أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ السَّادِس-















المزيد.....


الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ السَّادِس-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 19:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ الإرادة السحرية وخلق الكيان (Ex Nihilo): جدلية التجسيد من الإمكان الكامن في العدم المطلق

يلامس هذا التساؤل إحدى أعمق المفارقات الفلسفية في السحر: هل يمكن للإرادة السحرية أن تتجاوز مبدأ السببية الكونية وتخلق كياناً جديداً Ex Nihilo من العدم المطلق دون أي أثر مسبق في سلسلة الوجود؟ للإجابة على هذا، يجب تفكيك مفهومي الوجود المسبق والعدم في إطار السحر الأنطولوجي. تفترض الفلسفات الكونية، سواء كانت علمية أو باطنية، مبدأ الحفظ الكوني، حيث لا يمكن لأي شيء أن ينبثق كلياً من الـلاشيء. الوجود هو سلسلة متصلة من التحولات الطاقية والإستحالات الشكلية. في الفلسفة السحرية للعدم، يُنظر إلى العدم المطلق (Ain Soph أو The Void) على أنه الخزان اللامحدود لكل الإمكانات. كل ما هو موجود حالياً، وكل ما سيوجد مستقبلاً، كان موجوداً بالفعل كـإمكانية غير مُتجسِّدة في هذا العدم. الوجود الظاهر هو مجرد تجسيد مؤقت لإحدى هذه الإمكانات. إذا كان العدم يحوي بالفعل كل شيء ممكن كـنُسخ خام أو بذور كامنة، فإن الفعل السحري لا يقوم بعملية خلق حقيقية للكيان، بل يقوم بعملية الإستدعاء أو التجسيد أو إطلاق الإمكانية. الكيان الجديد الذي يُخلقه الساحر لم يكن له أثر مادي مُتعيَّن سابق، لكن كان له أثر أنطولوجي كامن في سجل الإمكانات الكونية (العدم). إن الإدعاء بخلق كيان ليس له أي أثر مسبق يعني كسر المبدأ الأساسي للحفظ الأنطولوجي والسببية الكونية. الساحر، مهما بلغت قوته، يظل جزءاً من النظام الكوني، و قوته تنبع من الوصول إلى المصدر (العدم) وليس من الخلق خارج المصدر. لذلك، فإن الكيان الذي يُخلق سحرياً هو دائماً كيان مُعاد تشكيله أو كيان مُستدعى من الكامِن. يُمكن تعريف الفعل السحري بأنه عملية تجسيد (Actualization) لإمكانية موجودة، لا عملية خلق Ex Nihilo. نتذكر في التحليل السابق أن الفراغ ليس فارغاً، بل هو مليء بالإحتمالات المتذبذبة. الكيان الجديد الذي يخلقه الساحر لم يكن سوى موجة إحتمالية ضعيفة في هذا الفراغ. السحر هو تركيز الإرادة لإجبار هذه الموجة الإحتمالية على الإنهيار و التجسيد في الواقع المادي. هذا الكيان، رغم ظهوره المفاجئ، كان له أثر مسبق في شكل كمون إحتمالي. عندما يُخلق الكيان سحرياً، فإنه يُحدث إنحرافاً في سلسلة الوجود، لكنه لا يُلغيها. الكيان الجديد يبدأ سلسلة سببية جديدة، لكن جذوره تظل ممتدة إلى العدم المطلق كمصدر طاقي. إنه نتاج الإرادة التي إستمدت قوتها من الـلاشيء لتُشكّل الـشيء. يجب على الساحر أن يواجه مفارقة فلسفية عميقة حول هذا الموضوع. الإحساس بأن الساحر خلق كياناً جديداً تماماً قد يكون جزءاً من الوهم السحري الضروري لتعزيز الإرادة. الإيمان المطلق بالقدرة على الخلق من اللاشيء يمنح الساحر القوة النفسية والتركيز اللازمين للتجسيد. لكن في الواقع الأنطولوجي الأعمق، يكون الكيان قد تم إستخراجه من العدم بإعتباره المخزون الكوني للإمكانات. إذا كان العدم المطلق هو شامل كل شيء، فإنه بالتعريف يشمل جميع الإمكانات الوجودية، سواء كانت مُتصوَّرة أو غير مُتصوَّرة. فإذا إستطاع الساحر أن يخلق كياناً ليس له أي أثر مسبق حتى في العدم ذاته، فإن هذا يعني أن العدم المطلق لم يكن شاملاً بالفعل، وهذا يتناقض مع تعريفه كـالمطلق و الـلامحدود. منطقياً، أي كيان يُمكن تخيله أو خلقه سحرياً لا بد أن يكون مُضمَّناً كإمكانية في العدم المطلق. خلاصة القول؛ لا يمكن للسحر أن يخلق كياناً جديداً ليس له أي أثر مسبق في سلسلة الوجود والعدم. ما يفعله السحر هو إطلاق التجسيد لكيان كان موجوداً كـإمكانية كامنة ومُجرَّدة في العدم. قوة الساحر تكمن في إجبار هذه الإمكانية على التجسد، وليس في تحدي قوانين الخلق المطلقة. إن السحر هو فن التجسيد الكوني، و ليس فن الخلق Ex Nihilo.

