حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 10:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ أنطولوجيا السحر والعدم: إرادة السيادة، فلسفة الفناء، و جدلية التحرر الكوني
إن الغوص في سبر أغوار العلاقة الجدلية بين السحر والعدم يتطلب منا أولاً تجريد المفاهيم من سياقاتها الفلكلورية الضيقة والإرتقاء بها إلى مصاف التجريد الميتافيزيقي؛ فإذا كان العدم، في تعريفه الفلسفي الأكثر راديكالية، هو النفي المطلق لكل ماهية ووجود، فإن السحر يظهر هنا ليس كمجرد فعل أو تقنية، بل كإرادة وجودية تحاول إختراق صمت العدم لفرض بصمة التحقق. إن السؤال عن الغاية النهائية للسحر في مواجهة العدم يضعنا أمام مفارقة أنطولوجية كبرى؛ هل يهدف السحر إلى ملىء فراغ العدم، أم أنه يسعى في نهاية المطاف إلى الإندماج فيه للوصول إلى حالة من الكمال الساكن؟ إذا إعتبرنا العدم هو الغياب الكلي، فإن السحر هو الفعل الذي ينبثق من هذا الغياب ليخلق الحضور، ومن هنا تكون غايته الأولى هي كسر إحتكار العدم للمساحة الكونية، وتحويل اللاشيء إلى شيء، و العدم إلى كينونة لها إسم ومعنى، مما يجعل السحر في جوهره صراعاً أبدياً ضد العدمية. عندما نتأمل في ماهية السحر كأداة للتغيير أو الخلق، نجد أنه يشترك مع العدم في منطقة اللابداية؛ فالسحر الحقيقي هو الذي يستمد قوته من الفراغ ليصيغ واقعاً جديداً، وهذا يقودنا إلى تصور أن الغاية النهائية للسحر قد تكون هي تحويل العدم إلى مادة خام. في هذا السياق، لا يعود العدم مجرد غياب، بل يصبح حقلاً من الإحتمالات اللانهائية التي ينتقي منها الساحر ما يشاء ليجعله واقعاً. إن الغاية هنا ليست تدمير العدم، بل إستنطاقه، فالعدم هو الصمت الذي يسبق الكلمة السحرية، وبدون هذا الصمت لا يمكن للكلمة أن تكتسب قوتها أو رنينها. إن السحر بهذا المعنى هو الجسر الرابط بين الفناء و الخلود، غايته النهائية هي إثبات أن الإرادة قادرة على الإنبثاق حتى من رحم اللاوجود، مما يمنح الوجود شرعية مستمدة من قدرته على تحدي الفراغ المطلق الذي يمثله العدم. من جانب آخر، يمكننا قراءة الغاية النهائية للسحر من زاوية أكثر عمقاً وتعقيداً؛ فإذا كان السحر يسعى للسيطرة على القوانين الطبيعية وما وراء الطبيعية، فإنه في ذروة كماله قد يطمح إلى الوصول إلى حالة من الوحدة مع المطلق. وهنا يتقاطع السحر مع العدم بشكل مذهل؛ فالمطلق في كثير من الفلسفات الإشراقية يشبه العدم في كونه غير محدود و غير متعين. لذا، قد تكون الغاية النهائية للسحر هي إلغاء ذاته، أي الوصول بالوجود إلى درجة من الكثافة الروحية التي تجعل المادة تتلاشى وتعود إلى حالة من العدم النوراني. في هذه الحالة، لا يكون السحر عدواً للعدم، بل هو الوسيلة التي تطهر الوجود من شوائب التجسد ليعود إلى براءته الأولى في العدم. إنها غاية دائرية، حيث يبدأ السحر بالخروج من العدم وينتهي بالعودة إليه، ولكنها عودة مُحملة