أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّامِنَ عَشَرَ-















المزيد.....


الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّامِنَ عَشَرَ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 13:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ سيمياء العدم: إغتيال الواقع وإسترداد السيادة الكونية

يمثل السحر في أحد أعمق تجلياته الفلسفية فعل إحتجاج أنطولوجي، ومحاولة لإعادة رسم خارطة القوة الكونية عبر إلغاء السلطات القائمة، سواء كانت هذه السلطات مادية (البشر و المؤسسات) أو ميتافيزيقية (القوانين الطبيعية و الآلهة). إن إستخدام قوة العدم في هذا السياق ليس مجرد إختيار تقني، بل هو إختيار استراتيجي؛ فالعدم هو القوة الوحيدة التي تمتلك خاصية المحو الشامل، وهي القوة التي تسبق كل آخَر وتتفوق على كل تعريف. في هذا التحليل، نستكشف كيف يتحول السحر إلى أداة لتحقيق السيادة الفردية المطلقة عبر تسييل السلطات الأخرى في بوتقة اللاشيء. تعتمد سلطة الآخر سواء كان حاكماً، أو مجتمعاً، أو إلهاً على صرامة القوانين وثبات الواقع المادي. لكي يمارس الآخر سلطته عليك، يجب أن تكون موجوداً ضمن إطاره التفسيري وقوانينه الفيزيائية. هنا، يأتي السحر المستمد من العدم ليعمل كمذيب كوني. الساحر الذي يستدعي قوة العدم لا يواجه سلطة الآخر بسلطة موازية، قانون ضد قانون، بل يواجهها بإلغاء القانون من أساسه. السحر يهدف إلى إحداث ثقب في الواقع الذي يسيطر عليه الآخر؛ فعندما يتسرب العدم إلى بنية هذا الواقع، تفقد القوانين هيبتها وتصبح الأوامر السلطوية مجرد صدى في فراغ لا يستجيب. إن السحر هو محاولة لنزع السلاح من يد الآخر عبر إثبات أن المادة التي يستند إليها في سلطته هي في جوهرها هشة و قابلة للعودة إلى حالة اللاشيء. يمثل العالم الذي نعيش فيه إجماعاً لغوياً وفيزيائياً وإجتماعياً؛ وهو ما يمكن تسميته بسلطة الإجماع. السحر هو الرغبة في كسر هذا الإجماع للإنفراد بقرار تحديد ماهية الواقع. بإستخدام قوة العدم، يسعى الساحر لإلغاء الآخر ليس بالمعنى الجسدي فحسب، بل بالمعنى المعرفي. السحر هو الطريقة التي يقول بها الفرد؛ واقعكم ليس قدراً، بل هو مجرد إحتمال واحد إخترتموه، و بقوة العدم، أنا