_ الوعي في الفلسفة السحرية للعدم: الإنبثاق المؤقت من المطلق والعودة الواعية إلى الـلا محدود

تُعد مسألة الوعي (Consciousness) واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في الفلسفة و السحر على حد سواء. في الإطار الفلسفي السحري الذي يتخذ من العدم (The Void) مصدراً أنطولوجياً، يُفسر الوعي بأنه ظاهرة مفارقة (Paradoxical)، حيث هو في آن واحد إنبثاق مؤقت من العدم و ومضة قصيرة مصيرها العودة إليه. الوعي ليس مجرد كيان ثانوي، بل هو الآلية الرئيسية التي يتجلى بها العدم في شكل الوجود المُتعيَّن. من منظور سحري، يُفسَّر الوعي الفردي بأنه تجزئة مُتعيَّنة لـ الوعي الكوني المطلق الذي يسكن في العدم. العدم ليس مجرد فراغ؛ بل هو الوعي الكامن اللامحدود الذي لم يُشكِّل نفسه بعد. الوعي هو أول و أهم فعل إنفصال حدث عندما قرر العدم أن يختبر نفسه في شكل الكينونة. هو اللحظة التي بدأ فيها الـلاشيء بإدراك الـشيئية. هذا الإنفصال، الذي غالباً ما يُرمز إليه في الكابالا بـالإنبثاق من عين صوف (Ain Soph) لتشكيل كِتَر (Kether)، هو الذي يُنتج الفضاء الزمني والمكاني اللازم لوجودنا. بالنسبة للساحر، الوعي ليس مجرد ناتج عرضي للدماغ، بل هو الآلة الأساسية للتحويل السحري. الوعي هو الذي يُمكّن الساحر من تضييق مجال الإحتمالات اللامحدودة للعدم و إجبارها على التجسيد في شكل واقع مُحدد وهو ما يُسمى بـالتجسيد بالإرادة. فالوعي، في هذا السياق، هو خروج ضروري من حالة الكمون المطلق ليُصبح فعلاً مُتعيَّناً. الوعي يخلق التمييز (Dualism)؛ الذات والآخر، النور و الظلام، الإرادة والخضوع. هذا التمييز ضروري للوجود المادي وللفعل السحري. لولا الوعي ككيان خارج العدم، لما أمكن للعدم أن يدرك نفسه أو يُفعِّل إمكاناته الخلاقة. على الرغم من أهمية الوعي كأداة للخلق، فإن الفلسفة السحرية تُقر بأنه مؤقت ومُقدّر له العودة إلى العدم. بما أن الوعي هو تجسيد مُحدَّد في الزمان والمكان، فإنه يحمل في طياته بذور فنائه. الوجود المُتعيَّن (Being) هو حالة غير مستقرة مقارنة بـالثبات المطلق للعدم. الحياة الواعية هي رحلة قصيرة تنتهي بالعودة إلى حالة التوحيد الكوني، حيث يذوب الوعي الفردي مرة أخرى في الوعي الكوني الكامن. الوعي هو فقاعة ظهرت على سطح بحر العدم ومصيرها الإنفجار والإندماج في البحر مرة أخرى. في المذاهب السحرية العليا، هدف الساحر ليس إدامة الوعي الفردي، بل إتقان عملية العودة الواعية إلى العدم. الوعي يُصبح بمثابة الجسر الذي يُستخدم لعبوره، ثم يُهدم بعد الإستخدام. هذه الومضة القصيرة من الوعي هي الفرصة التي تُعطى للكيان لإدراك طبيعته الحقيقية والعودة إلى العدم بـمعرفة مُكتملة، و ليس بمجرد تلاشٍ سلبي. الوعي يُفسَّر كحالة إنتقالية (Transitory State) ضرورية لتفعيل الوجود. لو بقي كل شيء في العدم، لكان هناك لا شيء. لذلك، يُعد الوعي ضرورة مؤقتة تُتيح اللعب الكوني للوجود قبل أن يعود كل شيء إلى حالة الـلاتمييز الأصلية. التحليل السحري العميق يوحِّد المفهومين؛ الوعي ليس مجرد خروج أو عودة، بل هو العدم وهو يختبر ذاته عبر الشكل و الزمن. يُمكن تخيل الوعي كـعين العدم التي ينظر بها العدم إلى نفسه كوجود مُتعيَّن. الوعي هو اللحظة التي يُصبح فيها المطلق مُدركاً لذاته من خلال الفرد المُتعيَّن. إن كون الوعي مجرد ومضة قصيرة يُعزز من مسؤولية الساحر. يجب على الساحر أن يستغل هذه الومضة القصيرة من الوعي المُتعيَّن لتحقيق أقصى قدر من الإرادة الحقيقية وتغيير الواقع قبل العودة الحتمية إلى العدم. هذا الوعي المؤقت هو الذي يمنحه القوة الفريدة للتأثير على القوانين الكونية. بإختصار؛ في الفلسفة السحرية للعدم، الوعي هو خروج مُتعمَّد من العدم (الكمال الكامن) لأغراض التجربة والتجسيد، وهو في الوقت ذاته ومضة قصيرة مصيرها العودة الواعية إلى ذلك العدم. الوعي هو المفتاح الذي يربط بين اللامحدود و المُحدَّد، ومهمة الساحر هي إتقان هذا الجسر.