بالوعي والخبرة، عودة تحول العدم من فراغ موحش إلى إمتلاء ساكن. إن الإشكالية الحقيقية تكمن في أن العدم، بوصفه غياب كل شيء، لا يمكن أن يحوي غاية بداخله، لأن الغاية تتطلب قصداً، والقصد يتطلب واجداً. ومن هنا، فإن السحر هو الذي يخلع على العدم غايته؛ فالسحر هو المعنى الذي يُلقى في بئر اللامعنى. الغاية النهائية للسحر قد تكمن في محاولة تخليد اللحظة ضد تيار الفناء الذي يفرضه العدم، فهو محاولة إنسانية أو فوق إنسانية لفرض نظام إرادي على فوضى العدمية. ومع ذلك، يظل السحر يطارد سراباً، لأن كل ما يُخلق من السحر مآله في النهاية إلى التحلل والعودة إلى العدم الذي جاء منه. هذه العبثية البطولية هي التي تعطي للسحر جلاله الفلسفي؛ إذ أن غايته النهائية قد لا تكون الوصول إلى نتيجة ثابتة، بل في إستمرارية فعل التحدي ذاته، أي في البقاء كشعلة وعي متقدة في قلب الظلام العدمي الشامل، مما يجعل السحر هو الشهادة الوحيدة على أن هناك شيئاً كان موجوداً يوماً ما ضد سطوة اللاشيء. في نهاية المطاف، يمكن القول إن السحر والعدم وجهان لعملة واحدة تتعلق بحدود الكينونة؛ فالسحر هو الفيض والعدم هو الإنحسار. الغاية النهائية للسحر قد تظل لغزاً عصياً على الحل لأنها مرتبطة بتعريفنا نحن للوجود. إذا كان الوجود رحلة، فالسحر هو وقودها والعدم هو مستقرها الأخير. وربما تكون الغاية النهائية للسحر هي ببساطة تعريف العدم؛ فبدون فعل السحر الذي يخلق الأشياء، لن نعرف أبداً ما هو العدم، لأننا لن نملك شيئاً نقارنه به. إن السحر يمنح العدم هويته من خلال التباين معه، وبذلك يحقق السحر غايته ليس بإنتصاره على العدم، بل بتعاونه معه في رسم حدود الممكن و المستحيل في هذا الكون الفسيح.
_ أنطولوجيا التمرد: السحر بوصفه إنعتاقاً من الضرورة و تأسيساً للوجود من رحم العدم
يمثل السحر، في جوهره الفلسفي، أحد أعظم التمردات الميتافيزيقية التي خاضها الوعي الإنساني ضد ثبات الوجود. إنه ليس مجرد طقوس أو أساطير، بل هو موقف أنطولوجي يسعى للإجابة على سؤال الفجوة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. عند تحليل العلاقة بين السحر والعدم، نجد أنفسنا أمام جدلية معقدة هل السحر هو مجرد فرار من سجن القوانين الطبيعية والحتميات المادية، أم أنه فعل تأسيسي يحاول إنتزاع الوجود من قلب العدم؟ تبدأ تجربة السحر من الشعور بضيق الوجود. إن الوجود الإنساني محكوم بالضرورة؛ فنحن مقيدون بالزمن الذي يفنينا، وبالمكان الذي يحصرنا، وبالعلاقات السببية التي تجعل العالم قابلاً للتنبؤ لكنه رتيب ومغلق. هنا، يظهر السحر كآلية للدفاع ضد هذا الثقل الوجودي. إنه محاولة لكسر (Facticity) أو الواقعية المادية التي تحدث عنها سارتر، حيث يشعر الإنسان بأنه مقذوف به في عالم لا يملك السيطرة الكاملة عليه. في هذا السياق، السحر هو نفي للحدود؛ إنه الرغبة في تحويل اللاممكن إلى ممكن. عندما يسعى الساحر لتجاوز المسافات