أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-















المزيد.....

الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 23:31
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ الإيمان الأنطولوجي وفعالية العدم: تحويل اللاوجود السلبي إلى قوة تخليقية كشرط لإتقان السحر

هذا التساؤل يضعنا في صميم العلاقة بين المعتقد (Belief) و الوجود (Ontology) في سياق الممارسة السحرية. السؤال هل تتطلب ممارسة السحر إيمانًا أنطولوجيًا بأن العدم قوة فعالة وليست مجرد غياب؟ للإجابة، يجب أن نميز بين الإيمان السيكولوجي (الإعتقاد الشخصي) والإيمان الأنطولوجي (الإعتقاد بطبيعة الوجود ذاته)، وكيف أن هذا الأخير هو مفتاح تحويل العدم السلبي إلى العدم الفعال. الإيمان الأنطولوجي هنا ليس مجرد تصديق فكري، بل هو تغيير جذري في تصور الساحر لبنية الواقع. هو الإعتقاد الجازم بأن العدم ليس فراغًا سلبيًا (Absence) بل هو حالة أصلية، أو حوض طاقة كامنة (Potency Reservoir). هو ليس مجرد غياب للشيء، بل هو وجود للإمكانية المطلقة. هي القدرة الكونية على البدء، أو خلق شيء من خارج تسلسل السبب والنتيجة المعتاد. العدم هو الجوهر الأصلي، هو المادة الأولى (Materia Prima) التي تسبق وتغلف الوجود، وبالتالي يجب التعامل معه كـكيان فعال له قواعده الخاصة وإن كانت متعالية على الفهم. بدون هذا الإيمان الأنطولوجي، يظل العدم مجرد مفهوم فلسفي مجرد، غير قابل للتطبيق العملي في تغيير الواقع. إذا تعامل الساحر مع العدم على أنه مجرد غياب (Nihil Negativum). ستتعارض إرادة الساحر بإستمرار مع هذا المفهوم. العقل البشري، الذي بُني على مبدأ أن الوجود يأتي من الوجود، سيشكك لا إراديًا في إمكانية خلق شيء من لا شيء مطلقًا. هذا الشك يمثل مقاومة نفسية تضعف تركيز الإرادة، و بالتالي تفشل العملية السحرية. إذا رأى الساحر العدم كفراغ، فلن تكون إستجابته فعالة، بل قد تكون إستسلامًا. الساحر يجب أن يتواصل مع العدم ليُطلق منه شيئًا، بينما الفراغ المطلق لا يمكن أن يستجيب أو يُطلق شيئًا. الإيمان بأن العدم هو قوة فعالة ضروري لعدة أسباب عملية في ممارسة السحر. أولا: تفعيل الإرادة (The Activated Will) في السحر، الإرادة هي الأداة الوحيدة للتوسط بين العدم و الوجود. الإيمان الأنطولوجي يمنح الإرادة الثقة المطلقة، الثقة بأن القناة التي يفتحها الساحر بين العدم و الوجود هي قناة موثوقة وفعالة، وليست مجرد وهم. الإيمان بأن العدم يستطيع أن يخلق يحرر الساحر من قيود قوانين الطبيعة الموجودة، و يجعل نية الفعل متمحورة حول الخلق الأولي بدلاً من التلاعب الثانوي. ثانيا: إستحضار الحضور الرمزي للعدم. على الرغم من أن العدم غير موجود ماديًا، فإن الساحر يحتاج إلى إحضاره رمزيًا في الطقوس، والتعويذات، و الرموز (Sigils). هذه الأدوات الطقسية لا تعمل كأدوات فيزيائية، بل كـمكثفات للإيمان الأنطولوجي. هي نقاط تركيز تجعل مفهوم العدم الفعال ملموسًا عقليًا، مما يسهل على الساحر الوصول إلى حالة العدم العقلي والإتصال بالمصدر الكوني. يتطلب إتقان السحر إيمانًا أنطولوجيًا بأن العدم قوة فعالة. هذا الإيمان ليس مجرد شرط نفسي لتحقيق الثقة، بل هو شرط وجودي يحدد طبيعة الفعل السحري. فالفعل السحري هو محض وهم نفسي أو تلاعب بالطاقات المعروفة. إذا كان العدم قوة فعالة فالفعل السحري هو خلق حقيقي من لا شيء، و هو ما يرفع الساحر من مجرد مُستخدِم للطاقة إلى خالق مشارك (Co-Creator) يعمل في تماثل مع المصدر الأصلي للكون. إن الإيمان بأن العدم يمتلك القوة هو الذي يحوّل الساحر من كونه كائناً محدوداً إلى كائن قادر على إستدعاء القوة التأسيسية للكون.

