حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 01:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ تسمية العدم: فلسفة الكلمة السحرية وجدلية الوجود و اللاشيء
تُعد العلاقة بين الكلمة السحرية والعدم واحدة من أكثر القضايا الفلسفية عمقاً، فهي تلمس جوهر الوجود واللغة و قدرة الإنسان على التشكيل الكوني. إن القول بأن التعويذة هي محاولة لتسمية العدم يضعنا أمام مفارقة أنطولوجية كبرى: كيف يمكن للغة، وهي أداة التحديد والتعريف، أن تُطلق إسماً على ما هو بطبيعته يفتقر إلى الهوية والحدود؟ في الفلسفات الباطنية والقديمة، يُنظر إلى العالم قبل الكلمة على أنه عماء (Chaos) أو عدم مستمر. هنا، لا تكون الكلمة السحرية مجرد وصف لشيء موجود مسبقاً، بل هي فعل التكوين ذاته. عندما يحاول الساحر أو الفيلسوف تسمية العدم، فهو لا يهدف إلى حبسه في تعريف، بل يهدف إلى إستدراجه من حالة اللاشيء إلى حالة الظهور. إن التسمية هي عملية تأطير للعدم؛ فبمجرد أن نمنح العدم إسماً، نكون قد سلبنا منه عدميته المطلقة وأدخلناه في حيز الوعي الإنساني. الكلمة السحرية هي المحاولة المستحيلة لترويض الفراغ، وهي إعتراف بشري بأن ما لا يمكن تسميته يظل قوة مهددة وغير قابلة للسيطرة. من الناحية الفلسفية، ترتبط التعويذة بفكرة اللوغوس (Logos) أو الكلمة الخالقة. إذا كان العدم هو الصمت المطلق، فإن الكلمة السحرية هي الإهتزاز الأول الذي يكسر هذا الصمت. إن تسمية الذي لا إسم له هي محاولة لفرض النظام (Cosmos) على الفوضى. في هذا السياق، التعويذة ليست مجرد محاولة لإعطاء إسم للعدم، بل هي محاولة لـتحويل العدم إلى مادة. الساحر يعتقد أن معرفة الإسم الحقيقي لشيء ما تمنحه سلطة عليه، وبما أن العدم هو المصدر النهائي لكل الإمكانات، فإن محاولة تسميته هي محاولة للسيطرة على منبع الوجود ذاته. إنها رغبة إنسانية جامحة في تحويل الغموض المطلق إلى معنى مدرك. تكمن المأساة الفلسفية في أن أي إسم نطلقه على العدم يحوله فوراً إلى شيء، وبالتالي يفقد العدم صفته كعدم. من هنا، تصبح الكلمة السحرية (التعويذة) لغة من نوع خاص؛ إنها لغة غير وصفية. التعويذات غالباً ما تتكون من كلمات مبهمة، أصوات غريبة، أو لغات بائدة، وهذا ليس عبثاً، بل لأن اللغة المنطقية تعجز عن ملامسة العدم. الكلمة السحرية هي إسم يرفض التحديد، هي محاولة لقول ما لا يقال. إنها تشبه الثقب الأسود في اللغة؛ كلمة تمتص المعنى بدلاً من إشعاعه، لكي تتناسب مع طبيعة العدم الذي تحاول إستحضاره أو طرده. في فلسفة نيتشه أو حتى في العدمية الوجودية، يظهر السحر كفعل إرادة القوة. الإنسان يواجه فراغ الوجود (العدم) ويشعر بالرعب أمام صمته، فيخترع التعويذة كدرع. تسمية العدم هنا هي فعل دفاعي؛ فنحن نسمي الأشياء لكي لا تبتلعنا. التعويذة هي الأداة التي يحاول بها العقل البشري أن يثبت وجوده في مواجهة التلاشي. إنها اللحظة التي يصرخ فيها الكائن في وجه العدم: أنا أراك، أنا أعرف إسمك، إذن أنت لا تملكني. بهذا المعنى، السحر هو قمة الأنسنة للكون، حيث يتم تحويل الفراغ الموحش إلى كيان يمكن مخاطبته والتفاوض معه. الكلمة السحرية ليست مجرد إسم للعدم، بل هي المواجهة الجمالية والوجودية معه. إنها المحاولة الأزلية لتحويل الغياب إلى حضور عبر قوة الصوت والإرادة. السحر هو إعتراف بأن خلف كل الأسماء التي نعرفها، يقبع إسم واحد كبير لا يمكن النطق به، هو إسم العدم الذي تولد منه كل الأشياء وتعود إليه.
