أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - ذاكرة العراق بعد أربعين عامًا من الحروب















المزيد.....

ذاكرة العراق بعد أربعين عامًا من الحروب


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 12:07
المحور: قضايا ثقافية
    


في العراق، ليست الذكرى مجرد سجل للأحداث يتوارثه الأجيال، بل هي نسيج حيّ يختلط فيه الزمن بالجسد والعقل، يتلوّن بالأمل وينفطر بالألم. أربعة عقود من الحروب لا تمر كعواصف على خارطة الجغرافيا فحسب، بل تمحو خطوط الوجوه وتعيد ترتيب أسماء الشوارع في داخل الإنسان؛ تصنع هشاشة الذاكرة وتحفر فيها فراغاتٍ يصعب محوها. لا أكتب هنا سردًا تاريخيًا محايدًا للأحداث أو قائمة خسائر وإحصاءات؛ أكتب عن ذاكرةٍ تحوّلت إلى كيانٍ مزدوج: ذاكرة عامة تراجعت تحت وقع السياسة، وذاكرة فردية تشتتت بين لحم الفقد والحنين. هذه ذاكرة لا تروّضها الشعارات، ولا تستوعبها الاحتفالات الرسمية، بل تسكن في التفاصيل الصغيرة — في رائحة خبزٍ تقطّعت، في اسمٍ لم يعد يُنطَق، في بيتٍ لم يَعُد يعرف صاحبه طريقه.من الأمثلة التي تقرع الأذن وتؤلم القلب: قصة الجار الذي عاد بعد عشر سنين من الغياب ليجد أن حارة الطفولة قد تغيّرت إلى محطة مرور للغرباء، وأن حديقته الصغيرة — التي كان يرويها بيده كما يروي الشعر — قد تحوّلت إلى ركام لا يحمل سوى ذكرى صمت النخيل. لم يمت الجار، لكن موطنه الصغير مات في داخله؛ ماتت عيون الأطفال التي كانت تضيء عند رؤية البرتقال في السوق، وماتت أسماء الأصدقاء التي كانت تُستعاد في أمسيات القهوة. هذا الموت ليس موتًا جسديًا بالضرورة، بل هو موت معنى: فقدان القدرة على أن تكون ذاكرة مشتركة قابلة للحديث أمام الآخرين من دون أن تفضي إلى جرح جديد.وعندما نتحدث عن ذاكرة مجتمعية، نصل إلى ظاهرة أكثر خطورة: إعادة تصنيع الألم كهوية. في بعض المجتمعات التي عاشت الحرب طويلاً، يتحول الجرح إلى علامة تميّز، وإلى ملكية رمزية تُمنح لمن “يعرف” الألم بشكلٍ حقيقي؛ من هنا تتولد مراتب من الذكريات تُنتزع من سياقها، وتُستغل سياسيًا أو تُزجّ في خطاب مغلق. إن تلك الذاكرة لا تتيح مساحات للشفاء لأنها تكرّس الانقسام: من يغلق باب الصندوق الذي يحوي صورة القتيل ويصمه برمزٍ مكوّن من ألمٍ فقط، يصبح وحده صاحب الحق في التذكّر، بينما يُرغم الباقون على تهميش قصصهم أو تزييفها كي لا تزعزع الانتماء الجماعي.الذاكرة العراقية بعد أربعة عقود لم تكتف بأن تُشوّه الروح فحسب، بل أعادت ترتيب اللغة ذاتها؛ الكلمات التي كانت تشير إلى أشياء بسيطة أصبحت مثقلة بالدلالات. كلمة “عودة” قد تبدو في سطور أخرى أملاً رحبًا، لكنها هنا قد تعني اختبارًا جديدًا للهوية: هل يعود المرء إلى وطنٍ مستعاد أم إلى وطنٍ محتلٍّ من الداخل بذكريات أخرى؟ كذلك صار “النسيان” ليس اختيارًا بل نظامًا قسريًا: ننسى حتى نتحمّل، ونحمل حتى ننقل الألم إلى من بعدنا. وهذا لا يخفف المآسي بل يضاعفها، لأن كل نسيان يحمل في طياته إمكانية تكرار الألم دون وعي.