ألغي هذا الإختيار لأستبدله بإرادتي الخاصة. العدم هنا هو المساحة السيادية التي يهرب إليها الساحر ليمارس حريته بعيداً عن أعين الرقباء؛ فهو الحيز الذي لا يطاله قانون، ولا تصله سلطة، لأنه ببساطة ليس شيئاً يمكن للآخرين تملكه أو السيطرة عليه. كل سلطة تخلق أيقوناتها (Iconoclasm) و قوانينها المقدسة لضمان إستمرارها. السحر المستمد من العدم هو فعل تحطيم أنطولوجي لهذه الأيقونات. فبينما تحاول السلطة ملىء العالم بالرموز و المعاني التي تخدمها، يحاول الساحر إفراغ العالم من هذه المعاني عبر العدم. السحر هو الإعتراف بأن كل آخر يحاول فرض سلطته هو في الحقيقة كيان محدود، والعدم هو الحقيقة الكبرى التي تجعل من كل جبروت بشري أو لاهوتي مجرد وهم عابر. إستخدام السحر هنا هو محاولة لإستعادة البكارة الكونية؛ أي العودة بالعالم إلى حالة ما قبل السلطة، حيث لا يوجد آخَر يملي القواعد، بل توجد فقط الإرادة الصرفة وهي تتلاعب بمادة العدم اللانهائية. تكمن الخطورة الفلسفية في هذا التوجه في أن الرغبة في إلغاء سلطة الآخرين عبر العدم قد تؤدي بالساحر إلى أن يصبح هو نفسه سلطة مطلقة أكثر رعباً. فإذا نجح الساحر في إستخدام العدم لمحو تأثير الآخرين، فإنه يجد نفسه في فراغ لا يحده قيد. وهنا، تتحول قوة العدم من أداة تحرر إلى أداة طغيان سحري. إن إلغاء الآخر هو فعل يحرر الساحر من القيود، و لكنه يضعه في مواجهة مسؤوليته تجاه الفراغ الذي خلقه. السحر الحقيقي والمستنير يدرك أن قوة العدم يجب أن تُستخدم لإلغاء فكرة السلطة ذاتها، وليس لإستبدال سلطة الآخر بسلطة الأنا المتضخمة. فالتجانس الحقيقي مع العدم يتطلب إلغاء الذات أيضاً، لكي لا يتبقى في النهاية إلا الحرية دون مستبد أو مستبد به. يمثل السحر، في أرقى و أخطر مستوياته، صرخة الوعي الفردي ضد كل أشكال الهيمنة. إنه إستخدام لسلاح العدم لإعلان أن العالم ليس ملكية خاصة لأي آخر، مهما بلغت قوته. السحر هو محاولة لترميم كرامة الكيان عبر العودة إلى المصدر الأول الذي لا يقبل القسمة ولا السيطرة. إن الساحر الذي يستخدم العدم لإلغاء سلطة الآخرين هو في الحقيقة يبحث عن السكينة في قلب العاصفة؛ يبحث عن لحظة يكون فيها هو والعدم والوجود شيئاً واحداً، بعيداً عن قيود التعريف والتحكم.