أو التلاعب بالزمن، فهو في الحقيقة يحاول التحرر من قيد التناهي (Finitude). الهروب هنا ليس جبناً، بل هو إستنكار لواقع لا يلبي طموح الإرادة، و محاولة للعودة إلى حالة من السيادة الذاتية حيث لا تعود القوانين الفيزيائية عوائق، بل مجرد إقتراحات يمكن تجاوزها. بالمقابل، يمكن رؤية السحر كعملية خلق من العدم (Ex Nihilo). في الفلسفة التقليدية، يُعتبر الوجود مكتملاً ومنظماً، أما العدم فهو النفي المحض. لكن في الفكر السحري، العدم ليس فراغاً سلبياً، بل هو المادة الخام التي لم تتشكل بعد، هو الفضاء الذي تكمن فيه كل الإمكانات قبل أن يقيدها الوجود بالصور والأشكال. السحر، بهذا المعنى، لا يهرب من الوجود، بل يحاول إعادة تأسيسه. إنه يرى أن الوجود الحالي ناقص أو مشوه، وبالتالي يسعى لإستدعاء قوة من خارج هذا الوجود أي من العدم أو الغيب لصبها في قالب جديد. هذا الفعل هو محاولة لفرض الإرادة كقانون بديل لقانون الطبيعة. هنا، يصبح السحر ممارسة للحرية المطلقة؛ فإذا كان الوجود هو النظام، فإن السحر هو العودة إلى الفوضى الخلاقة (العدم) لإستخراج نظام جديد يتوافق مع رغبة الذات. إن تأسيس وجود مبني على العدم يعني أن الساحر يرفض أن يكون مخلوقاً ضمن منظومة سابقة التجهيز، ويقرر أن يكون خالقاً لواقعه الخاص، مستخدماً الفراغ الميتافيزيقي كمنصة لهذا التأسيس. إن العلاقة بين السحر والعدم تتجلى بوضوح عندما ندرك أن السحر يتطلب نوعاً من العدمية الإيجابية. لكي يؤسس الساحر وجوداً جديداً، يجب عليه أولاً أن ينفي أي يعيد إلى العدم القوانين القائمة في ذهنه وفي عالمه. لا يمكن للسحر أن يعمل في عالم ممتلئ تماماً و محكم الإغلاق؛ لا بد من وجود ثقوب في نسيج الواقع. هذه الثقوب هي العدم. السحر يستغل هذه الفجوات ليدخل من خلالها الجديد. لذا، فإن السحر ليس هروباً من الوجود إلى العدم، بل هو رحلة عبر العدم للوصول إلى وجود أرقى. إنه يستخدم العدم كأداة لتحطيم قيود الوجود القديمة. في هذه الحالة، يصبح العدم هو الرحم الذي يولد منه الوجود الجديد. السحر هنا هو تجسيد لرغبة الإنسان في أن يكون هو العلة الأولى لأفعاله و للعالم من حوله، بدلاً من أن يكون مجرد حلقة في سلسلة سببية لا تنتهي. في التحليل النهائي، السحر هو الإثنان معاً في آن واحد. إنه هروب لأنه يرفض الرضوخ للحدود البيولوجية والميتافيزيقية القاسية، وهو تأسيس لأنه لا يكتفي بالرفض، بل يقدم البديل المتخيل أو الممارس. السحر هو محاولة أنسنة الكون، أي جعل الكون يستجيب للغة الإنسانية وللإرادة الإنسانية بدلاً من خضوع الإنسان لآلية الكون الصماء. إنه صرخة الوعي في وجه صمت الوجود، ومحاولة لملىء فراغ العدم بفيض من المعنى الشخصي. السحر، في جوهره الفلسفي، هو التعبير الأسمى عن إرادة القوة التي تتجاوز الوجود المعطى لتخلق وجوداً مبتكراً، مستندة في ذلك إلى أن العدم ليس هو النهاية، بل هو البداية اللانهائية لكل الإحتمالات.