_ فشل السحر وطغيان الوجود: هل المقاومة الكونية للسببية دليل على هيمنة النظام أم قصور في الإرادة الساحرة

هذا التساؤل يمثل نقطة التحول الدرامية في الفلسفة السحرية، حيث يضعنا أمام واقع التجربة الإنسانية المتمثل في فشل السحر، و يتساءل عما إذا كان هذا الفشل دليلاً قاطعاً على طغيان الوجود (The Tyranny of Existence) وهيمنته التي تجعل تجاوز العدم أمرًا مستحيلاً. هذا التحليل يتطلب منا دراسة فشل السحر ليس كقصور تقني، بل كظاهرة فلسفية تعكس الصراع بين النظام (الوجود) و الفوضى (العدم). في هذا الإطار الفلسفي، يُقصد بـطغيان الوجود القوانين والأنظمة الثابتة و المترابطة التي تحكم الكون المادي والزماني، و منها قوانين الحفظ (Conservation Laws) مثل حفظ الطاقة والمادة. هذه القوانين تفرض أن الوجود مغلق على نفسه، ولا يسمح بالإختراق من مصدر خارجي غير موجود (العدم). الواقع الذي نعيش فيه مُقيد بالسببية؛ كل شيء له سبب يسبقه في الزمن والمكان. هذا التسلسل هو نقيض لعملية الخلق من العدم، التي تتطلب فعلاً غير مسبب (Uncaused). إذا كان الوجود يتمتع بهذا الطغيان، فإنه يعمل كـجدار صلب يمنع تدفق القوة التخليقية من العدم إلى الواقع الملموس. عندما يفشل الساحر في تحقيق فعله، قد يُفسّر هذا الفشل على أنه تأكيد للفرضية القائلة بأن الوجود أقوى من الإرادة الساحرة التي تسعى إلى تجاوزه. يُنظر إلى فشل الفعل على أنه مقاومة النظام الكوني للإدخال العشوائي وغير المسبب. النظام الطبيعي يعيد إغلاق الثغرة التي حاول الساحر فتحها نحو العدم، ويفرض قوانينه مرة أخرى. طغيان الوجود قد يُرهق العقل الساحر. للوصول إلى العدم العقلي (تفريغ الذات)، يجب على الساحر أن يقاوم كمية لا نهائية من البيانات والأحكام والتصنيفات التي يفرضها الوجود على الوعي. الفشل هنا هو دليل على أن الوجود غزير جداً لدرجة أن العقل لا يستطيع أن يفرغ نفسه بشكل كافٍ لفتح القناة. قد يمثل الفشل تذكيراً قاسياً بأن الذات الساحرة هي في النهاية جزء من الوجود، ومقيدة بقوانينه، وأنها لا تستطيع التخلص من جوهرها المادي والزمني بسهولة. في المقابل، ترفض الفلسفات السحرية الباطنية إعتبار فشل السحر دليلاً على طغيان الوجود، وتعتبره دليلاً على قصور داخلي في الساحر نفسه. الفشل ليس دليلًا على قوة الوجود، بل على ضعف الإيمان الأنطولوجي للساحر. إذا كان الساحر يشك في أن العدم قوة فعالة، فإن هذا الشك الداخلي يُعد بحد ذاته بذرة الوجود تنمو داخل الوعي، مما يقوض حالة الصفر اللازمة للإتصال بالعدم. السحر يفشل لأن الساحر لم يصل إلى حالة العدم العقلي المطلق. أي وجود لمحتوى ذهني، شك، خوف، هدف شخصي مادي يمنع الإرادة من أن تصبح إرادة كونية قادرة على إستدعاء الخلق الأولي. الفعل السحري يتطلب أن تكون الإرادة نقطة واحدة غير منقسمة في مواجهة الوجود المتعدد. الفشل دليل على أن إرادة الساحر كانت مشتتة أو ضعيفة، مما سمح لقوانين الوجود المحيطة التي تعمل دائمًا بالإستمرار في فرض نفسها. يمكن تلخيص العلاقة بين فشل السحر و طغيان الوجود في أن الفشل هو ليس بالضرورة دليلاً على إستحالة تجاوز العدم، بل هو دليل على صعوبة بالغة في خلق رابط فعال بين عالمين وجوديين متناقضين. الفشل السحري يؤكد على أن السحر ليس عملية سهلة أو يمكن تكرارها عشوائياً. إنها عملية تتطلب التناغم التام مع مصدر متعالٍ. هذا الفشل يعيد تأكيد الغموض السحري ويمنع تحوله إلى قانون فيزيائي، مما يحافظ على طبيعته كـخلق من العدم. النتيجة طغيان الوجود حقيقي الذي يعمل كقوة مضادة دائمة، لكنه ليس مستحيلاً تجاوزه. فشل السحر هو في الغالب دليل على أن الساحر لم يرفع إرادته وإيمانه إلى المستوى الذي يتطلبه البرهان السحري (الخلق من اللاشيء).