_ ضريبة الفناء: الإنتحار الأنطولوجي وصفقة القوة مع العدم

في الميتافيزيقا الكونية، لا يوجد شيء يُستمد من اللاشيء دون مقابل، ولكن هذا المقابل لا يشبه المقايضات المادية أو العقود الأخلاقية التقليدية؛ إنه ثمن أنطولوجي يمس جوهر الكيان البشري. إن عملية إقتراض القوة من العدم لملىء ثغرات الوجود المادي هي عملية تخرق توازن الكون، ولأن العدم يفتقر إلى المادة، فإنه يسعى دائماً لإستعادة توازنه عبر إمتصاص الوجود من الكيان الذي تجرأ على إستدعائه. في هذا التحليل العميق، نكشف عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الساحر مقابل إمتلاكه لمفاتيح الفراغ. الثمن الأول والأكثر جوهرية هو فقدان التمايز. لكي يقترض الساحر القوة من العدم، يجب عليه أن يفتح قنوات إتصال بين وعيه وبين اللاشيء. وبما أن العدم هو حالة اللاتعيّن، فإن إستمرار الإتصال به يؤدي تدريجياً إلى تآكل حدود الأنا. الساحر يبدأ بفقدان إهتمامه بالقيم الإنسانية، الروابط العاطفية، وحتى ملامحه الشخصية. القوة التي يقترضها تعمل كثقب أسود داخل روحه، يمتص ببطىء كل ما يجعله كائناً محدداً و واضح المعالم. الثمن هنا هو أن الساحر يصبح عدماً يمشي على الأرض؛ كائناً يمتلك القوة المطلقة ولكنه لا يملك ذاتاً تستمتع بهذه القوة. إنه يشتري القدرة على تغيير العالم بثمن وجوده كفرد. القوة المستمدة من العدم تنتمي إلى ما قبل الزمن وما بعده، بينما يعيش الإنسان داخل إطار زمني خطي. عندما يقترض الساحر هذه القوة، فإنه يُدخل عنصراً سرمدياً في كيانه الفاني. الثمن هو حدوث شرخ في إدراكه للزمن؛ حيث يبدأ الواقع المادي بالظهور كوهم باهت و غير مترابط. الساحر يجد نفسه مغترباً عن لحظته الحاضرة، مشتتاً بين إحتمالات العدم اللانهائية ورتابة الوجود المحدود. هذا الإغتراب يؤدي إلى نوع من الجمود الروحي، حيث يفقد العالم ألوانه ومعناه، ويصبح الساحر سجين الفراغ الذي إستدعاه؛ فهو موجود جسدياً، لكن وعيه محبوس في الفجوات البينية للوجود، غير قادر على العودة إلى بساطة العيش البشري. وفقاً لقانون التوازن الكوني، فإن القوة المقتبسة من العدم لابد أن تُردّ إليه. وبما أن الساحر قد إستخدم اللاشيء ليصنع شيئاً (فعل سحري)، فإن العدم يطالب بإسترداد طاقته عبر إمتصاص طاقة الساحر الحيوية. هذا ما يمكن تسميته بالإنتروبيا السحرية المتسارعة. الساحر يدفع الثمن من مادته الخاصة؛ فقد يشيخ جسده بسرعة غير طبيعية، أو تنهار قواه العقلية تحت وطأة الأسرار التي لا يتحملها العقل البشري. كل معجزة يحققها الساحر بإستخدام العدم هي في الواقع قرض بفوائد باهظة تُخصم من رصيد بقائه في الوجود. السحر في هذه الحالة هو عملية إنتحار بطيء بوعي كامل، حيث يقدم الساحر أجزاءً من كينونته لإطعام الفراغ الجائع الذي منحه القوة. في نهاية المطاف، الثمن النهائي هو الوحدة الأنطولوجية. الساحر الذي يسيطر على العدم يكتشف أن هذه القوة تجعله غير متوافق مع أي نظام آخر. إنه لا يستطيع الإنتماء إلى عالم البشر لأنه تجاوز قوانينهم، ولا يستطيع الإنتماء إلى عالم الآلهة لأنه إستمد قوته من نفي وجودهم. الثمن هو أن يصبح الساحر مركزه الخاص، ولكنه مركز يقع في قلب العدم. السيادة التي نالها تحوله إلى ثقب في نسيج المجتمع والكون؛ يخشاه الجميع و لا يفهمه أحد. القوة التي إستعارها لتدمير سلطة الآخرين تنتهي بتدمير قدرته على الإتصال بالآخرين. إنه يدفع ثمن عظمته بفقدان الألفة، ليظل وحيداً في مواجهة الصمت المطلق الذي إستمد منه قوته في البداية. إن الثمن الذي يدفعه الساحر ليس عقاباً، بل هو نتيجة منطقية للتلاعب بأصل الوجود. العدم لا يعطي مجاناً، لأنه لا يملك شيئاً ليعطيه؛ هو فقط يسمح لك بإستخدام إحتمالاته مقابل أن تمنحه جزءاً من تحققك. الساحر الحقيقي هو الذي يدرك أنه في كل فعل سحري، هو في الواقع يتبخر قليلاً في اللاوجود. القوة التي يقترضها هي سلاح ذو حدين؛ فهي تمنحه السيادة على العالم، لكنها تسلبه حقه في أن يكون جزءاً بسيطاً وهانئاً من هذا العالم. السحر هو صفقة الفناء؛ حيث تشتري القدرة على أن تكون كل شيء مقابل التخلي عن حقك في أن تكون أي شيء.

