أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد الطيب - تشريح خطاب السلطة ولغة الجسد














المزيد.....

تشريح خطاب السلطة ولغة الجسد


عماد الطيب
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 13:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في المشهد السياسي العراقي، لا تكمن المشكلة الكبرى في نقص المشاريع أو غياب الوعود، بل في الطريقة التي يُخاطَب بها الناس. اللغة التي يستخدمها الساسة عند افتتاح المشاريع أو توجيه الرسائل العامة ما تزال لغة تقليدية، خشبية، لا تنتمي إلى وعي العراقيين اليوم ولا إلى مستوى شكوكهم وأسئلتهم العميقة. هي لغة تبدو وكأنها آتية من زمن آخر، تُلقى على جمهور صار أكثر حذرًا، أقل انبهارًا، وأكثر قدرة على تفكيك الخطاب وكشف خوائه.
لغة الخطاب السياسي في العراق تعتمد في الغالب على التعميم، وتجنّب التحديد، والإكثار من المفردات الفضفاضة مثل “النهضة”، “الرؤية”، “الالتزام”، “العمل الدؤوب”، وهي مفردات فقدت معناها التداولي بفعل الإفراط في استخدامها. السياسي حين يقف على المنصة لا يخاطب عقل المواطن بل يحاول ملء الفراغ الكلامي، فيتحدث كثيرًا دون أن يقول شيئًا محددًا. لا أرقام واضحة مرتبطة بحياة الناس، لا اعتراف بالأخطاء، لا لغة مساءلة ذاتية. كل شيء مصاغ بصيغة إنشائية ترفع المسؤول عن أي التزام مباشر، وكأن الخطاب مكتوب ليفلت من المحاسبة قبل أن يصل إلى الأذن.
الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب لا يُلقى بوصفه حوارًا مع المجتمع، بل كبيان فوقي. المتكلم لا يتحدث إلى الجمهور، بل فوق الجمهور. نبرة الصوت غالبًا أحادية، مرتفعة قليلًا، خالية من التلوين العاطفي الصادق. لا يوجد وعي بالإيقاع، ولا احترام لذكاء المستمع. السياسي يتعامل مع الحضور بوصفه كتلة صامتة، لا بوصفه شركاء في الفهم أو النقد. وهذا ما يجعل الخطاب يبدو متعاليًا حتى حين يتحدث عن “خدمة المواطن”.
أما لغة الجسد، فهي لا تقل فقرًا عن اللغة اللفظية. في معظم افتتاح المشاريع، يقف المسؤول بكتفين مشدودتين، وصدر متقدم قليلًا، وهي وضعية تعكس رغبة في إظهار السلطة أكثر من الرغبة في التواصل. حركة اليدين تكون إما مبالغًا فيها بلا انسجام مع المعنى، أو شبه غائبة، مكتفية بالإشارة العامة أو القبضة المغلقة التي توحي بالتأكيد القسري لا بالإقناع. العينان نادرًا ما تبحثان عن تواصل حقيقي مع الجمهور، وغالبًا ما تتجهان إلى الورقة أو إلى نقطة ثابتة في الفراغ، ما يوحي بانفصال ذهني بين المتكلم ومن أمامه.
حتى الابتسامة، حين تظهر، تكون ابتسامة بروتوكولية لا تحمل حرارة إنسانية. ابتسامة تُستخدم للكاميرا لا للناس. الجسد هنا يؤدي دورًا تمثيليًا، لا تواصليًا. السياسي يبدو وكأنه يؤدي واجبًا رسميًا ثقيلًا، لا لحظة تفاعل مع حدث يفترض أن يكون مهمًا ومفرحًا. هذا الانفصال الجسدي يعكس انفصالًا أعمق: انفصال بين السلطة والشارع، بين الخطاب والواقع.
الشاهد الذي يراه أي متابع بسيط هو رد فعل الجمهور. العيون الشاردة، الانشغال بالهواتف، الهمس الجانبي، أو حتى المغادرة المبكرة. هذه ليست قلة احترام، بل تعبير صامت عن فقدان الثقة. الجمهور العراقي لا يرفض المشاريع، بل يرفض اللغة التي تُقدَّم بها. يرفض أن يُخاطَب وكأنه لا يفهم، أو كأنه لا يتذكر. فالتجربة علّمته أن الكلمات الكبيرة لا تعني بالضرورة أفعالًا كبيرة، وأن الخطاب المنمّق غالبًا ما يخفي عجزًا أو تردّدًا.
غياب الإلمام بالبروتوكولات الحديثة للخطاب السياسي لا يظهر فقط في النص، بل في إدارة اللحظة نفسها. التوقيت الخاطئ، الإطالة المملة، تجاهل السياق النفسي والاجتماعي للجمهور، كلها مؤشرات على أن السياسي لم يتدرّب على فن الخطاب بوصفه أداة تواصل، بل بوصفه إجراءً إداريًا. في الدول التي تحترم علاقتها بمواطنيها، يُصاغ الخطاب ليكون قصيرًا، محددًا، مرتبطًا بالواقع، وتُدرَّب لغة الجسد لتكون متناغمة مع الصدق، لا مع السلطة.
في العراق، ما يزال السياسي يعتقد أن الوقوف على المنصة يمنحه تلقائيًا الهيبة، وأن الكلمات الرسمية تفرض الاحترام. لكنه لا يدرك أن الهيبة اليوم تُكتسب بالمصارحة، وأن الاحترام يولد من الشعور بأن المتكلم يفهم ما يقوله ويؤمن به. حين تكون لغة الجسد متوترة، والنبرة مصطنعة، والمفردات مكررة، فإن الرسالة تسقط مهما كان المشروع مهمًا.
المشكلة إذن ليست تقنية فقط، بل ثقافية. ثقافة سياسية لم تنتقل بعد من عقلية “الخطاب السلطوي” إلى “الخطاب التشاركي”. لم تدرك بعد أن المواطن لم يعد متلقيًا سلبيًا، بل ناقدًا ومحللًا ومقارنًا. كل حركة، كل نظرة، كل كلمة باتت تُقرأ وتُفسَّر وتُحاسَب.
من دون مراجعة جذرية للغة الخطاب ولغة الجسد معًا، سيبقى السياسي العراقي حاضرًا شكليًا، غائبًا معنويًا. سيبقى صوته مسموعًا في مكبرات الصوت، لكنه لن يصل إلى القلوب ولا إلى العقول. وحين تفشل اللغة في بناء الثقة، تصبح المشاريع نفسها بلا روح، مجرد إسمنت وحديد بلا معنى اجتماعي. العراق لا يحتاج فقط إلى مشاريع تُفتتح، بل إلى خطاب يُصدَّق، وجسد سياسي يتعلم أخيرًا كيف يقف أمام الناس لا فوقهم.