_ مشكلة اللغة السحرية: تجاوز النفي الوجودي و تحويل اللغة البشرية إلى آلية تأسيسية للخلق من العدم

هذا التساؤل يركز على واحدة من أقدم المعضلات في الفلسفة والسحر على حد سواء: مشكلة اللغة (The Problem of Language). إذا كان السحر يستمد من العدم، والعدم متعالٍ على الوجود، فكيف يمكن للغة، التي هي نتاج للوجود وتعبير عنه، أن تصف أو تتوسط العلاقة بينهما؟ وهل يحتاج الساحر إلى لغة خاصة؟ التحليل يقودنا إلى إستنتاج مفاده أن اللغة العادية عاجزة تمامًا، وأن الساحر لا يحتاج فقط إلى لغة خاصة، بل إلى نظام تواصل وجودي يتجاوز حدود الصوت والمعنى. اللغة البشرية (اللغة الطبيعية) تعمل وفقًا لمبادئ الـدلالة (Semantics) و التركيب (Syntax)، و كلاهما مرتبط إرتباطًا وثيقًا بالوجود المادي و التجريبي. الكلمات ترمز إلى أشياء موجودة، شجرة، ماء، أو مفاهيم مشتقة من الوجود، الزمن، الطاقة. عندما نحاول وصف العدم بكلمات مثل لا شيء أو فراغ، فإننا في الواقع نستخدم النفي الوجودي (Existential Negation) أي أننا نصف ما هو موجود وننفيه، بدلاً من وصف العدم في جوهره. اللغة تفشل في وصف العدم كما هو، بل تصفه فقط بحدود الوجود. العدم متعالٍ، مما يعني أنه لا يمكن الإشارة إليه مباشرة. اللغة تعمل عبر الإشارة (Reference)، فإذا كان العدم لا يقع ضمن إطار الوجود، فليس هناك أي شيء تشير إليه اللغة العادية. كل وصف للعدم يصبح مجرد مجاز أو تناقض ذاتي، وهذا هو مصدر الغموض الذي تحدثنا عنه سابقًا. بما أن اللغة العادية غير صالحة، فإن الساحر يحتاج إلى لغة أو نظام إتصال يتوافق مع طبيعة العدم المتعالية. هذا النظام اللغوي يجب أن يكون أكثر من مجرد وسيلة للتواصل؛ يجب أن يكون آلية للخلق. اللغة السحرية ليست وصفية، بل تأسيسية أو خلاقة. هي لا تصف الواقع، بل تُنشئه. تتكون هذه اللغة من الرموز، والأسماء المقدسة، و التعويذات. هذه العناصر لا تحمل معانٍ في السياق البشري العادي، بل تحمل قوة إرادة مُكثفة تهدف إلى إختراق حواجز الوجود. قد تتخذ اللغة السحرية شكل أصوات أو حروف مُركبة بطريقة لا تتبع قواعد النحو البشري مثل لغة الملائكة المفترضة أو لغة إينوخية. الهدف هو تفكيك العقل من دلالاته المعتادة ودفعه نحو حالة العدم العقلي، وبالتالي، تصبح اللغة وسيلة للوصول إلى العدم، وليس مجرد وصف له. الترميز السحري هو أرقى أشكال اللغة السحرية الخاصة في هذا الإطار. الساحر يحول النية المعقدة التي قد تكون وصفًا للعدم أو ناتجًا مطلوبًا منه إلى رمز بصري خالص (Sigil). هذا الرمز لا يُقرأ بل يُدمج أو يُشحن بالطاقة. الرمز يتجاوز إزدواجية اللغة العادية (صحيح/خطأ، وجود/غياب). يصبح الرمز هو النقطة الصفرية التي تلتقي عندها النية بالعدم. هذا النظام اللغوي يتوافق مع طبيعة العدم لأنه تأسيسي ولا وصفي. عندما يحاول الساحر ممارسة السحر باللغة العادية، فإنه يفرض على الفعل السحري قيودًا وجودية. إستخدام اللغة العادية لتحديد الهدف السحري مثلاً: أريد سيارة حمراء موديل 2025 يفرض على العدم إطارًا ضيقًا ومحددًا بالوجود. العدم، بصفته إمكانية مطلقة، يُقاوم هذا التقييد، مما يؤدي إلى فشل السحر. اللغة العادية تعبر عن قوة محدودة ومألوفة. إستخدام لغة خاصة غير مفهومة بالمنطق البشري يحرر الإرادة من حدود اللغة ويسمح لها بالإتصال بالقوة التخليقية اللانهائية للعدم. يحتاج الساحر إلى لغة خاصة. هذه اللغة الخاصة ليست مجرد مجموعة من المصطلحات السرية، بل هي نظام إبستمولوجي يهدف إلى فك الإرتباط بالوجود، أي فصل الوعي عن قيود اللغة العادية التي تؤكد على الوجود. كذا توفير وسيلة رمزية للتواصل مع العدم المتعالي. ثم العمل كقوة تأسيسية (Foundation) لتشكيل الوجود الجديد من العدم. اللغة السحرية هي لغة التكوين، وليست لغة الوصف.

