أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - أسطورة التقدّم: هل يتطوّر الإنسان أم تتطوّر أدوات السيطرة عليه؟














المزيد.....

أسطورة التقدّم: هل يتطوّر الإنسان أم تتطوّر أدوات السيطرة عليه؟


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 20:13
المحور: قضايا ثقافية
    


منذ أن تعلّم الإنسان إشعال النار، وهو يروي لنفسه حكاية واحدة بصيغ متعددة: نحن نتقدّم. تتغيّر الأدوات، تتبدّل المدن، تتكاثر الآلات، ويعلو منسوب الثقة بأن الغد أفضل بالضرورة من الأمس. غير أنّ هذا الإيمان، الذي يكاد يكون دينًا حديثًا، لم يُختبر بما يكفي على مستوى جوهر الإنسان، بل اكتفى غالبًا بمراقبة سطح الأشياء. فالتقدّم، كما يُقدَّم لنا، يُقاس بعدد الاختراعات، بسرعة الإنترنت، بارتفاع الأبراج، وبقدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة، لكنه نادرًا ما يُقاس بقدرته على السيطرة على شهواته، على كبح عنفه، أو على توسيع دائرة عدالته. هنا يبدأ الشك الفلسفي: هل يتقدّم الإنسان فعلًا، أم أنّ الذي يتقدّم هو شكل السيطرة التي تُمارَس عليه وباسمه؟..في قلب هذه الأسطورة يقف مفهوم زئبقي اسمه «التقدّم». كلمة مريحة، مطمئنة، لا يجرؤ أحد على معارضتها دون أن يُتَّهم بالرجعية أو العداء للعقل. لكنها كلمة مراوغة، لأنّها تفترض خطًا مستقيمًا للتاريخ، مسارًا صاعدًا لا يعود إلى الوراء، وكأنّ الإنسان كائن يتعلّم أخطاءه مرة واحدة ثم لا يكررها. غير أنّ التاريخ، إذا ما نُظر إليه بعيون أقل رومانسية، يبدو كدوّامة تعيد إنتاج العنف نفسه بأقنعة جديدة. ما تغيّر ليس الرغبة في الهيمنة، بل أدواتها. السيف صار قانونًا، والسوط صار خطابًا، والسجن صار شاشة، والرقابة صارت خوارزمية تعرف عنك أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك...العلم، الذي كان في لحظة ما وعدًا بالتحرّر، تحوّل تدريجيًا إلى لغة السلطة الأشد فاعلية. لم يعد القمع بحاجة إلى عصا، يكفيه تقرير، رسم بياني، نسبة مئوية، أو توصية «علمية». باسم العقلانية تُدار الحروب، وباسم الكفاءة تُقصى الفئات الهشة، وباسم الأمن تُراقَب الأرواح قبل الأجساد. هكذا يُعاد تعريف الإنسان لا بوصفه كائنًا أخلاقيًا، بل بوصفه وحدة قابلة للقياس، رقمًا في نظام، ملفًا في قاعدة بيانات. في هذا السياق، لا يبدو التقدّم ارتقاءً بالإنسان، بل تبسيطًا مفرطًا له، اختزالًا قاسيًا لمعناه المعقّد...الثقافة بدورها لم تسلم من هذا المسار. كانت في الأزمنة القديمة مساحة للأسئلة الكبرى، للقلق، للدهشة، وللتمرّد الرمزي. أمّا اليوم، فقد أصبحت في كثير من الأحيان جزءًا من ماكينة التكييف الاجتماعي. تُنتَج المعرفة بسرعة، تُستهلك بسرعة، وتُنسى بسرعة. المثقف، بدل أن يكون ضميرًا قلقًا، يُدفع ليكون خبيرًا مطمئنًا، يشرح العالم بدل أن يزعجه. تُكافأ الطاعة بأسلوب أنيق، ويُهمَّش الشكّ لأنه غير قابل للتسويق. في ظل هذا المناخ، يبدو التقدّم الثقافي وفرة في المحتوى، لكنه فقر في المعنى، ضجيجًا كثيفًا يخفي خواءً وجوديًا متناميًا...المدينة الحديثة، التي تُقدَّم بوصفها ذروة التقدّم العمراني، ليست سوى مختبر كبير للضبط. كل شيء فيها مُراقَب، مُنظَّم، مُبرمج. الشوارع ذكية، الكاميرات يقِظة، الإعلانات تعرف رغباتك قبل أن تعترف بها لنفسك. الحرية هنا ليست غائبة تمامًا، لكنها مُعاد تعريفها. أنت حر ما دمتَ تتحرّك داخل الخيارات المتاحة لك، وما دامت رغباتك منسجمة مع ما هو مُعدّ سلفًا. هذا الشكل الجديد من السيطرة لا يفرض نفسه بالقوة، بل بالإغراء، لا يقمعك بل يقنعك، لا يمنعك بل يوجّهك. وهنا تكمن خطورته، لأنه يجعل الخضوع يبدو اختيارًا، والامتثال يبدو عقلانية.