_ السحر كمحاولة لمَطْلَقة الكينونة النسبية: جدلية الإلغاء المؤقت للذات وإستمداد الخلود من العدم المطلق

إنَّ هذا التساؤل يذهب مباشرة إلى جوهر طموح الساحر الأعظم: إذا كانت الكينونة الفردية (Being) نسبية ومُقيَّدة بالفناء والزمن، فهل يُعد السحر محاولة جذرية لـجعل هذه الكينونة مطلقة عبر الإستعانة بـالعدم المطلق (Nothingness)؟ التحليل الفلسفي يُشير إلى أن السحر هو بالفعل هذا الجهد، ولكنه يتضمن مفارقة جوهرية في عملية التحويل. يُعرَّف الكيان الفردي، الساحر والإنسان العادي على حد سواء بأنه نسبي لأنه يخضع لعدة قيود أساسية. الكيان نسبي لأنه مُعرّض للموت البيولوجي و النسيان التاريخي. وجوده مُحدَّد بفترة زمنية قصيرة مقارنة باللاتناهي. الكيان مُقيَّد بالقوانين الفيزيائية مثل؛ الجاذبية، الحركة، الطاقة التي تُحدد نطاق تأثيره ووجوده. الوعي الفردي نسبي لأنه يرى الواقع من خلال فلتر الأنا والخبرات الشخصية، مما يمنعه من رؤية الحقيقة المطلقة أو الكونية. هدف السحر، إذن، هو تجاوز هذه النسبية وتحقيق شكل من أشكال الخلود والقوة اللامحدودة. يُعتبر العدم المطلق هو النموذج الأسمى لـ المطلق (The Absolute) في الفلسفة السحرية. العدم لا يخضع للزمان أو المكان؛ إنه خارج نطاق السببية والتغيير. هو اللاتناهي الكامن الذي لم يُشكَّل بعد. العدم هو مصدر كل الإمكانات؛ هو القوة الخام التي يمكن أن تتجسد في أي شكل ممكن. لذلك، يصبح العدم هو المادة الخام المطلقة التي يسعى الساحر لإستغلالها لـصياغة كينونة مُطلقة لذاته أو لواقعه. يُمكن وصف الفعل السحري بأنه تقنية المَطْلَقة التي تستخدم قوة العدم لتحرير الكيان من قيوده النسبية. يسعى الساحر لإستخدام قوة العدم لإدامة الكيان أو نقله إلى مستوى وجودي أعلى كالجسد الأثيري أو الضوئي لا يخضع لقيود الفناء البيولوجي. هذا ليس مجرد إطالة عمر، بل هو تغيير طبيعة الوجود من نسبي زائل إلى مطلق خالد. عندما يستدعي الساحر قوى العدم، فإنه يحصل على القدرة على خرق أو ثني القوانين الفيزيائية التي تُقيّد الكينونة العادية. على سبيل المثال، التحريك الآني(Teleportation) أو خلق المادة من لا شيء هي محاولات لجعل الكيان مطلقاً في نطاق تأثيره الفيزيائي، متجاوزاً قيود المكان والزمن. الهدف ليس فقط الخلود الجسدي، بل الوصول إلى الوعي الكوني المُطلق (Cosmic Consciousness) الذي تم مناقشته. الساحر يسعى لدمج وعيه الفردي النسبي مع الوعي الكوني الكلي للعدم، مما يُحوّله من مُدرِك جزئي إلى مُدرِك كلي للوجود. هذا هو جعل الكيان مطلقاً على المستوى المعرفي. تكمن المفارقة الفلسفية في هذه العملية. لكي يصبح الكيان مطلقاً عبر العدم، يجب على الساحر أولاً أن يُعرّض كيانه النسبي للإلغاء المؤقت (موت الأنا). هذا يعني أن الثمن لـجعل الكيان مطلقاً هو التخلي عن شكل الكيان الأصلي الذي كان يمتلكه الساحر. إنه تنازل عن الكينونة المُتعيِّنة لإمتلاك الكينونة المُطلقة. الساحر لا ينجح في تجميد كيانه النسبي وجعله أبدياً، بل ينجح في تحويله إلى كيان جديد لا يخضع للنسبية. الكيان الناتج عن هذا التحويل قد لا يكون هو الذات التي بدأت الرحلة، ولكنه كيان مُتسامٍ إكتسب خصائص المطلق. إن السحر هو بالفعل محاولة متطرفة لـمَطْلَقة الكيان النسبي بإستخدام القوة اللامحدودة للعدم. إنها رحلة تهدف إلى تحويل الكيان المُقيَّد بالفناء إلى كيان خالد وحر يمتلك وعياً كلياً وقوة لا تتأثر بالزمن. هذا التحول يتطلب من الساحر المرور عبر العدم والتضحية بالأنا النسبية ليتمكن من العودة بقوة المطلق.