_ المعرفة السحرية للعدم: تكامل الحدس المتعالي والتحقق التجريبي في تحقيق الخلق غير المسبب

هذا التساؤل يطرح معضلة إبستمولوجية حاسمة في مجال المعرفة السحرية: هل يمكن تصنيف المعرفة السحرية للعدم ضمن الإطارات التقليدية للمعرفة التجريبية أو الحدسية؟ أم أنها تتطلب تكاملاً يتجاوزهما؟ للإجابة، يجب أن نؤكد أن المعرفة السحرية للعدم ليست إما تجريبية (Empirical) خالصة أو حدسية (Intuitive) خالصة، بل هي عملية تكاملية ومتطورة تتضمن المسارين معًا. العدم، بصفته متعاليًا على الزمان والمكان والمادة، لا يمكن إدراكه من خلال الحواس. لذلك، فإن نقطة الانطلاق الأساسية للمعرفة السحرية هي المعرفة الحدسية. كما ناقشنا سابقًا، يبدأ الساحر بالوصول إلى حالة العدم العقلي عبر التأمل والتركيز العميق. هذه العملية تهدف إلى إيقاف عمل العقل التحليلي و الحسي، مما يفسح المجال أمام الوعي النقي للإتصال المباشر بالفراغ الكوني. في هذه الحالة، لا تُكتسب المعرفة عبر الإستنتاج المنطقي أو الملاحظة، بل عبر إندفاع مفاجئ ومباشر للوعي يخترق الحدود الإدراكية. الساحر يعرف طبيعة العدم كـإمكانية خالقة دون الحاجة إلى تحليل ذلك. المعرفة الحدسية هي التي تمنح الساحر الرؤية الأنطولوجية (Ontological Insight) الضرورية للإيمان بأن العدم قوة فعالة. هي تمنح الساحر الخريطة الذهنية لكيفية عمل اللاشيء. المعرفة الحدسية هي أساس الفهم النظري و الفلسفي للعدم. على الرغم من أن العدم لا يمكن إختباره مباشرة، فإن فعالية السحر المُستمد منه يجب أن تُختبر في حيز الوجود. هنا يأتي دور المعرفة التجريبية. يستخدم الساحر الطقوس، و الرموز، والتعويذات وهي أدوات تجريبية لتنفيذ الفعل السحري. النجاح في ظهور شيء من العدم (البرهان السحري) هو التحقق التجريبي من صحة المعرفة الحدسية. المعرفة التجريبية لا تتعلق بـتكرار السحر بالطريقة العلمية، بل تتعلق بتحسين تقنيات الإتصال بالعدم. يلاحظ الساحر أي الطقوس أو حالات التركيز (العدم العقلي) كانت أكثر فعالية في تحقيق نتائج غير مسببة. هذا التعديل العملي هو شكل من أشكال التعلم التجريبي. المعرفة التجريبية هي التي تحول الفهم الفلسفي للعدم إلى مهارة عملية (Practical Skill). إنها تثبت أن العدم يمكن بالفعل أن يكون مصدرًا للخلق في الوجود. المعرفة التجريبية هي أداة التحقق والتطبيق لقوة العدم. في سياق السحر المتعلق بالعدم، فإن الفصل بين الحدس والتجريب هو فصل مصطنع. المعرفة السحرية الحقيقية هي عملية تكامل و تناوب بين الإثنين، حيث يعمل كل منهما كدعم للآخر. الرؤية الحدسية لطبيعة العدم تمنح الساحر الثقة والنية اللازمتين لبدء الفعل. الممارسة العملية تحقق النتيجة وتمنح الساحر دليلاً على أن رؤيته الحدسية كانت صحيحة، مما يعزز الإيمان الأنطولوجي. كما أن فشل التجربة يدفع الساحر إلى التعمق أكثر في التأمل (الحدس) لتصحيح فهمه لطبيعة العدم و كيفية التعبير عنها (اللغة السحرية). المعرفة السحرية للعدم تشبه إلى حد كبير ما يُطلق عليه في الفلسفة الحدس المُختبر أو التجربة المضيئة بالحدس. إن الإتقان السحري لا يمكن أن يقوم على الحدس وحده لأنه قد يكون وهمًا ذاتيًا و لا على التجريب وحده لأنه سيقتصر على التلاعب بالطاقات الموجودة. المعرفة السحرية للعدم هي معرفة تكاملية و وجودية، هي الحدس الذي يُؤكَّد بالفعل غير المسبب. إنها الإندماج بين الفراغ الداخلي (الحدس) والفعل الخارجي (التجريب) الذي يخلق الواقع. الساحر يكتسب المعرفة الحدسية أولاً، ثم يستخدم التجربة كـبرهان سحري للتأكد من أن المعرفة الحدسية كانت حقاً إتصالاً بالعدم، وليست مجرد هلوسة ذاتية.

_ مفارقة التجسيد في السحر: هل يؤدي تحويل قوة العدم إلى الوجود إلى تدمير عدميته أم أنه يظل متعاليًا ولامتناهيًا