أما الجانب الفلسفي فيتطلب منا أن نسأل عن علاقة الذاكرة بالوجود والكرامة. كيف تتحول الذاكرة من مستودعٍ للحقيقة إلى سيف يُستعمل في الحكم على الآخرين؟ هل تصح دعوة “التذكّر” كما لو أنها واجب مقدس إن لم تقترن بمسؤولية أخلاقية لبناء فهم مشترك؟ إن ذاكرة بلا حكمة تتحول إلى دين لاذع، وذاكرة بلا مشاركة تتحول إلى نقمة. من هنا تنشأ ضرورة تحوّل الذكرى من فعل احتفاظ إلى فعل تحويل؛ أي تحويل التجربة إلى درس وطني إنساني لا يثير الشحنات الانتقامية ولا يسوّغ مزيدًا من العنف.في مرايا الفرد، تظهر آثار الحروب بصورة أكثر خصوصية وأقسى. أحدهم — جندي سابق — لا يستطيع أن يذكر اسم طفله دون أن تعود إليه رائحة البنزين والخرسانة، لا لأن الخراب قد طمس الصورة، بل لأن جهاز الذاكرة لديه تحوّل إلى شبكة تلتقط الصور الأكثر عنفًا وتعطيها الأولوية. إن هذا الاختلال في الهرمونات والذاكرة يجعل من كل تذكّر لحظة مخاطرة؛ فإذا أُحفِظت الذكرى في هيئة قصيدة فإنها قد تُقرأ كنداء للغفران، وإذا أُحفِظت كقنبلة فإنها قد تُشعل دائرة جديدة من العنف. هذا يوضح لماذا يصبح الحديث عن “العدالة الانتقالية” أمرًا فلسفيًا بالقدر الذي هو سياسي: العدالة ليست فقط محاكمات، بل هي إعادة صياغة للذاكرة بحيث تُصبح منبعًا للتعايش لا أداة للتفريق.لا يكفي أن نقول إن الذاكرة مشوّهة؛ علينا أن نبيّن الطرق التي يمكن للذاكرة أن تُشفى بها نفسها. أولها الاعتراف: ليس فقط الاعتراف بالذنب أو بالمسؤولية السياسية، بل الاعتراف بأن هناك أصواتًا لم تُسمع. مثال صارخ يمكن أن نراه في قصص النساء اللاتي حملن طيلة الحرب أوزار فقد أبنائهن وهن ينقّبن عن طرق للبقاء؛ إن سماع قصتهن ليس عطية مجردة، بل فعل يصحّح ميزان الحقيقة. ثانيًا، تحويل الذكرى إلى مشاركة فنية وثقافية — عبر الأدب والمسرح والسينما — إذ إن الفنون تضع لوحًا وسطًا بين الجرح والآخر، تُعرّف بالإنسانية المشتركة بطريقة لا تُملي الأحكام. ثالثًا، بناء مؤسسات تُعنى بالتاريخ الشفاف، لا تلك التي تُسجّل رواية واحدة، بل مؤسسات تحفظ تعدد الأصوات وتمنح المساحة للروايات المتقاطعة أن تُعرض وتُختبر.وأخيرًا، علينا أن نواجه مفارقة مؤلمة: ذاكرة الحروب قد تُنتج أيضًا إمكانات للتماسك الاجتماعي غير المتوقعة. عندما يضيع الأمن وتتكسر الأسواق، يظهر بين الناس نوع من التضامن الخفي الذي لا يسجله التاريخ الرسمي: جيران يمدون يدهم بلا انتظار مقابل، أمهات يشاركن خبر الطبخ والأدوية، وشباب يعيدون بناء جدران هشّة بعرقهم. هذه اللحظات ليست ترفًا أخلاقيًا بل هي بذور ذاكرة جديدة يمكن أن تُزرع: ذاكرة لا تُستثمر في الحقد، بل في الشفاء. لكن لكي تنبت هذه البذور تحتاج إلى مناخ سياسي وثقافي يشجّع على التعاطف لا الانتقام.