أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - رحيل البلبل الأصيل… قراءة في وجع المبدع العراقي














المزيد.....

رحيل البلبل الأصيل… قراءة في وجع المبدع العراقي


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 11:05
المحور: قضايا ثقافية
    


في مساءٍ يشبه خفوت قنديلٍ تعب من السهر، رحل الفنان الأصيل قاسم إسماعيل بهدوء البلابل التي تموت في الظل، دون أن ينتبه أحد أن صوتًا كان يومًا يملأ البيوت فرحًا، صار يئنّ في آخر لياليه على سرير المرض. رحل بعدما أنهكه العناء، وترك وراءه سؤالًا مرًّا لا يكفّ عن الطرق على أبواب الذاكرة: هل تموت البلابل في غفلةٍ بلا رعاية؟ وهل قدَر المبدع في بلادنا أن يعيش محاصرًا بالإهمال، ويغادر محمولًا على جناح صمت؟قاسم إسماعيل، ذلك الصوت الذي خرج من رحم ديالى محمّلًا بفيض الشجن، لم يكن يعرف أن الطريق إلى بغداد في مطلع الستينات سيعبد له دربًا طويلًا نحو قلوب الناس. أحب الغناء مبكرًا، حين كان خاله أوّل من قال له: غنِّ يا ولد، فالصوت هدية لا تُهمل. وحين وصل بغداد، وجد في ابن عمّه بابًا آخر للشجن، فرافقه في الحفلات الشعبية، وتعلم من ضجيج الأزقة أن الأغنية العراقية تولد من القلب قبل المنصة.
وفي الثمانينات، حين كانت الأغنية العراقية في أوجها، ظهر قاسم بين أصوات كبيرة: محمود أنور، أحمد نعمة، كريم محمد، وكاظم الساهر، لكنه كان الأكثر تميزًا بينهم بصوته الذي يسافر بين المقامات كطائر يبدّل ارتفاعه دون أن يضطرب جناحه. امتلك قدرة نادرة على أداء أصعب الألحان، فتعاون معه كبار الملحنين: جعفر الخفاف، علي سرحان، كريم هميم، إبراهيم السيد، ياسين الراوي، طالب القره غولي، وسرور ماجد… ذلك الأخير قدم لصوته الخالدة "يا عين وتكولين خلّ نْسَامّحه" بكلمات كاظم السعدي، فأصبحت واحدة من الأغنيات التي لا تشيخ، لأنها مكتوبة على نبض الوجدان.انضم عام 1970 إلى الفرقة القومية، ليكون امتدادًا طبيعيًا لجيل ذهبي غنى للوطن والحب، ووضع بصمته العميقة في ذاكرة العراقيين عبر أنشودته الشهيرة "سلامًا يا وطن". لكنه، رغم كل ذلك المجد، غادر الساحة الفنية فجأة، تاركًا جمهوره بين الحيرة والعَتَب. وحين سُئل عن الأسباب، تحدث بمرارة عن وضع عام لا يشجع الفنان، وعن أثقال مادية تحول بينه وبين الفن، وعن طارئين على الغناء جعلوا ذائقة الجمهور في مهب الريح. فالفنان الحقيقي — كما قال — لا يركض خلف الكم، بل يبحث عن النوع، عن الأغنية التي تشبه روحه، لا السوق.
كان جمهوره يتهمه بـ"البخل الفني"، لكنه اعترف، بابتسامة من يعرف حجم الديون التي يدفعها الإبداع: أوافق جمهوري… لكني لم أنقطع، أنا فقط كنت قليل الظهور لأن الفن لم يعد كما كان. ومثلما عاش وسط جيلين، سبعيني متخم بالإبداع، وتسعيني محاصر بالضباب، ظلّ هو نفسه حالة فريدة أربكت النقاد، حتى قال عنه فاروق هلال: لا نعرف على أي جيل نصنّف هذا الصوت.لكن، ماذا عن سنواته الأخيرة؟ ماذا عن ذلك الجسد الذي أنهكه المرض، وتلك الروح التي بقيت تغني رغم التعب؟ هنا ينفتح الجرح الأكبر. فالمبدع في العراق، كالشجرة التي تعطي ظلًّا للجميع لكنها حين تذبل، لا يجد من يسقيها. يعيش الفنان صمتًا قاسيًا، وحين يمرض، يشعر أن كل ما أنجزه يتلاشى بين جدران المستشفيات. كأن الإبداع في هذا البلد قدرٌ يُحتفى به يومًا، ويُنسى في اليوم التالي.