#عماد_الطيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القيادة الحقيقية : عندما يتفوق الوعي على السلطة
- عن اي شيء سيسجل التاريخ ؟
- تأملات في معنى الطبخة السياسية
- كيف خنتُ ضميري لأرفع وهماً ؟
- حضور باهت
- حين يصبح الهيام قدَرًا لا يُقاوَم
- كن صديقي
- تأملات في بؤس المشهد الثقافي
- كل الطرق تؤدي اليك
- قربكِ يؤذيني
- الوعي كألمٍ ناعم
- بين الطيبة والانفعال: سقوط الصورة الجميلة
- تعلموا النسيان .. وتركوا لنا الذنب كاملاً
- عدتِ متأخرة… فوجدتِ الخراب منظّماً
- عودة الشخص الآخر… عودة الحياة بطعم العتاب
- إمرأة من خيال
- همسة تصل… فتُزهر الروح
- الإنسان بعد انتهاء صلاحيته: قراءة في عنف التصنيف
- منحة المثقفين في ميزان التسليع: حين تُقاس الثقافة بفتات المو ...
- الشتيمة كفشل ثقافي: لماذا نُهين الصبر والوفاء؟


المزيد.....




- -عزيزتي بريطانيا: الأمور سيئة، لكن الولايات المتحدة ستتعافى ...
- سوريا: قتلى وجرحى في انفجار داخل مسجد بحي تقطنه غالبية علوية ...
- أوروبا أمام الحقيقة القاسية: -الحرب باتت احتمالًا واقعيًا-
- قتيلان و6 جرحى في هجوم نفّذه فلسطيني شمال إسرائيل.. وتل أبيب ...
- غارات السعودية على جنوب اليمن.. رسالة تحذير للانفصاليين؟
- أوكرانيا تدرب مدنيين على استخدام المسيّرات الاعتراضية للدفاع ...
- سوريا: مقتل 8 أشخاص بانفجار استهدف الأقلية العلوية داخل مسجد ...
- مقتل شخصين بهجوم بالطعن والدهس في شمال إسرائيل
- ما المنتظر من زيارة نتانياهو إلى الولايات المتحدة ولقائه الم ...
- انقسام جبل كينيا يفتح الطريق أمام روتو في انتخابات 2027


المزيد.....

- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ... / علي طبله
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عماد الطيب - تشريح خطاب السلطة ولغة الجسد