الذاكرة العراقية بعد أربعين عامًا من الحروب ليست مهمة مجردة للمؤرخين أو لناشري النعي، بل هي امتحان أخلاقي لما إذا كنا سنحوّل الألم إلى مادة للعيش المشترك أم سنتركه أونارًا لا ينطفئ. عندما نتحدث عن ذاكرة متفتّتة، فنحن نتحدث عن مستقبل هش؛ وعندما نتكلم عن ذاكرة شفافة وناضجة، فنحن نتحدث عن أرض يمكن أن تُبنى عليها قيم العدالة والكرامة. لا شيء في النهاية ينقذ شعبًا مثلما ينقذه صدقه في تذكره، لكن ذلك الصدق لا ينفع ما لم تصحبه رغبة حقيقية في الإصلاح وتحويل الحكايات من أدوات قهر إلى وسائل فهم متبادل. على هذا النحو، تبقى الذاكرة العراقية مرآة مرهفة لماضٍ مؤلم وفرصة مدهشة لمستقبل قد يعطي للحياة معنى جديدًا بعيدًا عن جنائز الحروب.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل البلبل الأصيل… قراءة في وجع المبدع العراقي
- وَجْهُ الظَّلام
- ميزو مورتو… النصف ميّت الذي أعاد للبحر معنى الرجولة
- الألم كائنٌ في داخلي
- فنانٌ في زمن الجمال… سعدون جابر ومأساة الحقيقة في زمن الضجيج
- -حين يقف الشيخ أمام الكأس… وهل يجرؤ على الرشفة؟
- -منطق الغياب-
- شرقٌ يقترب من صحوته…
- فلسفة الازدحام… حين يتحوّل الطابور إلى ديانة خامسة في عالمٍ ...
- انسحابٌ يُشبهُ خفقة
- حين يتصدّر الصغارُ المشهد… وتغدو الساحةُ مرآةً مشروخة يقيم ف ...
- أجيالٌ تتبدّل… وذائقةٌ تبحث عن نفسها
- لهيبُ الوجد
- نهاية القارئ الأخير… القصة التي تُكتب بلا مَن يقرؤها
- -صمتٌ مصلوب-
- -تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-
- -صوتٌ بخمسين ألف… وبلاد تُباع في المزاد-
- جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن
- -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-
- الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية


المزيد.....




- نتنياهو يتحدث عن المرحلة الثانية من اتفاق غزة.. ويرد على سؤا ...
- أوروبا تواجه تحديات في جعل صوتها مسموعاً للصين - لوموند
- برّاك في جلسة حوارية بمنتدى الدوحة: جميع سياسات الغرب في الش ...
- ميرتس يدعو للسلام عبر حل الدولتين.. ونتنياهو: لن نسمح بقيام ...
- ميرتس: لا اعتراف بدولة فلسطينية قريبا ويجب تنفيذ خطة السلام ...
- مفاوضات ميامي… هل تدفع واشنطن كييف للقبول بشروط موسكو؟
- أوكرانيا: القوات الروسية تشن غارات جوية على مدينة كريمنشوك و ...
- خطرها أكبر من -هواوي-.. لماذا يطالب مجلس الشيوخ بمراقبة وحظر ...
- مرشح المعارضة الأوغندية يتهم الأمن بالاعتداء عليه
- بين سيول وضباب.. طقس غير مستقر يواجه 12 دولة عربية


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - ذاكرة العراق بعد أربعين عامًا من الحروب