قاسم إسماعيل عاش هذا الألم. عاش حياء الفنان الذي يخفي وجعه كي لا يرهق الآخرين. عاش ألم المرض وحيدًا، كما يعيش المبدع العراقي دائمًا وحيدًا حين ينطفئ الضوء. لم تسعفه الدولة، ولم تحتضنه المؤسسات، ولم تلتفت إليه قنوات كانت يومًا تتغنى بصوته. وهكذا رحل البلبل الذي لم يجد من يداوي جناحه الأخير.ولأن الموت يختبر حقيقتنا، فإن رحيل قاسم يكشف أن المجد وحده لا يحمي الفنان، وأن الذاكرة وحدها لا تكفي. المبدعون ليسوا تماثيل نزيّن بهم منصات التكريم؛ إنهم بشر يحتاجون إلى رعاية، إلى تقدير، إلى يد تمسح عن جبينهم العرق حين يشتد المرض. فإذا كانت الأمم الساعية للخلود تصنع للبلابل أعشاشًا من عناية، فإن بعض أوطاننا — للأسف — تتركها تموت في الهواء.رحل قاسم إسماعيل، لكنه ترك لنا ما هو أثمن من كل المناصب: ترك صوته، وحنينه، وصدق أغانيه، وترك سؤالًا يطارد الضمير العراقي إلى الأبد:
كم قاسمًا آخر سيموت قبل أن نتعلم أن الفن حياة، وأن المبدع ليس ظلًا عابرًا بل ثروة وطن؟..سلامًا لروحه،..سلامًا لصوته،
وسلامًا لذاكرةٍ ترفض أن تطوي صفحة البلابل وهي تعلّمنا كيف يكون الألم طريقًا إلى الخلود.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وَجْهُ الظَّلام
- ميزو مورتو… النصف ميّت الذي أعاد للبحر معنى الرجولة
- الألم كائنٌ في داخلي
- فنانٌ في زمن الجمال… سعدون جابر ومأساة الحقيقة في زمن الضجيج
- -حين يقف الشيخ أمام الكأس… وهل يجرؤ على الرشفة؟
- -منطق الغياب-
- شرقٌ يقترب من صحوته…
- فلسفة الازدحام… حين يتحوّل الطابور إلى ديانة خامسة في عالمٍ ...
- انسحابٌ يُشبهُ خفقة
- حين يتصدّر الصغارُ المشهد… وتغدو الساحةُ مرآةً مشروخة يقيم ف ...
- أجيالٌ تتبدّل… وذائقةٌ تبحث عن نفسها
- لهيبُ الوجد
- نهاية القارئ الأخير… القصة التي تُكتب بلا مَن يقرؤها
- -صمتٌ مصلوب-
- -تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-
- -صوتٌ بخمسين ألف… وبلاد تُباع في المزاد-
- جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن
- -عندما يبدّل الناس وجوههم عند عتبة الباب-
- الإنسان الممسوح: حين تُلغى الذاكرة باسم الحماية
- نهاية الشعر وبداية الصمت


المزيد.....




- نتنياهو يتحدث عن المرحلة الثانية من اتفاق غزة.. ويرد على سؤا ...
- أوروبا تواجه تحديات في جعل صوتها مسموعاً للصين - لوموند
- برّاك في جلسة حوارية بمنتدى الدوحة: جميع سياسات الغرب في الش ...
- ميرتس يدعو للسلام عبر حل الدولتين.. ونتنياهو: لن نسمح بقيام ...
- ميرتس: لا اعتراف بدولة فلسطينية قريبا ويجب تنفيذ خطة السلام ...
- مفاوضات ميامي… هل تدفع واشنطن كييف للقبول بشروط موسكو؟
- أوكرانيا: القوات الروسية تشن غارات جوية على مدينة كريمنشوك و ...
- خطرها أكبر من -هواوي-.. لماذا يطالب مجلس الشيوخ بمراقبة وحظر ...
- مرشح المعارضة الأوغندية يتهم الأمن بالاعتداء عليه
- بين سيول وضباب.. طقس غير مستقر يواجه 12 دولة عربية


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - رحيل البلبل الأصيل… قراءة في وجع المبدع العراقي