هذا التساؤل يطرح المفارقة المركزية في السحر المُستمد من العدم: فإذا كان هدف الساحر هو إخراج قوة العدم إلى حيز الوجود، فهل هذا التحويل من اللاوجود إلى الوجود المادي يؤدي حتماً إلى تدمير الصفة الأصلية للعدم؟ بمعنى آخر، هل يفقد العدم عدميته بمجرد تجسيده؟ للإجابة، يجب أن نميز بين تجسيد العدم ككيان كامل، وتجسيد قوة العدم كفعل تخليقي. الساحر لا يسعى إلى تجسيد العدم بحد ذاته أي جعله ماديًا ومقيدًا، لأن تجسيد العدم كليًا يعني تدميره تمامًا. العدم في جوهره هو اللاتناهي و اللاشكل. التجسيد يعني التناهي والشكل. بدلاً من ذلك، يسعى الساحر إلى تجسيد قوة العدم التخليقية، الهدف هو إخراج أثر أو جزء من الإمكانية اللامحدودة الكامنة في العدم وتحويلها إلى واقع ملموس، أي خلق مادة أو تغيير جذري غير مسبب. الفعل السحري الناجح هو عملية إستعارة أو إقتباس لقوة الخلق من العدم الكوني وتثبيتها في الواقع. النتيجة المادية (الشيء المُخلوق) هي التعبير عن هذا العبور. في هذا الإطار، لا يُصبح العدم نفسه ماديًا، بل يصبح مُنشِئًا ماديًا (A Material Creator). هنا تكمن المفارقة الفلسفية الأكثر تعقيدًا. بمجرد أن يتجسد جزء من قوة العدم في الوجود، فإنه يصبح مقيدًا، الشيء المخلوق يخضع فوراً لقوانين الوجود، الزمان، والمكان، وقانون حفظ الطاقة. العملة الذهبية التي خلقها الساحر تكتسب وزنًا وتاريخًا وتصبح قابلة للتآكل. إنها لم تعد جزءًا من اللاتناهي. العدم هو الغموض المطلق. بمجرد أن يتجسد الشيء، يصبح قابلاً للوصف والقياس و الملاحظة مما يزيل عنه صفة الغموض. قد يُجادل بأن كل عملية تجسيد هي إستنزاف ضئيل للإمكانية اللامحدودة للعدم، مما يجعله أقل عدمية مع كل فعل يخلق شيئًا. يمكن الدفاع عن بقاء صفة العدم من منظورين عميقين. العدم ليس شيئًا يمكن أن ينتهي بالإستنزاف. هو مثل محيط لا متناهٍ، وسحب قطرة منه (التجسيد) لا يغير شيئًا من طبيعة المحيط الكلية أو اللانهائية. يظل العدم متعاليًا و غير مقيد بالرغم من كل