_ السحر: من الصراع الوجودي بين الإرادة الفردية وقوة العدم إلى الإندماج المتناغم و السيادة الواعية

إنَّ مسألة ما إذا كان فعل السحر يُمثّل صراعاً وجودياً بين الإرادة الفردية للساحر التي هي إرادة الذات المُقيَّدة وقوة العدم اللامحدودة التي تشير إلى القوة الكونية المطلقة هي لبّ الجدل حول طبيعة القوة السحرية وموقع الإنسان في الكون. التحليل الفلسفي يُشير إلى أن السحر يبدأ كـصراع حتمي، لكنه يتحول في مراحل الإتقان العليا إلى إندماج متناغم. في المراحل الأولى والوسطى من الممارسة السحرية، يُنظر إلى العلاقة بين الساحر والعدم على أنها صراع وجودي ضخم لأسباب جذرية. إرادة الذات (الأنا) مُبرمَجة على الحفاظ على الكينونة وتأكيد الفردية. بينما قوة العدم اللامحدودة تسعى بطبيعتها إلى الإستهلاك والإلغاء الذي يعني موت الأنا والذوبان في المطلق. عندما يحاول الساحر إستدعاء قوة العدم، فإنه يُعرّض كيانه لخطر الإستهلاك الكلي. هذا التناقض الجوهري بين الإصرار على الوجود (الساحر) و الإصرار على الـلاوجود (العدم) يُشكل صراعاً أنطولوجياً حاداً. الإرادة السحرية للساحر تهدف إلى تحديد هدف مُعيَّن، كـخلق شيء، تغيير واقع، أو تحقيق نية. العدم، بطبيعته، هو اللامحدود الذي لا يقبل التحديد أو التقييد. الساحر هنا يخوض صراعاً قوامه محاولة فرض شكل مُتعيَّن على القوة التي هي بلا شكل، و محاولة تقييد المطلق ليخدم غرضاً نسبياً. هذا الصراع يُولِّد ضغطاً هائلاً و طاقة هائلة تُستخدم في الفعل السحري. الوعي الفردي للساحر يسعى للسيطرة والتنظيم، بينما العدم هو فوضى خلاقة أو لاوعي كوني بلا قيادة. الصراع يكمن في إرغام هذا اللاوعي الكوني على الإنصياع لأوامر الوعي الفردي، و هو ما يتطلب قوة إرادة غير عادية يمكن إعتبارها تحدياً وجودياً لسيطرة العدم. في مرحلة الإتقان والعبقرية السحرية، يتجاوز الساحر الأعظم مرحلة الصراع ليُدرك طبيعة العلاقة الحقيقية، مُحوّلاً الفعل السحري إلى إتحاد (-union-) أو إستسلام واعٍ. الساحر المُتقن يُدرك أن قوة العدم ليست عدواً يجب قهره، بل