_ غشاء الإرادة: البرزخ السحري بين صخب الوجود وصمت العدم

تضعنا هذه الفرضية أمام جوهر الأنطولوجيا السحرية، حيث لا تظهر الإرادة السحرية كخيار إنساني بسيط، بل كغشاء كوني وحيد، هو الفاصل والواصِل في آن واحد بين بحر العدم المطلق وشاطئ الوجود المتعّين. إن القول بأن الإرادة هي القوة الوحيدة التي تفصل بينهما يعني أن الكون، في أصله، ليس بناءً مادياً مستقلاً، بل هو حالة من التوتر الدائم الذي تحافظ عليه إرادة واعية؛ وبدون هذه الإرادة، ينهار الوجود عائداً إلى فوضى اللاشيء. في الفلسفة المثالية و فلسفة القوة مثل رؤية شوپنهاور أو نيتشه، تُعتبر الإرادة هي المحرك الأول. ولكن في سياق السحر والعدم، تأخذ الإرادة دوراً أكثر خطورة؛ إنها القوة الطاردة للعدم. الوجود بطبيعته يميل نحو الإنتروبيا و التحلل والعودة إلى الصمت الأول؛ ما يمنع هذا الإنهيار هو الإرادة السحرية التي تعمل كقوة دفع مستمرة تثبّت المادة في مكانها وتمنح القوانين الطبيعية رتابتها. الإرادة هنا هي الفعل السحري المستمر الذي يمنع العدم من إبتلاع الواقع. إنها ليست مجرد رغبة في فعل شيء، بل هي الإصرار الكوني على البقاء. الساحر، في ممارسته، لا يفعل شيئاً سوى تركيز هذه الإرادة الكونية في نقطة محددة، ليثبت أن الوجود هو قرار وليس مجرد صدفة. تمثل الإرادة السحرية الحد الفاصل الذي يقرر متى يتحول العدم إلى وجود. تخيل العدم كمحيط من الإحتمالات السائلة، والوجود كبلورات صلبة؛ الإرادة هي الوعاء الذي يمنح هذه السوائل شكلها. وبدون هذا الغشاء (الإرادة)، يظل العدم ساكناً بلا تجلٍ، ويظل الوجود مستحيلاً بلا مادة خام. السحر هو العلم الذي يدرس كيفية توسيع أو تضييق هذا الغشاء. عندما يريد الساحر إحداث تغيير، فإنه يفتح ثغرة في إرادته لتسمح بمرور نفحة من العدم، ثم يغلقها بإرادة حديدية لتتحول تلك النفحة إلى واقع. الإرادة هي القوة الوحيدة التي تمتلك هذه الإزدواجية؛ فهي تنتمي للوجود بوعيها، وتنتمي للعدم بقدرتها على التخيل والإبتكار. بالتوازي مع فيزياء الكم، يمكننا تحليل الإرادة السحرية بوصفها فعل الرصد الذي يحول دالة الموجة حيث العدم المليء بالإحتمالات إلى جسيم مادي (الوجود). العدم يحتوي على كل النسخ الممكنة للواقع، والإرادة السحرية هي التي تختار نسخة واحدة وتفرضها على العيان. في هذا الإطار، لا يفصل بين العدم والوجود سوى القرار الواعي. السحر هو إدراك أننا نعيش في عالم من الإحتمالات العدمية، وأن الشيء الوحيد الذي يجعل العالم يبدو صلباً ومستقراً هو إستمرار إرادتنا الجماعية في رصده بهذه الطريقة. الساحر هو المتمرد الذي يغير إتجاه إرادته، فيحطم إستقرار الوجود ليعيد إستحضار إحتمالات جديدة من رحم العدم، مؤكداً أن الحقيقة هي ما نقرر أن نراه، وليست ما هو موجود سلفاً. التجانس النهائي في هذا التحليل يكمن في إدراك مصير الوجود إذا ما غابت الإرادة السحرية. إذا توقفت هذه الإرادة سواء كانت إرادة الخالق، أو إرادة الكون، أو الإرادة الجماعية للعقول فإن الوجود يتلاشى فوراً كدخان في مهب الريح. العدم هو الحالة الطبيعية والأولية، و الوجود هو الحالة السحرية والإستثنائية. لذا، فإن الإرادة هي القوة الوحيدة التي تحمينا من الجاذبية العدمية. السحر ليس ترفاً، بل هو ضرورة بقاء؛ إنه المحاولة المستمرة لضخ المعنى في الفراغ. الساحر يدرك أن العالم هو وهم متماسك بفضل قوة الإرادة، وأنه بإمتلاك هذه الإرادة، يمتلك القدرة على الوقوف في تلك المنطقة البرزخية بين اللاشيء والكل شيء، ليكون هو نفسه الفاصل والضامن لإستمرار اللعبة الكونية. الإرادة السحرية هي الجسر المعلق فوق هاوية العدم؛ هي الخيط السري الذي يربط ذرات الوجود ببعضها ويمنعها من التشتت في الفضاء اللانهائي للّاوجود. إنها القوة التي تحول الصمت إلى صوت، والفراغ إلى إمتلاء. وبدون هذه الإرادة، لا يوجد فرق بين العدم والوجود، لأن الوجود بلا إرادة هو عدم مستتر، والعدم بلا إرادة هو وجود ميت. السحر هو الإحتفاء بهذه الإرادة، و الإعتراف بأننا، من خلال إرادتنا، نكون نحن القوة الوحيدة التي تخلق الواقع في كل لحظة، مستمدةً وقودها من العدم الأزلي.