_ أنطولوجيا الرؤية: السحر كإدراك للعدم الخلاق وفهم للبنية التحتية للوجود
إنَّ هذا الطرح يلامس جوهر الميتافيزيقيا، حيث يتجاوز المفهوم الشعبي للسحر كـتلاعب بالمادة إلى كونه وعياً بالبنية التحتية للوجود. إنَّ إعتبار السحر هو إدراك العدم كجزء لا يتجزأ من الوجود يمثل نقلة من التفكير في السحر كفعل (Action) إلى التفكير فيه كرؤية (Perception). في هذا السياق، لا يعود السحر محاولة لخرق قوانين الطبيعة، بل يصبح هو الفهم العميق بأنَّ القوانين نفسها ليست سوى قشرة رقيقة تطفو فوق محيط من اللاشيء أو العدم الخلاق. تبدأ الحكاية الفلسفية هنا من حقيقة أن الوجود، لكي يكون موجوداً، فإنه يحتاج إلى حيّز أو خلاء يبرز فيه. هذا الخلاء هو العدم. إذا نظرنا إلى الوجود كلوحة مرسومة، فإنَّ العدم هو الفراغ الذي يسمح للخطوط بالتشكل. الساحر، في هذا التأويل العميق، هو الشخص الذي توقف عن النظر إلى الخطوط وبدأ يدرك الفراغ المحيط بها. إنَّ هذا الإدراك هو السحر الحقيقي، لأنه يحرر العقل من صنمية الأشياء (Object Fetishism). عندما تدرك أنَّ العدم يتخلل كل ذرة، تصبح المادة أقل ثقلاً وأكثر سيولة، مما يجعل إمكانية التغيير والتحول وهي غاية السحر أمراً منطقياً وليس إعجازياً. إنَّ إعتبار السحر هو إدراك العدم يعني أنَّ القوة السحرية تنبع من الفجوات الموجودة في الواقع. يرى الفيلسوف مارتن هايدغر أنَّ العدم ليس مجرد نقيض للوجود، بل هو ما يمنح الوجود معناه وتفرده. السحر، بهذا المعنى، هو ممارسة الأنطولوجيا الهامشية؛ أي الوقوف على الحافة حيث يلمس الوجود العدم. في تلك المنطقة، يفقد المنطق الصوري (أ هو أ) سلطته، ويصبح بإمكان الشيء أن يكون موجوداً و غير موجود في آن واحد. هذا هو الغموض السحري؛ القدرة على إستحضار الممكن من رحم المستحيل (العدم)، والإعتراف بأنَّ كل ما نراه هو في الحقيقة عدمٌ متجسد لفترة مؤقتة. إذا سلمنا بأنَّ الوجود هو نطق والعدم هو صمت، فإنَّ السحر هو القدرة على سماع الصمت الكامن خلف الكلمات. إنَّ الفعل السحري، في جوهره، هو عملية تعديم (Annihilation) للواقع الصلب لإعادة تشكيله. عندما يدرك الساحر أنَّ العدم جزء لا يتجزأ من الوجود، فإنه يدرك أنَّ الواقع ليس قدراً محتوماً، بل هو حالة واحدة من بين لانهاية من الحالات الكامنة في العدم. العدم هنا ليس الفناء، بل هو خزان الإحتمالات التي لم تتحقق بعد. ومن هنا، يصبح السحر هو فن سحب الإحتمال من العدم و إسقاطه على شاشة الوجود، مع الوعي التام بأنَّ هذا السقوط سيعود يوماً إلى أصله العدمي. في المستويات العليا من التأمل الفلسفي، يصبح السحر هو إلاستنارة بظلمة العدم. إنَّ البشر عادة ما يهربون من فكرة العدم، الموت، الفراغ، الصمت ويتمسكون بالوجود المادي. أما الساحر فهو الذي يروض هذا الرعب ويحوله إلى أداة معرفية. إنَّ إدراك العدم كجزء من الوجود يعني هدم الجدار بين الأنا و العالم، لأنَّ في جوهر العدم تتلاشى الحدود. هذا الإدراك هو السحر الوحيد لأنه يغير طبيعة الوعي نفسه؛ فالمعرفة بأنَّ الوجود ليس سوى تموج فوق سطح العدم تمنح الفرد قدرة فائقة على التلاعب بوعيه الخاص، وبالتالي التلاعب بكيفية تجلي العالم له. بشكل عام، يمكن القول إنَّ السحر هو إعتراف أنطولوجي بأنَّ العدم ليس غياباً، بل هو الحضور الأكثر كثافة الذي نغفل عنه. إنَّ حصر معنى السحر في إدراك العدم ينقله من خانة الأساطير والخرافات إلى خانة الحكمة المتعالية. إنه يخبرنا أنَّ المعجزة ليست في تحويل الرصاص إلى ذهب، بل في إدراك أنَّ الرصاص والذهب والساحر نفسه هم تجليات مؤقتة لعدمٍ واحد أصيل. الوجود هو القناع، و العدم هو الوجه، والسحر هو الرؤية التي تخترق القناع لتتأمل الوجه.