_ لغة اللاوجود: أنطولوجيا التعويذة وجدلية المنطق والعدم
تطرح هذه الإشكالية تساؤلاً جوهرياً حول طبيعة اللغة كأداة للوجود؛ فإذا كانت اللغة المنطقية (المعقولة) قد صُممت لتصنيف الموجودات، و تحديد الكيانات، ورسم الحدود بين الأشياء، فإنها بالضرورة لغة إيجابية عاجزة عن إستيعاب السلب المطلق أو العدم. من هنا، يبرز الإفتراض الفلسفي بأن لغة السحر، لكي تلامس العدم أو تستدعي القوة الكامنة في الفراغ، يجب أن تتخلى عن منطق الهوية وتتبنى إستراتيجية اللانطق أو اللاوجودية. إن اللغة التي نستخدمها في حياتنا اليومية وفي العلم هي لغة تحديد (Definition)، وكلمة تحديد مشتقة من الحد، أي وضع جدار حول المعنى. العدم، بطبيعته، هو ما يفتقر إلى الحدود، هو اللامتناهي الذي يسبق الوجود. لذلك، فإن إستخدام لغة منطقية لوصف العدم هو تناقض ذاتي؛ لأنك بمجرد أن تصف العدم منطقياً، تحوله إلى مفهوم، والمفهوم هو شيء وليس عدماً. من هنا، يرى الفكر السحري أن اللغة يجب أن تتحرر من اللوغوس (العقل والمنطق) لتتحول إلى بارابولا (إشارة) أو مانترا (صوت مجرد). الكلمة السحرية لا تصف العدم، بل تصدح به؛ إنها تحاكي الفراغ عبر تفريغ الكلمة من معناها الإصطلاحي. لغة السحر هي لغة تفكيكية في جوهرها. لكي تخلق شيئاً من العدم، أو لكي تؤثر في الواقع عبر القوى غير المرئية، يجب أولاً تخلخل المادة والمنطق. الكلمات غير المنطقية في التعاويذ مثل الكلمات العجيبة التي لا جذر لها في القواميس تعمل كصدمة للوعي المنطقي. هذه الصدمة تفتح ثغرة في جدار الإدراك المعتاد، ومن خلال هذه الثغرة يطل العدم. إنها لغة لا وجودية لأنها لا تشير إلى كائن موجود، بل تشير إلى الإمكانية المحضة. الساحر لا يقول ليكن الضوء كإخبار عن حقيقة، بل يطلق صوتاً يهدم صمت العدم ليجبر الوجود على الظهور. هنا، اللامنطق ليس جهلاً، بل هو تجاوز للمنطق الذي يحبسنا في عالم الظواهر المادية. في الفلسفة الوجودية، العدم هو القلق الذي يسبق التكوين. لكي تعبر التعويذة عن هذا، يجب أن تكون لغة جوفاء بالمعنى الإيجابي؛ أي أنها كلمات تعمل كأوعية فارغة. اللغات القديمة أو الأصوات المقطعة في السحر هي محاكاة لصوت الإنفجار العظيم أو لحظة الخروج من العدم. المنطق يربط السبب بالنتيجة (1+1=2)، لكن السحر يطالب بالنتيجة دون المرور بالسبب المادي (الكلمة = الفعل). هذا القفز فوق الوسائط المادية يتطلب لغة تخترق قوانين الفيزياء و المنطق. إنها لغة الخوارق، والخارق للطبيعة هو بالضرورة خارق للمنطق اللغوي. يمكن إعتبار لغة السحر محاولة لقول ما لا يقال (The Unsayable). الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين قال: ما لا يمكن التحدث عنه، يجب الصمت تجاهه. لكن الساحر يرفض الصمت، بل يحاول تسمية الصمت. هذه التسمية لا يمكن أن تكون منطقية، لأن المنطق هو ضجيج العقل. لذا، يلجأ السحر إلى اللغة الشعرية المتطرفة أو الغموض الغنوصي، حيث تصبح الكلمة رمزاً يشير إلى الأعماق السحيقة للعدم دون أن يغرق فيها. إنها لغة ميتة تمنح الحياة، أو لغة لا معنى لها تمنح كل المعاني. الفشل في فهم التعويذة منطقياً هو سر قوتها؛ لأن المعنى الواحد يحد من الكلمة، بينما اللامعنى يفتحها على اللانهائي (العدم). يجب أن تكون لغة السحر لا وجودية وغير منطقية ليس بدافع العبث، بل بدافع الضرورة الأنطولوجية. لكي تتعامل مع العدم، عليك أن تستخدم أداة لا تنتمي لعالم الأشياء المحدودة. الكلمة السحرية هي الجسر الهش المعلق فوق هاوية العدم؛ إنها تستمد قدرتها من كونها صوتاً بلا جسد و معنى بلا حدود، وهي بذلك اللغة الوحيدة التي تجرؤ على مناداة الفراغ باسمه دون أن تتلاشى فيه.
_ واجهة الهاوية: أنطولوجيا الرمز السحري بوصفه جسراً بين الوجود المُشكَّل وفوضى العدم
يُمثل الرمز السحري في الفكر الفلسفي و الميتافيزيقي ما هو أكثر من مجرد علامة غرافيكية؛ إنه يمثل البرزخ أو الغشاء الرقيق الذي يفصل ويصل في آن واحد بين عالم الظواهر المحدود وبين هاوية العدم اللانهائية. إذا كان الوجود هو المُشكَّل (The Formed) والعدم هو المحض أو غير المُشكَّل (The Unformed)، فإن الرمز يشتغل كواجهة بينية (Interface) تسمح بعبور القوة من حالة السيولة المطلقة إلى حالة التجسد العيني. من الناحية الأنطولوجية، يمكن إعتبار الوجود المادي حالة من حالات الإستقرار التي إتخذتها المادة، بينما يظل العدم هو الخزان الذي يحتوي على كل الإمكانات التي لم تتحقق بعد. هنا، لا يكتفي الرمز السحري بالإشارة إلى شيء موجود، بل يعمل كـثقب دودي يسحب قوة من اللاشيء ليقذف بها في الشيء. الرمز هو النقطة التي يتكثف فيها العدم ليصبح قابلاً للإدراك. إنه لا يصف الواقع، بل يخرم نسيج الواقع ليسمح للقوى غير المشكلة بالتدفق من خلاله. بهذا المعنى، الرمز هو أدنى تمثيل ممكن لما لا يمكن تمثيله؛ إنه الشكل الذي يرتديه العدم لكي يستطيع الوعي البشري التعامل معه دون أن يحترق بوهج اللانهائية. تعمل الواجهة عادةً كمترجم بين نظامين لغويين مختلفين؛ وفي حالة السحر، الرمز هو المترجم بين لغة الصمت المطلق (العدم) و لغة الأشكال الهندسية (الوجود). إن طبيعة الوجود المشكلة تتبع قوانين السببية و الزمان والمكان، بينما العدم متحرر من كل ذلك. الرمز السحري سواء كان طلسماً، أو دائرة سحرية، أو سيجل (Sigil) هو بمثابة محول كهربائي يخفض فولتية العدم العالية جداً لتناسب الأسلاك الرقيقة للوجود المادي. بدون هذا الرمز، سيظل العدم قوة مدمرة أو غائبة تماماً، وبدون العدم، سيظل الرمز مجرد رسم جاف على ورق. الرمز هو اللحظة التي يوافق فيها اللاشيء على أن يتخذ هيئة ما لغرض معين. يكمن سر قوة الرمز في مفارقته الجمالية؛ فهو من جهة محدود جداً بحدوده الخطية، لكنه من جهة أخرى مفتوح على دلالات لا تنتهي. الفيلسوف الذي يتأمل الرمز السحري يدرك أنه يشاهد حافة الوجود. إن الرمز هو النقطة المركزية في الدائرة؛ النقطة التي ليس لها أبعاد وهي بذلك تشبه العدم ولكنها مركز لكل الأبعاد وهي بذلك أصل الوجود. عندما يرسم الساحر رمزاً، فإنه لا يرسم صورة، بل يحدد إحداثيات في الفراغ. هذا التوتر بين صغر حجم الرمز و عظمة القوة التي يستحضرها هو تجسيد للعلاقة بين الإنسان والكون؛ كائن محدود يحاول القبض على جوهر غير محدود. إذا كان العدم يمثل الفوضى الخلاقة (Chaos) التي تسبق التنظيم، فإن الرمز هو الأداة التي تمارس العنف المقدس على هذه الفوضى لإجبارها على إتخاذ مسار معين. الرمز هو قالب يُصب فيه العدم السائل ليخرج بشكل إرادة محققة. في هذه العملية، يعمل الرمز كحارس بوابة (Gatekeeper)؛ فهو يمنع الوجود من الذوبان العشوائي في العدم، ويمنع العدم من إكتساح الوجود وتدميره. إنه منطقة الحياد حيث يمكن للمتناقضات أن تلتقي وتتحاور. الرمز السحري هو الدليل المادي على أن الوجود ليس منفصلاً عن العدم، بل هو مجرد تطريز دقيق على قماش الفراغ الواسع. الرمز السحري هو المنطقة الرمادية بين النور و الظلمة، وبين الكيان والعدم. إنه الواجهة التي تسمح للإنسان، الكائن المُشكل، بأن يمد يده إلى الهاوية غير المشكلة ليقتبس منها شعلة التغيير. الرمز هو إعتراف بأن الوجود المادي وحده غير كافٍ، وأن العدم وحده غير مدرك، وبينهما يرتفع الرمز كجسر ضروري لإستمرار اللعبة الكونية بين الظهور و الخفاء.
_ سيمياء المعنى: السحر كوساطة أنطولوجية بين إسقاطات الوجود وإمكانات العدم
تضعنا هذه الإشكالية أمام واحدة من أكثر المعضلات الفلسفية تعقيداً في ميتافيزيقا المعنى؛ فهي تتساءل عن إتجاه التدفق الوجودي: هل يبدأ المعنى من الذات الإنسانية (الوجود) ليُسقط على الفراغ (العدم)، أم أن السحر هو القدرة الفريدة على إستنطاق العدم وجعله يلد معنىً ذاتياً لم يكن موجوداً من قبل؟ إن التحليل الفلسفي لهذه العلاقة يقتضي النظر إلى السحر لا بوصفه تقنية، بل بوصفه وساطة أنطولوجية تعيد تعريف طبيعة القيمة والحقيقة بين قطبي الكينونة واللاشيء. في هذا المسار، يُنظر إلى السحر بوصفه إسقاطاً إرادوياً (Projective Will). الإنسان، بوصفه الكائن الذي يمنح المعنى، يجد نفسه محاصراً بـصمت العدم المرعب. هذا الصمت يمثل غياب المعنى والغاية. هنا، يقوم الساحر بإستعارة الرموز، اللغة، والقيم من عالم الوجود المُشكل مثل مفاهيم الحياة، الموت، النور، الظلمة ثم يطبقها على مادة العدم الخام. في هذه الحالة، السحر لا يخلق معنىً جديداً، بل هو يستعمر العدم بمعانٍ بشرية. إنه يحاول أن يجعل اللاشيء يتحدث لغة البشر، لكي لا يشعر الإنسان بالغربة الكونية. المعنى هنا هو قناع يضعه الساحر على وجه الهاوية لكي يتمكن من النظر إليها دون أن يفقد عقله؛ فالعدم في ذاته يظل أصماً، وما نسمعه هو مجرد صدى لأصواتنا المنعكسة من جدران الفراغ. على النقيض من ذلك، يرى تيار فلسفي غنوصي أن العدم ليس فراغاً سلبياً، بل هو إمتلاء مكثف (Pleroma) لم يصل بعد إلى مرتبة التجسد. في هذا الإطار، لا يستمد السحر المعنى من الوجود، لأن المعاني الموجودة سلفاً هي معانٍ مستهلكة ومحدودة. بدلاً من ذلك، يعمل السحر كعملية حفر في أعماق العدم لإستخراج المعنى البكر. الكلمة السحرية هنا هي الأداة التي تثقب حجاب العدم ليتدفق منه معنى لم يسبق للوجود أن عرفه. إن السحر بهذا المعنى هو فعل خلق حقيقي (Creation ex nihilo)؛ حيث يتحول اللاشيء إلى قيمة بفعل الإرادة السحرية. المعنى هنا ليس مستعاراً، بل هو ثمرة التلقيح بين وعي الساحر وعماء العدم، وهو ما يجعل السحر نشاطاً راديكالياً يغير خريطة الوجود نفسه بدلاً من مجرد تكرار مفاهيمه. ربما يكمن الجواب الأكثر عمقاً في منطقة وسطى؛ حيث يعمل السحر كـواجهة تفاعلية. المعنى في السحر ليس موجوداً في الوجود بشكل كامل، ولا هو مفقود في العدم بشكل كلي. الوجود يمنح السحر الأداة (الرمز واللغة)، بينما يمنح العدم السحر الطاقة (العمق واللانهاية). عندما يطبق الساحر معنىً مستمداً من الوجود على العدم، فإن العدم يُعدّل هذا المعنى ويهبه صبغة القداسة أو الغموض. السحر هو اللحظة التي يلتقي فيها تحديد الوجود مع إطلاق العدم. إنه يشبه عملية الترجمة؛ فالترجمة تستمد مادتها من اللغة الأصل (الوجود) و لكنها تخلق نصاً جديداً في لغة الهدف (العدم)، وهذا النص الجديد يمتلك روحاً لا تنتمي كلياً لأي منهما. المعنى السحري هو معنى ثالث ينشأ من تصادم الكينونة مع الفناء. في التحليل النهائي، يمكن إعتبار العدم هو الشرط الضروري لوجود أي معنى عميق. المعنى المستمد من الوجود المادي غالباً ما يكون وظيفياً، تقنياً، وعابراً. أما السحر، فإنه يبحث عن المعنى المتعالي الذي لا يمكن أن يوجد إلا إذا تم غميسه في مياه العدم. السحر يدرك أن الوجود مكتظ بالمعاني لدرجة الإختناق، لذا يهرب نحو العدم ليخلق مساحة للتنفس. إن تطبيق المعنى على العدم ليس محاولة لملىء الفراغ بقدر ما هو محاولة لـتطهير المعنى من شوائب المادة. السحر يعدم المعاني القديمة لكي يبعثها من جديد في صورة رموز سحرية مشحونة بقوة اللاشيء. المعنى هنا لا يطبق على العدم، بل يولد بواسطة العدم، ليعود إلى الوجود كقوة قادرة على التغيير والتحويل. السحر هو العملية التي يتم فيها تسييل المعاني الصلبة للوجود في حمض العدم، ليعاد تشكيلها في قوالب جديدة. هو لا يكتفي بالإستعارة ولا يدعي الخلق الكلي، بل هو رقصة المزامنة بين ما هو كائن و ما هو ممكن. المعنى السحري هو المعنى الذي يعترف بجذوره في الوجود ولكنه يمد غصونه في الفراغ المطلق.
_ ميتافيزيقا السكون: فلسفة الصمت بوصفه مصدراً لقوة الكلمة السحرية
تلمس هذه الإشكالية الجوهر الغامض للعملية السحرية، حيث تنتقل من كونها مجرد تقنية لغوية إلى كونها تجربة أنطولوجية. في الفلسفة السحرية العميقة، يُنظر إلى الكلمات على أنها مجرد قشور أو أمواج تطفو على سطح محيط هائل من الصمت. إذا كان العدم هو الرحم الذي تولد منه كل الأشياء، فإن الصمت هو الإمتداد الصوتي لهذا العدم. من هنا، يمكن القول إن نجاح السحر لا يكمن في براعة صياغة الجمل، بل في قدرة الساحر على النفاذ إلى السكون المطلق الذي يسبق إهتزاز الهواء بالصوت. من منظور ميتافيزيقي، الكلمات هي أدوات تجزئة؛ فهي تفصل الواقع إلى مفاهيم (هذا شجر، ذاك حجر). أما الصمت، فهو يمثل الوحدة الكونية أو العدم قبل أن يتشظى إلى كائنات. نجاح السحر يعتمد على العودة بالوعي إلى ما قبل التجزئة. الساحر الذي يفهم الصمت يدرك أن الكلمة السحرية لا تستمد قوتها من معناها القاموسي، بل من كونها خرقاً لصمت العدم. الكلمة هي مجرد سهم، لكن الصمت هو القوس المشدود. بدون فهم هذا السكون السحيق الذي يمثل العدم، تظل الكلمات جوفاء، مجرد أصوات ميكانيكية تفتقر إلى الروح أو المانا التي تجعل الواقع ينصاع للإرادة. فلسفياً، يمكن إعتبار الكلام فعلاً من أفعال العنف ضد العدم، لأنه يجبر اللاشيء على أن يتخذ شكلاً محدداً. الساحر المتمكن هو من يدرك حجم هذه الإزاحة. إن فهم الصمت الذي يسبق الكلام يعني فهم الثمن الوجودي للنطق. في الطقوس السحرية القديمة، كان الصمت الطويل، الإعتزال أو الصيام عن الكلام جزءاً أساسياً من التحضير؛ وذلك لشحن بطارية الروح بالعدم. عندما يمتلئ الساحر بالصمت، تصبح كلمته التالية ذات ثقل كوني، لأنها تخرج من قاع الهاوية. هنا، لا تعود الكلمة وصفاً، بل تصبح حدثاً (Event) يغير نسيج الوجود، تماماً كما تترك قطرة الحبر أثراً لا يمحى في كوب من الماء الصافي. في علم النفس اليونغي أو في الفلسفات الشرقية مثل التاو، يمثل الصمت اللافعل (Wu Wei) الذي يصدر عنه كل فعل مؤثر. الكلمات في السحر هي الظاهر، لكن الصمت هو الباطن. إن التركيز على الكلمات وحدها هو فخ للمبتدئين، لأنه يعامل السحر كعلم لغوي، بينما هو في الحقيقة كيمياء الفراغ. الصمت هو المساحة التي تلتقي فيها إرادة الساحر مع إرادة الكون دون وسائط. عندما يصمت الساحر داخلياً، فإنه يعدم إيغو (الذات) الخاصة به، مما يسمح لقوى العدم الكلية بأن تتدفق من خلاله. الكلمة السحرية في هذه الحالة ليست إلا القناة التي يمر عبرها هذا التدفق الهائل. تروي الأساطير عن الإسم الأعظم الذي يمنح سلطة مطلقة، لكن الفلسفة الباطنية تشير غالباً إلى أن هذا الإسم ليس كلمة تُنطق، بل هو حالة من الصمت يتم بلوغها. إن الوصول إلى الإسم الحقيقي للعدم يعني الوصول إلى نقطة يتوقف فيها العقل عن توليد الصور والكلمات. النجاح السحري هنا هو القدرة على توجيه الصمت نحو هدف محدد. الكلمات التي تُقال في التعويذة هي مجرد رموز تنبيهية للوعي، لكي يظل مركزاً على الثغرة التي فُتحت في العدم. لذا، فإن الساحر لا يهمس للكلمات، بل يهمس من خلالها إلى الفراغ الذي يحيط بها، مدركاً أن القوة الحقيقية تسكن في المسافات الفاصلة بين الحروف، لا في الحروف نفسها. إن الكلمة السحرية هي مجرد قمة جبل الجليد، بينما الصمت (العدم) هو الكتلة الهائلة الغارقة تحت سطح الوعي. يعتمد نجاح السحر على هذا الصمت لأنه يمثل الحالة الصفرية التي تسبق التكوين؛ فمن يملك السكون يملك القدرة على الحركة، ومن يفهم العدم يملك مفاتيح الوجود. الكلمة هي الرسالة، لكن الصمت هو البريد الذي يحملها إلى أركان الكون.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