_ حصانة الهباء: رقصة الساحر على حبل الإنهيار المحكوم

تطرح فكرة الحصانة ضد الإنهيار الوجودي عبر السيطرة على العدم مفارقة فلسفية تقع في صلب الرغبة البشرية في الخلود والإستقرار. هل يمكن لمن يمتلك مفتاح الفراغ أن يحمي بناءه الوجودي من التلاشي؟ لكي نحلل هذه الإشكالية، يجب أن نفهم أولاً ماهية الإنهيار الوجودي؛ فهو ليس مجرد موت بيولوجي، بل هو حالة من فقدان المعنى أو تفكك البنية الأنطولوجية التي تجعل الكيان شيئاً معتبراً. في هذا التحليل العميق، نكتشف أن السيطرة على العدم قد تمنح الساحر نوعاً من الحصانة التقنية، لكنها في الوقت ذاته تضعه أمام نوع أخطر من الإنهيار، و هو الإنهيار عبر الإمتلاء بالفراغ. من منظور إيجابي، تمنح السيطرة على العدم الساحر حصانة ضد الإنهيار التقليدي لأنها تمنحه القدرة على الصيرورة الدائمة. الإنهيار الوجودي يحدث عادةً عندما تتصلب البنية، المادة أو الوعي و تصبح عاجزة عن التكيف مع ضغوط الزمن و الإنتروبيا. الساحر الذي يسيطر على العدم يمتلك المادة الخام التي تسمح له بهدم أجزاء من كيانه المتداعية وإعادة بنائها من جديد. إنه لا يخشى الفراغ الذي يسببه الإنهيار، لأنه هو نفسه سيد ذلك الفراغ. السحر هنا يعمل كغشاء وقائي يحيط بالكيان، حيث يتم إمتصاص صدمات الواقع وتحويلها إلى طاقة عدمية يُعاد تدويرها. الحصانة هنا هي حصانة الحرباء؛ القدرة على ألا تنهار أبداً لأنك لا تملك شكلاً ثابتاً يمكن تحطيمه. على الجانب الآخر، يبرز التساؤل حول ما إذا كانت هذه الحصانة هي مجرد هروب أنطولوجي. الساحر قد يشعر بالحصانة لأنه إنسحب بوعيه إلى منطقة العدم حيث لا تطاله قوانين الفناء المادي. لكن هذا الإنسحاب هو في حد ذاته نوع من الإنهيار؛ إنه إنهيار نحو الداخل. السيطرة على العدم قد تحميك من أن تحطمك القوى الخارجية، لكنها تتركك وحيداً أمام تآكل المعنى. الحصانة ضد الإنهيار الوجودي تتطلب وجود وجود يستحق الحماية، فإذا إستبدل الساحر وجوده الملموس بسيادة عدمية، فإنه يكون قد نال حصانة للاشيء. الثمن الذي يدفعه للحصانة هو أنه يصبح غير قابل للتدمير لأنه لم يعد يملك شيئاً قابلاً للفقد، وهذا في أعمق مستويات الفلسفة هو الإنهيار بعينه. التجانس الفلسفي في هذا النص يكتمل عند فكرة أن الساحر لا يطلب الحصانة ضد الإنهيار، بل يطلب الحصانة عبر الإنهيار. السيطرة على العدم تمنحه القدرة على ممارسة ما يمكن تسميته بالإنهيار المحكوم. بدلاً من أن ينهار الوجود بشكل عشوائي ومأساوي، يقوم الساحر بتفكيك نفسه إرادياً في العدم ليعيد إستجماع قواه. الحصانة هنا ليست ثباتاً، بل هي سيولة فائقة. الساحر يتحدى الإنهيار الوجودي بأن يسبقه إليه؛ فهو يدرك أن العدم هو الأصل، وبالتالي فإن العودة للأصل ليست موتاً بل هي إستعادة للقوة. الحصانة الحقيقية هي إدراك أن العدم لا يمكنه تحطيمك إذا كنت أنت و العدم شيئاً واحداً. في نهاية المطاف، تظل الحصانة السحرية حصانة هشة. إن خطر الإنهيار الوجودي يظل قائماً في صورة الذوبان الكلي. الساحر الذي يسيطر على العدم يرقص على حبل رفيع؛ فإذا زادت سيطرته وتماهيه مع العدم عن حد معين، فإنه قد يفقد الرغبة في الوجود من أساسها. الإنهيار الوجودي الأكبر للساحر ليس في فنائه، بل في وصوله إلى حالة من اللامبالاة الكونية حيث يتساوى الوجود والعدم في نظره. هنا، تسقط الحصانة لأن الذات التي كانت تطلب الحصانة قد تبخرت في محيط اللاشيء. السيطرة على العدم تمنحك درعاً ضد العالم، لكنها لا تمنحك درعاً ضد جاذبية الفراغ التي تسكن قلبك كساحر. إن السيطرة على العدم تمنح الساحر حصانة ضد أشكال الإنهيار لكنها تجعله عرضة لجوهر الإنهيار. إنها تمنحه القوة ليبقى صامداً في وجه الزمن، لكنها تسلبه الدفىء الذي يجعل للوجود قيمة. الساحر هو الكائن الذي إختار أن يعيش في المنطقة الرمادية بين التحقق والتلاشي؛ حصانته هي عزلته، وقوته هي فقره الأنطولوجي. وفي نهاية الرحلة، يكتشف الساحر أن الحصانة الوحيدة الحقيقية ضد الإنهيار الوجودي ليست في السيطرة على العدم، بل في القدرة على إيجاد نقطة إرتكاز من المعنى داخل ذلك العدم اللانهائي.