التجسيدات. يظل العدم هو القوة الفعالة و المهيمنة لأن كل ما تم خلقه من الوجود يجب أن يعود إليه في النهاية، الموت، التفكك، الفناء. العدم ينتظر دائماً في الطرف الآخر لـيستعيد ما تم تجسيده. في سياق السحر، التجسيد ضروري، فهو يمثل إثبات الفعل، التجسيد هو البرهان السحري الذي يثبت فعالية السحر وقوة العدم. بدون التجسيد، يظل الفعل مجرد نية داخلية أو تفكير حدسي غير مثبت. التجسيد هو الترجمة العملية للإيمان الأنطولوجي. التجسيد هو الشكل الأقصى و الأكثر فاعلية للغة السحرية حيث يتم تحويل النية الرمزية مباشرة إلى حقيقة مادية. الإجابة النهائية هي يسعى الساحر إلى تجسيد قوة العدم في شكل محدود، وهذا التجسيد لا يُفقد العدم صفته الأساسية المتعالية. العدم يظل متعاليًا، و غير مقيد، ولا نهائي. الشيء الذي يتغير ويصبح محدودًا هو الناتج (The Outcome) الذي تم تجسيده. هذا الناتج ينتمي إلى الوجود ويخضع لقوانينه، ولكنه يحمل بصمة اللاشيء في أصله. السحر هو محاولة مستمرة لإظهار أن الوجود يمكن أن يتشكل ويُخلق من العدم، دون أن يُلحق ذلك تغييرًا جوهريًا بالعدم نفسه، الذي يظل المحيط اللانهائي للإمكانية.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...


المزيد.....




- أردوغان: رسالتنا بشأن غزة تركت أثرا لدى ترامب
- تونس.. توقيف 21 شخصا إثر احتجاجات في القيروان
- أستراليا تعلن تفاصيل بشأن منفذيْ هجوم بوندي وتشيد بالمنقذ ال ...
- مرشح أقصى اليمين يفوز بالرئاسة في تشيلي
- تحول -غير مسبوق- من أوكرانيا.. وتقدم في مفاوضات وقف الحرب
- مستشار خامنئي: إيران ستدعم حزب الله بحزم
- الكافيين يطارد المراهقين في موسم الامتحانات.. انتباه لحظي وم ...
- فيديو متداول لـ-احتفال مؤيدي الحكومة السورية- بهجوم تدمر.. ه ...
- وسط تقدم المفاوضات.. أوكرانيا تتخلى عن طموح الانضمام للناتو ...
- اكتشاف لوحة فسيفساء ضخمة شمال غربي دمشق أثناء أعمال زراعية


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-