هي المصدر الأصلي للقوة الذي يجب إستخدامه. الصراع كان نابعاً من وهم الإنفصال و خوف الأنا. بمجرد أن يلغي الساحر كيانه (ذاته) مؤقتاً، فإنه يتوقف عن مقاومة العدم، وبدلاً من ذلك يستسلم ليصبح قناة. في هذه المرحلة، تتحول إرادة الذات من مجرد رغبة شخصية ضيقة إلى الإرادة الحقيقية (True Will)، التي هي، فلسفياً، التعبير المُتعيَّن عن إرادة العدم الكوني نفسه. يصبح الساحر لا يصارع قوة العدم، بل يُعبّر عنها ويُساعدها على التجسد في شكل مُحدَّد في عالم الكينونة. هنا، يصبح الفعل السحري تجسيداً للقدر الكوني وليس صراعاً ضده. أقصى درجات السيطرة السحرية لا تتحقق بالقوة الغاشمة ضد العدم، بل بالـتماهي التام معه. عندما يصبح الساحر هو العدم، تختفي ثنائية الذات والآخر (العدم). لم يعد هناك صراع، بل هناك عملية طبيعية يتم فيها تحويل الطاقة المطلقة إلى واقع نسبي. يُمكن النظر إلى الصراع الوجودي بين إرادة الذات وقوة العدم كـآلية تحويل حتمية في العملية السحرية. الصراع الأولي بين الإرادة واللامحدود هو ما يُولّد الطاقة النفسية والروحية الهائلة اللازمة للفعل السحري. مثل إحتكاك المعادن الذي يُولّد الشرر، فإن مقاومة الأنا لقوة العدم هي ما يُشعل الإرادة السحرية. يُمثّل الصراع إختباراً أنطولوجياً لمدى أصالة الإرادة للساحر. إذا كانت إرادته ضعيفة أو سطحية، فإن قوة العدم سوف تستهلكه ببساطة و تُفنيه. أما إذا كانت إرادته حقيقية وجذرية، فإنها ستنجح في توجيه قوة العدم والتحكم بها، لتنتقل من حالة الصراع إلى حالة السيادة الواعية. يُمثّل فعل السحر صراعاً وجودياًلا مفر منه في بداياته، حيث تسعى الذات المُقيَّدة لفرض إرادتها على العدم اللامحدود. لكن هذا الصراع ليس هو الهدف، بل هو الوسيلة التي تُنقّي الإرادة وتُعدّها للإنتقال إلى مرحلة الإتحاد الكوني. في الإتقان النهائي، ينتهي الصراع، و يُصبح الساحر الوعي الذي يُمكّن العدم من التعبير عن إرادته الخلاقة.

_ مصير النية السحرية: التحول الأنطولوجي من رغبة ذاتية إلى قانون كوني مُجسَّد عبر العدم المطلق