_ ترميم الكينونة: السحر كإرادة لملىء الفراغ الوجودي و ترويض العدم الكوني
تُعد العلاقة بين السحر والعدم واحدة من أكثر القضايا الفلسفية عمقاً وتعقيداً، حيث يتجاوز السحر كونه مجرد طقوس بدائية ليصبح محاولة أنطولوجية كبرى لمواجهة الفراغ الذي يكتنف الكينونة الإنسانية. ففي جوهره، لا يبحث الساحر عن مجرد تغيير في الواقع المادي، بل يسعى إلى سد الثغرة التي يتركها العدم في نسيج الوجود، مستخدماً إرادته كجسر يربط بين الذات المحدودة والقوة الكونية المطلقة التي غالباً ما تتبدى في صورة فراغ أو عماء (Chaos) يسبق التكوين. يعيش الإنسان، وفقاً للفكر الوجودي، في حالة من الإغتراب داخل عالم مادي صلب لا يستجيب لرغباته بيسر. هنا يظهر السحر كآلية لرفض هذا الإغتراب؛ فهو المحاولة الإنسانية لتأهيل العدم وجعله طوع البنان. إن الفراغ الوجودي ليس مجرد غياب للمعنى، بل هو شعور باللاشيء الذي يهدد الوجود بالزوال. السحر يحاول ملىء هذا الفراغ من خلال إستحضار قوى كونية غامضة، يراها البعض عدماً منتجاً (Nihil Ex Nihilo)، حيث يتم إستخلاص الوجود من قلب اللاوجود. الساحر هنا لا يملأ الفراغ بمادة، بل يملؤه بـالفعل، محولاً الصمت الكوني إلى صدى لإرادته الشخصية. يرى الفيلسوف نيتشه أن القوة هي الجوهر، وفي حالة السحر، نجد أن الساحر يغوص في العدم لا ليفنى فيه، بل ليخرج منه بـالنور أو المعرفة. العدم في هذا السياق ليس فراغاً سلبياً، بل هو الرحم الكوني الذي لم يتشكل بعد. إن محاولة ملىء الفراغ الوجودي بالسحر هي في الحقيقة محاولة لتأليه الذات؛ فبدلاً من قبول الطبيعة كما هي، يحاول الإنسان عبر السحر أن يمارس دور الخالق الذي ينطق بالكلمة (Logos) لِيوجد شيئاً من لا شيء. هذا التصادم بين الإرادة البشرية و العدم الكوني يخلق حالة من التوازن القلق، حيث يصبح السحر هو الأداة التي تمنح الإنسان وهماً أو حقيقة في وعيه بالسيطرة على المصير المجهول. من منظور فلسفي غنوصي، يُنظر إلى العالم المادي كسجن أو نقص، والسحر هو السعي للإتصال بالكمال الذي يقع خلف حدود المادة، و هو ما نطلق عليه أحياناً العدم لأنه يتجاوز إدراكنا الحسي. إن ملىء الفراغ الوجودي هنا يعني العودة إلى الوحدة الأصلية قبل الإنفصال عن الكون. الساحر يرى في العدم قوة خام غير مقيدة بقوانين المادة، ويحاول تطويع هذه القوة لسد الثقوب في روحه التي أحدثها الوعي بالزمن والموت. فالسحر إذن هو تمرد على العدم بواسطة العدم نفسه؛ هو إستخدام اللامرئي لإعادة صياغة المرئي، مما يجعل الفراغ الوجودي لا مجرد حفرة في الروح، بل فضاءً للتمكين المطلق.