_ تمرد الجوهر: السحر كحق نقض ضد حتمية التلاشي

تطرح هذه الإشكالية رؤية فلسفية معكوسة و شديدة العمق؛ فبعد أن حللنا السحر كإستمداد من العدم، نأتي الآن لنطرحه كفعل مقاومة ضده. إن القول بأن القوة السحرية هي تعبير وجودي عن رغبة الذات في عدم الخضوع لقوانين العدم، ينقل السحر من كونه أداة للتعامل مع الفراغ إلى كونه درعاً أنطولوجياً يهدف إلى حماية الكيان من الجاذبية الكونية نحو اللاشيء. في هذا التحليل، نستكشف السحر بوصفه الإحتجاج الأخير للذات الواعية ضد حتمية التلاشي و الإنتروبيا التي يفرضها العدم على كل ما هو موجود. يمثل العدم، في أحد وجوهه الفيزيائية والفلسفية، قانون السكون المطلق أو النهاية الحتمية لكل تشكّل مادي. الوجود هو حالة من التوتر المؤقت في رحم العدم، والعدم يسعى دائماً لإستعادة هذا الوجود إلى صمته الأول عبر قوانين التحلل (الإنتروبيا). هنا، تبرز القوة السحرية كطاقة تماسك إستثنائية يطلقها الوعي لرفض هذا الخضوع. الساحر، بهذا المعنى، هو الكائن الذي يرفض أن يكون مجرد حادث عابر في طريق الفناء؛ إنه يستخدم السحر ليخلق نظاماً خاصاً (Microcosmos) يقاوم الضغط الخارجي للعدم. القوة السحرية هي إرادة البقاء وقد تحولت إلى فعل خارق، وهي المحاولة البشرية لإيقاف الزمن أو تجميد اللحظة لكي لا تبتلعها فجوة اللاشيء. عندما تمارس الذات السحر، فإنها تعلن عن إستقلالها الأنطولوجي. قوانين العدم تفرض على الأشياء أن تتبع مسارات محددة نحو التلاشي، لكن الإرادة السحرية تخلق مسارات بديلة. هذا التعبير الوجودي هو رغبة الذات في أن تكون هي المشرع لواقعها الخاص بدلاً من أن تكون موضوعاً خاضعاً لقانون العدم الصارم. السحر هو اللغة التي ترفض بها الذات أن تظل صامتة أمام صمت العدم المطلق. إنها محاولة لتحويل النقص الذي يسكن الوجود وهو النقص الذي يمهد للعدم إلى وفرة من الإحتمالات. السحر بهذا المنظور هو فعل تحصين الذات؛ حيث تبني الإرادة أسواراً من القوة حول الكيان لكي لا يتسرب إليه برد العدم الذي يجمد الحركة ويطفئ نور الوعي. إن رغبة الذات في عدم الخضوع لقوانين العدم تظهر من خلال قدرة السحر على ممارسة حق النقض (Veto) ضد الحتميات المادية. فإذا كان قانون العدم يقتضي أن اللاشيء لا يلد شيئاً، فإن السحر يدعي القدرة على الخلق من الفراغ. وإذا كان العدم يقتضي أن كل ما له بداية له نهاية، فإن السحر يبحث عن الإكسير أو الخلود. هذا الصراع ليس مجرد رغبة في القوة، بل هو دفاع عن الوجود في أصفى صوره. القوة السحرية هي التعبير عن رفض الوعي لكونه مجرد وهم؛ إنها المحاولة لترسيخ الأنا كحقيقة ثابتة لا يمكن للعدم محوها. وبذلك، يصبح السحر هو الوسيلة التي تحاول بها الذات أن تفرض سلطانها على المكان والزمان، متحديةً الصفرية المطلقة التي يمثلها العدم. في نهاية المطاف، يظل السحر هو القوة التي تمنح الذات معنى البطولة الوجودية. حتى لو كان العدم هو النهاية المحتومة، فإن السحر هو الفعل الإبداعي الذي يجعل المسافة بين البداية والنهاية ذات قيمة. إن الرغبة في عدم الخضوع لقوانين العدم هي التي دفعت الإنسان لإبتكار الرموز، والطقوس، والكلمات السحرية؛ فكل تعويذة هي في جوهرها صرخة في وجه الفراغ تقول: أنا هنا، وأنا مريد. السحر هو تحويل الخوف من العدم إلى قوة للسيطرة عليه. إنه التعبير الأسمى عن الذات التي تدرك فناءها، لكنها تختار أن تقاوم هذا الفناء بقوة الخيال والإرادة، محولةً لحظة وجودها إلى معجزة تخرق صمت الأزل. القوة السحرية هي نشيد الوجود في مواجهة صمت العدم. إنها التعبير الأعمق عن كرامة الذات التي ترفض الإنصياع لعدميتها، وتصر على أن تترك أثراً في نسيج اللاشيء. السحر والعدم في صراع دائم؛ أحدهما يمثل إرادة التجسد والآخر يمثل قوة التلاشي. وبينهما، تقف الإرادة السحرية كحارس للحدود، تضمن أن يظل الوجود ممكناً، مبدعاً، و حراً، حتى وهو يسبح في محيط من الفراغ اللانهائي.