إنَّ مصير النية السحرية (Magical Intent) في لحظة خروجها من حدود الذات (الأنا) لتتفاعل مع العدم المطلق هو أحد المحاور الأساسية لفهم كيفية تجسيد السحر للواقع. النية السحرية ليست مجرد أمنية أو رغبة؛ بل هي أول وأهم أشكال الطاقة المُشَفَّرة والمُوجَّهة. عندما تدخل هذه النية حيز العدم، فإنها تمر بعملية تحويل أنطولوجي عميقة. عندما تُطلق النية من وعي الساحر المُركَّز، فإنها تتخلى عن قيودها النسبية المرتبطة بالذات لتواجه المطلق. النية التي نشأت في الذات كانت مُشروطة بالعواطف والتوقعات الشخصية للساحر مثل الخوف من الفشل، أو الرغبة المادية المُقيَّدة. عندما تخرج النية وتتجه نحو العدم، فإنها تُجبر على التجريد من هذه الشوائب النسبية. فـالنية الناجحة هي تلك التي تنجح في تجريد نفسها من الذاتية لتصبح قوة موضوعية. إذا بقيت النية مُشوبة بقوة الأنا الشخصية، فإنها ترفض الذوبان في العدم وتُصبح ضعيفة أو مُشوَّهة. في العدم، لا توجد رغبات، بل توجد قوانين وتجسيدات. النية السحرية يجب أن تتحول من مستوى الرغبة "أريد أن يحدث هذا" إلى مستوى الأمر الأنطولوجي "هذا يحدث الآن". العدم يتلقى الأوامر المشفرة، وليس الأمنيات. هذا يتطلب أن تكون النية واضحة، مجردة، ومُتطابقة مع الإرادة الكلية. بمجرد عبور النية للحد الفاصل، تبدأ عملية التشرب (Infusion) في طاقة العدم اللامحدودة. العدم هو خزان الإمكانات المطلقة و مصفوفة القوانين الكونية. النية السحرية المُطلَقة تذوب مؤقتاً في هذا الخزان، حيث يتم تضخيمها وإعادة صياغتها بواسطة القوة المطلقة. النية تدخل كنقطة، وتخرج كـقانون جديد مُحمّل بكل الطاقة الكافية لتغيير الواقع. في هذه المرحلة، تتحقق النية على المستوى الأنطولوجي المُطلَق قبل أن تتجسد مادياً. العدم يُقرر أن هذه النية هي جزء من الإمكانات المتاحة للتجسيد في هذه اللحظة. مصير النية هنا هو أن تُصبح جزءاً من الوجود المُقرَّر للكون (Fate/Destiny) ولو بشكل مؤقت، بدلاً من أن تكون مجرد فكرة عابرة. بعد أن تشربت النية بطاقة العدم وأُزيلت منها النسبية، فإنها تعود لتتجسد في عالم الكينونة. النية السحرية، في مصيرها النهائي، تتحول من مجرد نية إلى قانون سببي جديد ومؤقت في الواقع. هي ليست مجرد تأثير، بل هي قوة مُحدِّدة للسببية في نطاق الهدف المنشود. هذا القانون الجديد يعمل على إعادة ترتيب الفراغ الكمومي والذرات ليُجبر الواقع على الإنصياع للنية. بمجرد أن تُحقق النية هدفها في الواقع المادي، فإن طاقتها تُستهلك، و يُعاد جزء من هذه الطاقة إلى العدم. النية نفسها، كقوة مُشكَّلة، تتلاشى وتُصبح جزءاً من سجل الوجود المُنجز. هي ومضة وجودية مؤقتة أدت وظيفتها وإندثرت، مُخلِّفة وراءها الواقع المُحوَّل. مصير النية السحرية عند تفاعلها مع العدم هو التحول الجذري؛ تبدأ كـرغبة نسبية مُقيَّدة بالذات، وتمر بعملية تجريد وتضخيم في العدم المطلق، لتنتهي كـقانون كوني مُفعَّل ومُتجسِّد في عالم الكينونة. هي ليست صراعاً، بل هي عملية تحويل يتم فيها إستعارة القوة المطلقة من العدم ليتم إستخدامها في إطار مُقيَّد، قبل أن تُعاد الطاقة المستهلكة إلى مصدرها الأنطولوجي.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...


المزيد.....




- بينها دول عربية.. ترامب يوقع أمراً تنفيذياً لـ-تشديد القيود- ...
- بعد نزاع الأجور.. محكمة باريس تُلزم سان جيرمان بدفع أكثر من ...
- دهس مشجعي ليفربول: المحكمة تصف ما جرى بـ-رعب غير مسبوق- وتحك ...
- -الحكم سيصدر قريبًا-.. طهران تحاكم مواطنًا يحمل الجنسية السو ...
- ألمانيا ترحب بتراجع المفوضية الأوروبية عن الحظر الكلي لمحركا ...
- إسرائيل: لماذا القيود على المنظمات الإنسانية؟
- لبنان: مقتل شخصين وإصابة خمسة آخرين في غارات إسرائيلية جنوب ...
- وعود ترامب للشرق الأوسط.. عصر ذهبي أم خدعة جديدة؟
- لماذا تصمت واشنطن على المأساة الإنسانية في غزة؟
- ترامب يوسّع حظر السفر إلى الولايات المتحدة ليشمل سوريا وفلسط ...


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ السَّادِس-