_ تخوم التكوين: جدلية المعنى بين ديمومة الإستمداد من العدم وإنطفاء الفعل السحري
تطرح هذه الإشكالية تساؤلاً أنطولوجياً عميقاً يمس جوهر العلاقة بين السحر كفعل تحويلي و العدم كمصدر أو أفق. لكي نصل إلى إجابة حول ما إذا كان المعنى ينتهي عند نضوب الإستمداد من العدم، يجب أولاً تفكيك هذه العلاقة الجدلية في سياق فلسفي رصين. في الفلسفة، لا يُنظر إلى السحر كخرافة، بل كإرادة تسعى لفرض نظام معين على الفوضى، أو إستحضار شيء من لاشيء. السحر هو المحاولة الإنسانية أو الميتافيزيقية لسد الفجوة بين الفكرة والواقع دون وسائط مادية تقليدية. هنا، يبرز العدم ليس كفراغ سلبي، بل كمكمن الإمكانيات المطلقة. إن السحر يستمد شرعيته من قدرته على الإقتطاع من هذا العدم وتحويله إلى كينونة مشهودة. لذا، فإن المعنى في السحر ليس في النتيجة النهائية فحسب، بل في عملية الصيرورة من العدم إلى الوجود. إذا إعتبرنا أن السحر هو فن الإستمداد من العدم، فإن السؤال عن نقطة النهاية يفترض أن للعدم حدوداً، أو أن قدرة السحر على الغرف منه محدودة. فلسفياً، العدم هو اللامتناهي؛ لكن المعنى مرتبط بالقدرة على التشكيل. عندما نصل إلى نقطة لا يمكن للسحر فيها إستمداد المزيد، نحن لا نواجه فناء العدم، بل نواجه عجز الإرادة. في هذه اللحظة، يتوقف السحر عن كونه فعلاً خلاقاً ويتحول إلى أثر جامد. المعنى هنا لا ينتهي بالمعنى العدمي، بل ينغلق. السحر الذي لا يستطيع إستمداد المزيد من العدم هو سحر فقد صِلته بالمطلق، وأصبح سجيناً داخل الوجود المادي المحدود. عند النقطة التي يتوقف فيها الإستمداد، يحدث تحول جذري في طبيعة المعنى؛ ينتقل المعنى من قوة الإيجاد (كيف نأتي بالشيء؟) إلى جوهر الوجود (ماذا نفعل بما أوجدناه؟). السحر هو حركة دائبة؛ فإذا توقفت القدرة على الإستمداد، يتجمد السحر ليصبح مادة. والمادة هي سحر منطفئ. عند هذه النقطة، يدرك السحر حدوده البشرية أو الكونية. المعنى هنا لا يتلاشى، بل يتكثف ليصبح مأساة أو تأملًا في محدودية القوة أمام لانهاية الفراغ. إن القول بأن المعنى ينتهي عند توقف الإستمداد هو قول بتبعية السحر الكاملة للعدم. لكن، في التحليل الأعمق، السحر يترك أثراً في الوجود. هذا الأثر يحمل معنىً مستقلاً عن عملية الخلق نفسها. تماماً كما تنتهي القصيدة وهي نوع من السحر اللغوي عندما لا يعود الشاعر قادراً على إستمداد صور من العدم، لكن معنى القصيدة يبدأ بالتمدد في روح القارئ بعد نقطة النهاية تلك. إن السحر لا ينتهي معناه بنضوب الإستمداد، بل يتحول. إن العدم الذي إستمد منه السحر طاقته يظل محيطاً بالمنتج السحري، ويمنحه هالة من الغموض. المعنى في السحر هو تلك الرعشة التي تحدث لحظة الإنبثاق من العدم؛ فإذا توقف الإنبثاق، تحول السحر إلى تاريخ أو ذاكرة. و بالتالي، يمكن القول إن معنى السحر لا ينتهي، بل يكتمل عند تلك النقطة. فالمعنى الذي لا يواجه نهايته لا يمكن إدراكه كلياً. إن عجز السحر عن الإستمرار في الإستمداد هو الذي يمنح ما تم إستمداده بالفعل قيمته الفريدة، بوصفه إنتصاراً مؤقتاً و مقدساً على الصمت العدمي المطلق.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