ومع صعود الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، يدخل السؤال الفلسفي مرحلة أكثر حدة. هل نبتكر أدوات تفكّر معنا، أم أدوات تفكّر عنا؟ هل نوسّع حدود العقل الإنساني، أم ندرّبه على الكسل المعرفي؟ حين تُسلَّم القرارات للآلة، حتى وإن كانت «محايدة»، فإنّ الإنسان يتنازل تدريجيًا عن مسؤوليته الأخلاقية. الخطأ لم يعد خطأه، بل خطأ النظام. الظلم لم يعد خيارًا، بل نتيجة معادلة. هكذا يُفرَّغ الفعل الإنساني من ثقله الأخلاقي، ويُختزل إلى نتيجة تقنية.ورغم كل هذا، لا يمكن إنكار أن الإنسان حقّق إنجازات مذهلة. لكنه حقّقها غالبًا دون أن يرافقها نضج أخلاقي مكافئ. صار يعرف كيف يطيل عمره، لكنه لا يعرف كيف يعطيه معنى. صار قادرًا على التواصل مع أقاصي الأرض، لكنه عاجز عن الإصغاء لمن يجلس بجانبه. صار يمتلك قوة هائلة، لكنه يفتقر إلى حكمة استخدامها. هذه المفارقة هي قلب أسطورة التقدّم: تقدّم في الوسائل، تراجع في الغايات.السؤال إذن ليس هل التقدّم شر أم خير، بل لأي إنسان هذا التقدّم، وبأي ثمن. هل هو تقدّم يوسّع مساحة الحرية الداخلية، أم يضيقها؟ هل يجعل الإنسان أكثر قدرة على التعاطف، أم أكثر براعة في التبرير؟ الفلسفة هنا لا تعادي العلم ولا ترفض الحداثة، لكنها تطالب بشيء أبسط وأصعب في آن: أن يُقاس التقدّم بإنسانية الإنسان، لا بذكاء أدواته.ربما آن الأوان للتخلّي عن وهم الخط المستقيم، والاعتراف بأن التاريخ لا يتقدّم تلقائيًا، وأن التكنولوجيا لا تُنقذ وحدها، وأن الإنسان لا يصبح أفضل لمجرد أنه أصبح أقوى. التقدّم الحقيقي، إن كان له معنى، هو ذاك الذي يجعل الإنسان أقل قابلية للقتل، أقل استعدادًا للكراهية، وأكثر قدرة على رؤية الآخر بوصفه شريكًا في الهشاشة لا موضوعًا للسيطرة. ما عدا ذلك، ليس سوى تحديث مستمر لأدوات الهيمنة، مغلّفة بلغة براقة اسمها المستقبل.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجمجمة الأولى
- قَرِّبْ خُطاكَ
- عندما يرتدي القاضي خوذةً… وتصبح الدولة حاشيةً في بلاط السلاح ...
- إيطاليا… حين تتكلّم الحضارة لغة الشعر
- الصقور لا تستأذن الذباب: محمد صبحي في مواجهة إعلام الرداءة
- حين تُحاسَب السلطة ولا تُحاصَر الأرض
- بعيدُها
- سعدون شفيق سعيد حين يتكلم البركان بصوت الحكمة
- العالم على حافة إعادة التشكيل
- مرآة الغبار
- ريما…
- تسرق المقاومة اسمها وتُهان القيادة..
- فيضُ العشق
- أزهار السيلاوي… نخلة البصرة التي كتبت تاريخها بالحبر والضوء
- ظلال لا تُكتب… حين يولد الأدب في العتمة
- حكاية العراق بين فلسفة الفساد وميتافيزيقيا السلطة
- المرأة التي مشت فوق حدود النار… وسقطت في ظلّها
- ذاكرة العراق بعد أربعين عامًا من الحروب
- رحيل البلبل الأصيل… قراءة في وجع المبدع العراقي
- وَجْهُ الظَّلام


المزيد.....




- روسيا تشن هجومًا واسعًا على أوكرانيا وتغرق مدنها في الظلام
- تركيا: انقطاع الاتصال بطائرة تقل رئيس الأركان الليبي بعد إقل ...
- إسرائيل تمدد -قانون الجزيرة- وسط جدل بشأن تراجع حرية الاعلام ...
- عيد الميلاد في سوريا: احتفالات حذرة وأضواء خافتة بدمشق تتناق ...
- السودان في كأس أفريقيا .. هوية وروح واحدة في زمن الانقسام
- عاجل| القناة 13 الإسرائيلية عن مصادر: نتنياهو سيطلب من ترامب ...
- العمري: هذه هي خطورة -قانون الجزيرة- بصيغته الجديدة
- قوات إسرائيلية تقتحم بلدة كفر عقب ومخيم قلنديا
- موت بلا قذائف.. كيف تفتك آثار الحرب بأطفال غزة؟
- عاجل | وسائل إعلام تركية: انقطاع الاتصال بطائرة ليبية أقلعت ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - أسطورة التقدّم: هل يتطوّر الإنسان أم تتطوّر أدوات السيطرة عليه؟