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاس ...
- الِإنْطِوَلُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَا ...
- الأنطولوجيا التقنية للسحر والعدم: دراسة في الإمكان الكامن وا ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...
- السِّحْرُ قِنَاع الأُنْطُولُوجْيَا: كَيْفَ يُكْشِفُ التَّدَخ ...


المزيد.....




- هل تحاول العصابات المسلحة ملء فراغ السلطة في غزة؟ شاهد كيف ع ...
- سوريا.. صور آثار الانفجار في مسجد الإمام علي في حمص وحصيلة ا ...
- عام التحوّلات الكبرى: لماذا قد يغيّر 2026 موازين القوة العال ...
- عاجل: قتلى وجرحى في انفجار استهدف مسجداً بحي ذي غالبية علوية ...
- ضربات أمريكية -مميتة- في نيجيريا.. ترامب: قصفنا -داعش-
- من التحذير إلى القصف.. إعلام الانفصاليين اليمنيين يتحدث عن غ ...
- ترامب يعلن عن ضربات جوية ضد مواقع لتنظيم الدولة في نيجيريا
- موسكو تقول إنها قدمت لفرنسا -اقتراحا- بشأن الباحث لوران فينا ...
- بعد 6 سنوات.. منتخبا مصر وجنوب أفريقيا يجددان موعدهما في كأس ...
- عاصفة قوية تضرب كاليفورنيا وحاكم الولاية يعلن حالة الطوارئ ف ...


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - الِإنْطُولُوجْيَا التِّقْنِيَّة لِلسِّحْر وَالْعَدَم: دِرَاسَةٌ فِي الْإِمْكَانِ الْكَامِن وَالتَّشْكِيل الْوُجُودِيّ -الْجُزْءُ الثَّامِنَ عَشَرَ-