة (Transformed State)، جاهزاً للعودة إلى الصورة الإيجابية متى فُرضت عليه الإرادة. في هذا الإطار، يصبح السحر هو التقنية الوحيدة التي تُمكّن الساحر من تجاوز السطح العازل لهذه المرآة، سواء كان هذا العبور رمزياً من خلال الوعي أو فعلياً من خلال التجسيد. يُعد الطقس السحري، خاصة الطقوس التي تتضمن إستخدام المرايا (Scrying Mirrors) أو الماء العاكس، محاولة لخلق نقطة تقاطع (Intersection Point) بين الوجود وإنعكاسه. هذه الأدوات لا تُستخدم لـرؤية المستقبل أو الأرواح فحسب، بل هي بوابات رمزية لـقلب الوعي إلى حالة العدم الإنعكاسي تعمل الإرادة الساحرة كـقوة تناظر (Symmetry Force). عندما يريد الساحر خلق شيء ما في الوجود، فإنه يقوم بـإلغاء هذا الشيء في العدم (في المرآة). وهذا الإلغاء في العدم هو الذي يفرض وجوده في الوجود، و العكس صحيح في حالة التدمير. السحر هنا هو تقنية لـتعديل الصورة السلبية (العدم) لفرض التغيير على الصورة الإيجابية (الوجود). الرمز السحري يتم تفريغه" (Charged) من الوعي الواعي ثم إيداعه في العقل الباطن الذي يُنظر إليه أحياناً كـالمرآة الداخلية. هذا الإيداع هو عملية إرسال الرمز إلى العدم الإنعكاسي. هناك، يتولى العدم (المرآة) مهمة عكس الرمز إلى الواقع المادي المشكَّل. السحر إذن هو تقنية تحويل المعلومات بين الأبعاد المتناظرة. هذا التصور يوضح بشكل عميق كيف يعمل الخلق و التدمير السحري. لكي يخلق الساحر كياناً جديداً (وجود)، يجب عليه أن يُنهي اللاكيان (Non Being) المقابل في العدم. فإذا كان هناك نقص أو فراغ (عدم) في المرآة، فإن الوجود يتجسد لملىء هذا الفراغ. الفعل السحري هنا هو فعل إلغاء إنتقائي في العدم. التدمير السحري هو عملية تأكيد الوجود العاكس للكيان المستهدف في العدم. أي أن الساحر يقوم بتكثيف وإبراز الصورة السلبية (العدم) للكيان، مما يجبر الصورة الإيجابية (الوجود) على التحلل والذوبان في الإنعكاس. إن الجسر السحري بين الوجود و الإنعكاس هو جسر غير مستقر و خطير. فالساحر الذي يركز بشدة على العدم الإنعكاسي قد يجد نفسه منعكساً (Reflected) أو مقلوباً هو نفسه، فيفقد هويته وخصائصه الوجودية ويعود إلى حالة اللاتحديد. هذا يفسر أهمية طقوس الحماية والإغلاق لضمان عودة الساحر من هذا الجسر إلى الواقع غير المنعكس. يُعد العدم كـإنعكاس مرآة للوجود تصوراً فلسفياً ثرياً يفسر التفاعلات السحرية المعقدة. السحر هو التقنية المزدوجة التي تسمح للإرادة الواعية بالتلاعب بـالقوة المضادة (Counter-Force) الكامنة في هذا الإنعكاس. إن السحر هو الجسر الرمزي الذي يربط بين الوجود الذي ندركه (الصورة الإيجابية) والعدم الذي منه نستمد القوة (الصورة السلبية)، ويجعل من كل عمل سحري مفاوضة أنطولوجية بين الأصلي والإنعكاس.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...


المزيد.....




- بعد رقم قياسي من الهجمات المميتة.. كيف تتعامل اليابان مع أزم ...
- يحافظون على التقليد.. قطار سانتا يملأ قلوب 300 طفل سحرًا وبه ...
- أردوغان يعلق على دور -مجلس السلام- بشأن غزة والهجمات على الس ...
- أطفال غزة يموتون من البرد، والقوة الدولية -قد تنتشر الشهر ال ...
- روسيا تقصف أوكرانيا بصواريخ -كينجال-.. وترامب يوفد مبعوثه إل ...
- تعديل قانوني في الإمارات خاص بالأطفال مجهولي النسب
- بعد الحكم بسجن المعارضة التونسية عبير موسي... الحزب الدستوري ...
- المحامي علي البجاوي: الحكم ضد عبير موسي -جائر ولا يستجيب للم ...
- جماعة كولومبية مسلحة تفرض حظر تجول ردا على تهديدات ترامب
- تركيا تستعد لاستضافة ثلاث قمم دولية كبرى عام 2026


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّانِي-