|
|
الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءِ الْخَامِسِ-
حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 15:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ إلغاء الأنا والإتصال بالعدم: الشرط الأنطولوجي للتدفق السحري وتجاوز الكينونة
إنَّ العلاقة بين السحر والعدم (The Void/The Nothingness) هي إحدى أكثر الأفكار الفلسفية عمقاً و جذرية في المذاهب الباطنية و الميتافيزيقية، وتُطرَح مسألة إلغاء الكيان أو موت الأنا للساحر كشرط أساسي لـ التدفق السحري أو الإتصال بالعدم بإعتبارها محوراً أساسياً لتحويل الوجود. في هذا الإطار الفلسفي، لا يُنظر إلى العدم على أنه مجرد فراغ سلبي أو نفي للوجود المادي (Being)، بل يُنظر إليه كـطاقة أصلية خلاقة، أو مصدر أنطولوجي كامن يسبق الكينونة الظاهرة. هو الـلاشيء الذي منه ينبثق كل شيء. للولوج إلى هذا المصدر السحري، يجب على الساحر أن يتجاوز حدود عالمه المعتاد، وأول هذه الحدود هو الذات المُقيدة، أي الأنا (Ego) الواعية والمُشروطة بالزمن والمكان والحواس المادية. تُعتبر الأنا هي حصيلة التراكمات المعرفية والتجارب الشخصية والقيود المنطقية التي تُشكِّل الفلتر الذي يرى به الفرد الواقع. هذا الفلتر، رغم ضرورته للحياة اليومية، فإنه يُمثّل حاجزاً أمام الإدراك الميتافيزيقي والطاقة السحرية. فـنية الأنا الخاصة، رغباتها المحدودة، وإرادتها الشخصية، جميعها تقيّد نطاق الفعل السحري ضمن دوائر الوجود المألوف، وتمنعه من الوصول إلى مجال الإمكانات اللامحدودة الذي يُمثّله العدم. الكيان الفردي (الذات) هو، في الأساس، تجسيد للقيود. هو نقطة محددة ومُتميّزة في شبكة الوجود. لكي يصبح الساحر قناة للعدم السحري، الذي هو لا محدود وغير مُتميّز بطبعه، يجب عليه أن يُزيل مؤقتاً هذه الحدود والتفرقة. هذا لا يعني بالضرورة فناءً مادياً، بل هو فناء إرادي مؤقت على المستوى النفسي والمعرفي، أو ما يُعرف بـحالة الـكيهول (K-hole) أو الإخلاء (Kenosis) في سياقات أخرى، حيث يتم إفراغ الوعي من محتوياته المعتادة. لتحويل ذاته إلى قناة (Channel) صافية للعدم السحري، يمارس الساحر عملية يمكن تسميتها بـالإخلاء الأنطولوجي المؤقت. يبدأ الساحر بالعمل على تفكيك مفهومه عن هويته الشخصية. فالإسم، المهن، العلاقات، و حتى الذاكرة، تُصبح مجرد قوالب يتم إزالتها في لحظة الممارسة السحرية. هذا يسمح له بالإنتقال من حالة أنا الفاعل إلى حالة أنا الفعل أو أنا الوسيط. العدم السحري أو الطاقة الخام لا يمكن توجيهها بالمنطق العادي. بل تتطلب إستسلاماً كاملاً من الأنا. في هذه الحالة، يتوقف الساحر عن محاولة السيطرة أو الفهم، ويُصبح مجرد وعاء تمر عبره إرادة العدم أو الإرادة الكونية اللاواعية. الفشل في إلغاء الذات يعني إدخال ضجيج الإرادة الشخصية في المعادلة، مما يُشوّه البث ويُقيّد النتائج. إن إلغاء الذات المؤقت هو الطريق للوصول إلى حالة الوحدة الأنطولوجية مع الـلاشيء، التي هي في الوقت ذاته كل شيء. يصبح الساحر حينئذ متجاوزاً للمسافة الفاصلة بين ذاته والواقع الخارجي. عندما يذوب الكيان في العدم، يصبح العدم قادراً على التعبير عن إمكاناته عبر الكيان. النتيجة السحرية لا تصدر عن قوة الساحر الذاتية (Ego Strength)، بل عن صفاء قناته و قدرتها على إستيعاب وتمرير القوة اللامحدودة للعدم. يمكن فهم الفعل السحري بأنه جدلية عميقة بين الكينونة (Being) والعدم (Nothingness). الساحر، وهو جزء من عالم الكينونة والمحددات، يُدرك أن عليه التضحية مؤقتاً بكينونته الجزئية ليلامس المصدر المطلق. هذا الإلغاء هو تخلٍّ عن الأنا المُتعيِّنة للوصول إلى الوعي غير المُتعيَّن. العدم لا يستطيع أن يتجلى في الواقع إلا من خلال قناة لها شكل، و هذه القناة هي الساحر. فإلغاء الذات ليس غاية، بل هو وسيلة لتصبح الذات ورقة بيضاء أو مرآة فارغة تعكس و تُجسّد الفعل السحري المراد، دون أن تترك بصمتها الشخصية المُشوِّهة عليه. يُمكن القول إن إلغاء الذات مؤقتاً ليس مجرد ممارسة نفسية، بل هو شرط أنطولوجي في الفلسفة السحرية للعدم. إنه الـلابد منه للتحول من الوجود المُستهلِك والمُقيَّد إلى الوجود الخالق و القناة لللامحدودية. بدون هذا التخلي، يظل الساحر محصوراً في دائرة تعديل الوجود بدلاً من صياغة الوجود من منبعه الأصلي.
_ الخوف من العدم (Nihilophobia) في الفلسفة السحرية: ديناميكية الإزدواج بين العائق ومحفز الإتقان الأنطولوجي
إنَّ الخوف البشري المتأصل من العدم (Fear of Nothingness Nihilophobia) يُمثّل إحدى أكثر نقاط الإحتكاك تعقيداً وديناميكية في العلاقة بين الإنسان و السحر. في إطار الفلسفة السحرية العميقة، لا يمكن تبسيط هذا الخوف إلى مجرد عائق أو دافع؛ بل هو قوة مزدوجة الفعل تشكّل وتُعيد تشكيل مسار الساحر نحو الإتقان. يُعرّف العدم، في السياق السحري، بأنه حالة التلاشي الأنطولوجي للهوية، أو مصدر الطاقة الخام غير المُشكَّلة. وبما أن الهوية البشرية مُبرمَجة على الحفاظ على الكينونة (Preservation of Being)، فإن الخوف من العدم يعمل كآلية دفاعية تمنع الإندماج الضروري مع المصدر السحري. الخوف من العدم هو في جوهره خوف من فقدان الذات المُتعيِّنة (The defined Self). الساحر، لكي يُتقن طاقة العدم، يجب أن يلغي كيانه مؤقتاً ليصبح قناة صافية، كما نوقش سابقاً. الخوف يرفع جداراً نفسياً و فلسفياً يحول دون هذا الإلغاء. إنه يصرخ: "لا تفنَ!"، ويُبقي الأنا مُتشبثة بحدودها وقيودها، مما يجعل التدفق السحري مشوَّهاً أو مستحيلاً. العدم يُمثّل مجال الإحتمالات المطلقة حيث كل شيء ممكن ولا شيء محدد. الخوف البشري يبحث عن اليقين، عن القوانين، وعن الهياكل الثابتة. هذا التعطش للثبات يجعل العقل الباطن يقاوم الغوص في اللامحدودية و الفوضى الخلاقة للعدم، مُفضِّلاً البقاء آمناً ضمن حدود السحر المُقيَّد أو السحر العادي الذي يعمل ضمن قوانين مفهومة، بدلاً من إتقان السحر الفوضوي (Chaos Magic) الذي يستمد قوته من الـلاقانون. على الجانب الآخر، يُمثّل الخوف من العدم أيضاً أقوى محفز يمكن أن يدفع الساحر نحو السعي لإتقان القوة. هذا التحول يحدث عندما يتم ترويض الخوف وإستثماره. أحد أعمق أشكال الخوف من العدم هو الخوف من الموت و النسيان. يُمثّل السحر، في هذا السياق، الوسيلة الأمثل لتجاوز القيود البيولوجية والفناء. الدافع وراء إستخدام السحر قد يكون، جزئياً، الرغبة في ترك أثر دائم، أو تغيير الواقع بطريقة تُثبت وجود الساحر وقوته بما يتجاوز زمنه المحدود. هنا، يُصبح السحر هو سلاح الوعي ضد الـلاوجود. عندما يواجه الإنسان هشاشة وجوده الذي هو في النهاية مُعرَّض للعدم، فإنه يسعى لإمتلاك قوة تُعطيه الوهم بالسيطرة على مصيره وعلى الواقع. السحر يُقدّم هذا الوعد. الساحر الذي يُدرك الخطر الوجودي للعدم، يسعى لـسَرْقَة القوة من هذا العدم نفسه ليستخدمها في إعادة تشكيل عالمه. يتحول الخوف من القوة المجهولة إلى إستخدام للقوة المجهولة. في بعض المذاهب السحرية، يتم إستخدام الخوف كمادة خام لـتعزيز النية أو الإرادة الحقيقية (True Will). مواجهة الخوف تُولّد تركيزاً لا مثيل له. عندما يضع الساحر كل كيانه على المحك، فإنه يُفعّل قوة إرادية هائلة لا يستطيع توليدها في حالة الرخاء والأمان. الخوف من الفشل أو الفناء يُصبح وقوداً يُسخّن به الساحر أدواته ويُشعل به طقوسه. إن الإتقان الحقيقي للسحر، لا سيما ذلك المرتبط بالعدم، يكمن في تجاوز هذه الثنائية. الساحر المتقن ليس هو الذي قهر الخوف، بل هو الذي إحتوى العدم بداخله، مُدركاً أن العدم ليس شيئاً خارجياً يُهدده، بل هو الجوهر غير المُتشكِّل لكينونته. في هذه اللحظة، يتوقف الخوف عن كونه عائقاً مُقاوِماً للذوبان أو دافعاً للسيطرة على العدم. عندما يتقبّل الساحر العدم، تتحول طاقته من الخوف المرتبط بالإنفعال و الذات المحدودة إلى الهيبة أو الوقار الهادئ (Awe/Reverence)، وهي حالة حيادية تسمح له بالعمل مع العدم بدلاً من العمل ضده أو هرباً منه. في هذه الحالة من التوازن السحري، يُصبح الساحر قادراً على توجيه طاقة العدم دون أن تُفنيه هذه الطاقة أو تُسيطر عليه. خلاصة القول؛ الخوف من العدم هو إختبار عبور أنطولوجي. إنه يبدأ كعائق يُمثّل رفض الذات المحدودة للتخلي عن كينونتها. لكنه يتحول إلى دافع يُمثّل إصرار الذات المحدودة على البقاء والخلود عبر القوة السحرية. الإتقان يتم عندما يتجاوز الساحر الخوف و يحتوي العدم، مُدركاً أن القوة السحرية الحقيقية ليست في الهروب من العدم، بل في إستدعائه وتجسيده في الواقع المُتعيَّن.
_ التحول السحري: جدلية الجوهر الأنطولوجي وإعادة ترتيب الفراغ الكمومي
إنَّ التساؤل حول طبيعة التحول الذي يُحدثه السحر في الكيان، سواء كان تحولاً حقيقياً جوهرياً وأصيلاً أو مجرد إعادة ترتيب للفراغ بين الذرات، هو سؤال جوهري يقع عند تقاطع الفلسفة الميتافيزيقية والفيزياء الكمومية الحديثة، و يُشكّل أحد أعقد الألغاز في العلاقة بين الإرادة والواقع. للإجابة على هذا التساؤل، يجب أن نغوص في مستويين من التحليل؛ المستوى المادي الظاهري، والمستوى الأنطولوجي الباطني. من منظور مادي أو علمي مُحدَّث، يُمكن تفسير الفعل السحري على أنه عملية إعادة تنظيم للمادة والطاقة، أو بعبارة أدق، إعادة تشكيل للـفراغ الكمومي الذي تتواجد فيه الذرات. تُظهر الفيزياء الكمومية أن الفراغ ليس مجرد لا شيء، بل هو بحر من الإحتمالات والطاقة الإفتراضية (Zero-Point Energy). المادة الصلبة التي نراها ليست سوى تذبذبات في هذا الفراغ. إذاً، التحول السحري قد لا يكون تدميراً أو خلقاً من العدم بالمعنى التقليدي، بل هو توجيه الإرادة (Will) للتدخل في هذا الفراغ. الساحر، وفق هذا التفسير، لا يُغيّر الجوهر الأصلي للمادة، بل يُغيّر نمط تذبذبها أو العلاقات المكانية والزمانية بين مكوناتها. فمثلاً، تحويل الرصاص إلى ذهب قد يكون مجرد إستخدام الإرادة لتغيير الترتيب المداري للبروتونات و الإلكترونات، وليس خلق مادة جديدة من الفراغ. إنه تغيير للـبنية (Structure) وليس تغيير الـ جوهر (Essence). هذا المنظور يُلائم فكرة أن السحر يعمل عبر الإشارات والرموز التي تُعيد برمجة الواقع. على النقيض من ذلك، يصر الفكر السحري التقليدي و الفلسفة الباطنية على أن التحول الذي يحدثه السحر هو حقيقي و جوهري، يمس الـماهية (Quiddity) وليس فقط ترتيب الـكيفية. يُنظر إلى الواقع المادي (الكيان) على أنه تجسيد مُكثَّف لمجموعة من الأفكار أو النماذج الأصلية (Archetypes) التي تنبثق من العدم السحري. التحول السحري الحقيقي يتطلب الوصول إلى شفرة الوجود و تغييرها من منبعها. هذا يعني أن الساحر لا يُغيّر فقط مكان الذرات، بل يُغيّر الخاصية الأساسية التي تُعرّف تلك الذرات. إن الـتحول الحقيقي يتم على مستوى أنطولوجي أعمق، و هو مستوى الإرادة الكونية أو الطاقة الإبداعية. عندما يُلغي الساحر كيانه ويصبح قناة للعدم، فإنه يسمح لإرادة الـلاشيء التي هي كل شيء ممكن أن تتجسد في شكل جديد. هذا التجسيد ليس مجرد تبديل للمواقع؛ بل هو إعادة تعريف للوجود نفسه من خلال القوة الأصلية. فإذا تم تحويل الماء إلى نبيذ سحرياً، فإن الخاصية الجوهرية للماء قد إختفت و إستُبدلت بـماهية النبيذ، وليس مجرد إعادة ترتيب لجزيئات -$-H_2O-$- بطريقة تُوهم الحواس. في هذا المنظور، التحول الحقيقي هو فعل خلق مُصغَّر يُحاكي كيف أن الكينونة بأكملها إنبثقت من العدم. إذا كان الساحر يستخدم قوى الخلق نفسها، فإن التغيير يكون حقيقياً. إنه ليس تبادلاً لبطاقات، بل هو إعادة كتابة للصفحة. التحليل الفلسفي الأعمق يُشير إلى أن هاتين الفكرتين ليستا بالضرورة متناقضتين، بل هما وجهان لعملة واحدة، يمثلان مستويين مختلفين للواقع. التحول السحري حقيقي وجوهري على مستوى الإرادة والنية الميتافيزيقية للساحر، أي على مستوى تغيير الـسبب (The Cause) للظاهرة. هذا السبب هو الذي يمس الجوهر. لكن هذا التحول الجوهري لا يمكن أن يتجلى في عالم الكينونة المادي إلا من خلال آليات إعادة الترتيب و التنظيم. فـإعادة ترتيب الفراغ بين الذرات هي ببساطة الآلية الفيزيائية التي يتجسد بها التغيير الجوهري الأنطولوجي. هي تأثير (The Effect) التحول الجوهري. إن السحر يُحدث تحولاً حقيقياً في جوهر الكيان على المستوى الميتافيزيقي والأنطولوجي يمس تغيير الـماهية من منبعها في العدم. ولكي يظهر هذا التحول في الواقع المادي، فإنه يتخذ شكل إعادة ترتيب دقيقة ومعقدة للغاية للفراغ و المكونات الذرية والطاقية، مما يُثبت أن الإرادة السحرية قادرة على إعادة كتابة القوانين الطبيعية للواقع.
_ الساحر وقوى العدم: تحوّل الكيان من الإنسانية المُقيّدة إلى الإنسانية المُتجاوزة (Transcended Human)
إنَّ التساؤل عما إذا كان الساحر الذي ينجح في إستدعاء قوى العدم يصبح أكثر أو أقل إنسانية هو محور فلسفي عميق يلامس جوهر التعريف البشري والقدرة على التسامي. في إطار الفلسفة السحرية للعدم، لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بـأكثر أو أقل بشكل مطلق، بل يجب النظر إليه كـتحول جذري في الوجود الإنساني يُنتج مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز الحدود التقليدية. يمكن الجدل بأن الساحر يصبح أقل إنسانية بالمعنى التقليدي للكلمة، وذلك لأنه يتخلى عن السمات التي تُعرّف الإنسان في حدود الوجود المادي والإجتماعي. لكي يستدعي الساحر قوى العدم التي هي لا شكل لها ولا قيود، يجب عليه أن يُلغي كيانه (ذاته) مؤقتاً. هذا الإلغاء يعني التخلي عن الهوية الشخصية المُعرَّفة بالإسم، والجنس، والطبقة، والعواطف المُقيِّدة. الإنسانية غالباً ما تُعرّف بمجموع هذه التقييدات والظروف المشروطة. عندما يذوب الساحر في العدم، فإنه يتجاوز هذه القيود، و بذلك يبتعد عن الإنسانية المُتعيِّنة. قوى العدم بطبيعتها باردة، محايدة، وموضوعية؛ إنها قوة رياضية أنطولوجية لا تعرف الرحمة أو الكراهية أو الخوف بالمعنى البشري. لكي يصبح الساحر قناة فعالة لهذه القوى، يجب عليه أن يُجرِّد نفسه مؤقتاً من العواطف البشرية الدافئة والخاصة مثل التعاطف، أو الغضب الشخصي التي قد تُشوّه عملية الإستدعاء. هذا التجريد العاطفي قد يجعله يبدو في عيون الآخرين أكثر برودة أو بعداً، أي أقل إنسانية في تفاعلاته اليومية. على الجانب الآخر، يُمكن القول بأن الساحر، من خلال الوصول إلى العدم، يصبح أكثر إنسانية لأنه يُحقق الإمكانات الوجودية القصوى للوعي البشري. الفلسفة الباطنية ترى أن الجوهر الإنساني الحقيقي ليس في الجسد المادي و الأنا المحدودة، بل في الإمكانية الكامنة للإرتقاء و الوعي الكوني. عندما يستدعي الساحر قوى العدم، فإنه يتصل بالبُعد الذي يربط إنسانيته الفردية بـالوعي الكوني الشامل (الـماكروكوزم). هذا الإتصال هو تحقيق للغرض الأسمى من الوجود البشري، ألا وهو الخلق والتسامي. من هذا المنظور، فإن الساحر لا يفقد إنسانيته، بل يُكمّلها ويُطلق سراحها من قيود المادة. القدرة على تغيير الواقع بالإرادة هي السمة الأكثر تميزاً للإنسان المُتطوِّر في هذا الإطار الفلسفي. الساحر الذي ينجح في إستدعاء العدم يكتسب قوة إرادة مطلقة تتجاوز الإرادة الشخصية المُقيدة. هذه الإرادة القادرة على صياغة الواقع هي قمة ما يمكن أن تصل إليه التجربة الإنسانية المُدركة والمُتحكمة. إنها التعبير الأقوى عن الإرادة الحقيقية (True Will) التي هي جوهر الكيان البشري غير المُشوَّه. إن أفضل وصف للساحر الناجح في هذا المسار هو أنه يصبح إنساناً مُتجاوزاً (Transcended Human). إنه ليس مجرد أكثر أو أقل، بل هو آخر. يمر الساحر بتجربة ثنائية، الإرتفاع (Ascension) إلى مستوى الوعي الكوني (العدم)، والعودة (Return) إلى عالم المادة لتجسيد إرادته. في مرحلة الإرتفاع، يبدو أقل إنسانية لأنه يتخلى عن سمات الأنا. في مرحلة العودة، يستخدم قوته الجديدة لتحسين أو تغيير عالمه البشري، مما قد يجعله يبدو خارقا للإنسانية (Superhuman)، ولكنه لا يزال يخدم الوجود الذي كان جزءاً منه. يكمن الخطر في فقدان القدرة على العودة؛ إذا ذاب الساحر في العدم بشكل دائم، فقد يصبح فعلاً أقل إنسانية أو غير إنساني (Non-human)، يتحول إلى كيان طاقي أو قوة محايدة. أما الساحر المُتقن، فهو يمتلك القدرة على الحفاظ على جسر الإتصال بين الأنا المحدودة والوعي الكوني، ليجمع بين قوة العدم وصفاء الإنسانية الواعية. إن الساحر الذي ينجح في إستدعاء قوى العدم يتحول إلى بُعد جديد من الوجود الإنساني. إنه يتخلى عن الإنسانية الساذجة والمُقيَّدة ليكتسب الإنسانية الواعية والمُحرَّرة التي تحقق أقصى إمكاناتها في التحكم بالواقع. هذا التحول ليس نقصاناً، بل هو توسيع لتعريف ما يمكن أن يكون عليه الكيان البشري.
_ الإندماج في العدم المطلق: مفارقة الهدف النهائي للساحر الأعظم بين الفناء الوجودي و التحول إلى كينونة خالقة
إنَّ التساؤل حول ما إذا كان الهدف النهائي للساحر الأعظم هو الإندماج الكامل في العدم المطلق (Unqualified Nothingness) أو (Ain Soph) في بعض التقاليد يُمثّل قمة الجدل الفلسفي والأنطولوجي في المذاهب الباطنية. هذا الهدف، الذي قد يُشبه مفهوم النيرفانا (Nirvana) أو الفناء (Fana’a) في التصوف، هو نقطة التماس بين الإرادة الفردية و الوجود الكوني المطلق. يرى العديد من الفلاسفة و الممارسين الباطنيين أن الإندماج الكامل في العدم هو بالفعل الهدف الأسمى والأكثر جذرية الذي يمكن أن يسعى إليه الوعي المُتسامي. السحر هو رحلة العودة إلى الأصل. إذا كان العدم هو المصدر الأنطولوجي لكل الكينونة الـلاشيء الذي منه جاء كل شيء، فإن العودة إليه و الذوبان فيه يُمثّل تحقيقاً لـ الوحدة المطلقة أو الإتحاد الصوفي. الساحر الأعظم، بعد أن أتقن السيطرة على الكينونة والتلاعب بها، يُدرك أن القوة الحقيقية تكمن في التوقف عن التمييز بين الذات والكون. الإندماج هو نهاية الإغتراب الوجودي وبداية المعرفة الكلية. مادامت للساحر إرادة شخصية أو أنا، فإنه يبقى مُقيَّداً بقوانين السببية والزمان والمكان. الإندماج في العدم المطلق يعني التحرر الكامل من هذه القيود، حيث تتوقف الإرادة الفردية عن الوجود وتُصبح مُستهلَكة في الإرادة الكونية اللاواعية للعدم. هذا التحرر ليس سلبياً، بل هو إمتلاء بالحرية المطلقة التي لا يمكن تخيلها ضمن حدود الكينونة الفردية. عندما يبلغ الساحر درجة الإتقان القصوى، يُدرك أن الفعل السحري الذي هو توجيه الإرادة لتغيير الواقع هو مجرد أداة للوصول إلى حالة أعلى. بمجرد الوصول إلى الإندماج، تتوقف الحاجة إلى إستخدام الأداة. لم يعد هناك ساحر، ولا فعل سحري، ولا هدف للتحقق، بل هناك وجود محض غير مُتشكِّل. يُصبح الساحر هو العدم الذي كان يسعى إليه. مع ذلك، هناك تيار فلسفي سحري آخر يُجادل بأن الإندماج الكامل ليس هو الهدف، بل قد يكون فخاً، أو يُمثّل نهاية الرحلة بدلاً من تحقيق غايتها. إذا كان الإندماج يعني الفناء التام للهوية والوعي الفردي، فإن الهدف السحري يفقد معناه، لأن الساحر يختفي من الوجود ولا يعود قادراً على تجسيد القوة في العالم. الهدف من السحر ليس الهروب من الكينونة، بل إتقانها و تحويلها. الساحر الذي يذوب كلياً يفقد قدرته على التأثير. يُمكن أن يكون الهدف النهائي هو الوصول إلى حالة الإتصال الدائم والمُتحكَّم به بالعدم، مع الإحتفاظ بالكيان الإنساني كجسر وقناة. في هذه الحالة، يصبح الساحر الأعظم وعياً مُنظَّماً للعدم؛ أي أنه يمتلك قوة العدم المطلقة، ولكنه يختار الإبقاء على شكله البشري أو ما شابه ليعمل كـمُنشئ ومُبدع للواقع، بدلاً من مجرد تلاشي فيه. هو يُصبح الإله الصغير (Micro-God) الذي يحمل قوة العدم ووعي الكينونة في آن واحد. تصر بعض المذاهب على أن الإرادة (Will) هي القيمة السحرية العليا. الإندماج الكامل يُلغي الإرادة الفردية. بينما يرى هؤلاء أن القمة هي إخضاع قوى العدم للإرادة الواعية للساحر، و ليس التخلي عنها. الساحر الأعظم هو الذي يفتح باب العدم ويغلقه بإرادته، و يُسيطر على طاقته دون أن يستهلكه العدم. التحليل الأعمق يُشير إلى أن الهدف يكمن في مفارقة (Paradox) الإندماج والعودة. قد يكون الإندماج الكامل في العدم هو التجربة النهائية التي يجب أن يخوضها الساحر ليصبح سيداً على كل شيء. الساحر يذهب إلى العدم، يذوب فيه، يكتسب المعرفة الكاملة بطاقة الخلق والفناء، ثم يعود مختاراً إلى عالم الكينونة وهو يحمل معه الجوهر اللامحدود للعدم. الهدف النهائي ليس الفناء، بل التحوّل الأنطولوجي من كينونة مُقيَّدة إلى كينونة مُحرَّرة وكاملة. هذا التحوّل يتطلب المرور عبر الإندماج كـنقطة عبور لا يمكن تجنبها. الساحر الأعظم لا يصبح عدماً، بل يُصبح جسراً بين العدم والكينونة، قادراً على صياغة الواقع بصفاء مطلق. إن الهدف النهائي للساحر الأعظم هو إتقان العدم لدرجة أنه يستطيع أن يختار إما الذوبان فيه أو البقاء كـمُنشئ يحمل جوهره. الإندماج الكامل هو إحدى النهايات الممكنة و المغرية، ولكنه قد يُمثّل في الواقع المرحلة الأخيرة من التدريب التي تُحوّل الساحر إلى كائن خالق وواعٍ يتجاوز حدود البشرية والإلهية على حد سواء.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس
...
-
الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس
...
-
الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس
...
-
الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا
...
-
الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
-
السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ
...
المزيد.....
-
زيلينسكي: أوكرانيا تريد ضمانات أمنية -مُؤكدة- قبل مغادرة ساح
...
-
مصر.. لماذا ارتفع الدين الخارجي خلال 2025؟
-
المغرب يبلغ نهائي كأس العرب بعد فوزه على الإمارات بثلاثية نظ
...
-
إف بي آي: أحبطنا تهديدا إرهابيا وشيكا في لوس أنجلوس
-
برّاك يلتقي نتنياهو خلال زيارة -بالغة الحساسية- لإسرائيل
-
حركة -23 مارس- تأسر جنودا بورونديين بعد أيام من اتفاق واشنطن
...
-
كاتب إيطالي: أوروبا تستعد جديا لحرب محتملة مع روسيا
-
وفاة شاب تونسي عقب -مطاردة أمنية- تشعل احتجاجات بالقيروان
-
فيضانات آسفي تودي بحياة العشرات وتغرق منازل ومحال تجارية
-
تقدّم حذر في مفاوضات برلين.. زيلنسكي: نؤكد على أهمية الضمانا
...
المزيد.....
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
المزيد.....
|