أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حكاية العراق بين فلسفة الفساد وميتافيزيقيا السلطة














المزيد.....

حكاية العراق بين فلسفة الفساد وميتافيزيقيا السلطة


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 18:03
المحور: قضايا ثقافية
    


في بلادٍ تُسمّى دولة على الخرائط، وتُعامل ككيان قائم في نشرات الأخبار، يقف العراق اليوم كتمثال سومري يخرج نصفه من الطين بينما يحدّق نصفه الآخر نحو السماء، يسأل عن الروح التي سُرقت ولم يعد أحد يعرف من أعاده إلى الحياة. الإجابات بقيت في الأماكن الخطأ؛ فالمجيبين الحقيقيين مشغولون الآن بتقسيم ما تبقى من الدولة في غرفٍ مظلمة، بينما يُترك الشعب ليقتسم الضوء بالتخمين.لم تعد بغداد تسأل السؤال القديم: من يحكم؟..بل أصبحت تسأل: أين يُحكم؟..فالقصر الجمهوري والبرلمان والوزارات لم تعد فضاءات إنتاج القرار، بل مسارح بديكور رسمي. الممثلون يظهرون نسخًا أنيقة من الدولة، لكن النص الحقيقي يُكتب خارج الخشبة: في بيوت محجوبة، ومكاتب ذات نوافذ معتمة، وخزائن تُفتح بكلمات سرّ سياسية أكبر من الدستور نفسه.هناك، خلف الستائر الثقيلة، يُصاغ مستقبل المناصب كما تُقسم غنائم معركة لم تقع. الوزير الذي يظهر على الشاشة هو آخر من يعلم أنه وزير، أما تسعيرة مقعده فتعرفها أطراف أخرى. فالمنصب هنا ليس تكليفًا ولا مسؤولية، بل سلعة تُقاس بوحدات النفوذ والقدرة على توقيع العقود، وتسهيل المصالح، وتوزيع الامتيازات. الدولة تحوّلت إلى ختم يُستخدم لإضفاء الشرعية على قرار جرى بيعه مسبقًا، واليمين الدستوري مجرد فاتورة شحن.صار العراق يعيش في نظامين متوازيين:الأول يُدرّس في المدارس، والثاني يُمارَس في غرف الصفقات.
الأول مكتوب في الدستور، والثاني مكتوب على أوراق لا تُترك في الأرشيف، بل تُحفظ في جيب رجلٍ مقرّب من دائرة النفوذ.وحتى المؤسسات المالية لم تعد كما نعرفها؛ تبدلت طبيعتها، وأصبحت كائنات هجينة نصفها شركة صيرفة، ونصفها حزب، ونصفها الآخر ظلّ لرجل أعمال صعد نجمه بفضل قربه من القرار لا بفضل خبرته الاقتصادية. هذه الشركات لم تعد تبيع العملة، بل تبيع الغفران السياسي، وتغسل أخطاء من يدفع أكثر. ملايين الدولارات تنتقل من غرفةٍ خلفية في ثوانٍ، بينما يعجز المواطن عن تحويل راتبه بين مصرفين في الشارع ذاته.وإذا خطر ببال أحد السؤال: كيف تتحرك كل هذه الأموال في بلد يُقال إنه تحت رقابة مالية دولية صارمة؟..فإن الإجابة تأتي بلا تردد: الرقابة تلاحق ما هو رسمي فقط، بينما الفساد يعيش في المنطقة الرمادية. الاقتصاد النقدي، الحوالات خارج النظام المصرفي، التجارة الوهمية، وفواتير الاستيراد المزوّرة — كلها تشكل نهرًا خفيًا لا تدركه الأقمار الصناعية، ولا تعترضه لجان التدقيق. عشرات الملايين تُنقل يوميًا كما تُنقل البضائع العادية: صناديق مُغلقة بحماية رسمية، لا تمرّ بمصرف، ولا تترك أثرًا.الحوالات الخارجية تحتاج إلى كلمة سر وليس إلى نظام سويفت. إلى إشارة هاتف وليس إلى مصرف. إلى ثقة بين طرفين وليس إلى دولة بينهما. المال هنا لا يسافر؛ إنه يتبخر من مكان ليظهر في آخر، كما لو أنه كائن ميتافيزيقي يتحرك بين بغداد ودبي وبيروت بسرعة الضوء.وهكذا لم يعد الفساد ظاهرة، بل أصبح بنية حكم. شبكة يختلط فيها الحزبي بالمصرفي، والسياسي بالأمني، والتجاري بالإقليمي. منظومة تحمي نفسها بنفسها، وتعيش على المال السياسي كما تعيش الكائنات الدقيقة على الرطوبة. أي محاولة إصلاح حقيقية تُعدّ تهديدًا مباشرًا لاستقرارها، ولذلك تُجهض قبل أن تنطق أول كلمة.إن الدولة الحقيقية تُحكم بالقانون، أما الدولة الحالية فتُدار بالتفاهمات. الأولى تُبنى على المؤسسات، والثانية تُدار كصفقة. الأولى تخطط للمستقبل، والثانية تؤجره.
البلاد اليوم لا تُحكم، بل تُدار. والفارق شاسع.ما نراه ليس مجرد فساد، بل فلسفة وجود كاملة، تحولت فيها المكاتب الرسمية إلى واجهات، والمؤسسات إلى أسماء، والمنصب إلى رقم حساب. بينما تتحرك ملايين الدولارات خلال دقائق، تحتاج الدولة إلى سنوات لتحريك ملف إصلاحي واحد، وربما لا تتحرك أبدًا.
وحتى يعود العراق دولة تُصنع في الضوء، لا في الظل، لا بد أن تُكسر هذه المنظومة لا أن تُرمم. أن تُقتلع جذور النفوذ لا أن تُقلم. فالإصلاح الحقيقي لا يكون بتشييد واجهة جديدة، بل بإعادة بناء الأساس من جديد.وإلى أن يحدث ذلك، ستبقى البلاد تركض فيها الأموال بسرعة الخيال… بينما تقف الدولة مكانها، تحاول أن تتذكر — بمرارة — متى كانت دولة.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة التي مشت فوق حدود النار… وسقطت في ظلّها
- ذاكرة العراق بعد أربعين عامًا من الحروب
- رحيل البلبل الأصيل… قراءة في وجع المبدع العراقي
- وَجْهُ الظَّلام
- ميزو مورتو… النصف ميّت الذي أعاد للبحر معنى الرجولة
- الألم كائنٌ في داخلي
- فنانٌ في زمن الجمال… سعدون جابر ومأساة الحقيقة في زمن الضجيج
- -حين يقف الشيخ أمام الكأس… وهل يجرؤ على الرشفة؟
- -منطق الغياب-
- شرقٌ يقترب من صحوته…
- فلسفة الازدحام… حين يتحوّل الطابور إلى ديانة خامسة في عالمٍ ...
- انسحابٌ يُشبهُ خفقة
- حين يتصدّر الصغارُ المشهد… وتغدو الساحةُ مرآةً مشروخة يقيم ف ...
- أجيالٌ تتبدّل… وذائقةٌ تبحث عن نفسها
- لهيبُ الوجد
- نهاية القارئ الأخير… القصة التي تُكتب بلا مَن يقرؤها
- -صمتٌ مصلوب-
- -تاريخ الأعمال الفنية التي حاولت قتل أصحابها-
- -صوتٌ بخمسين ألف… وبلاد تُباع في المزاد-
- جريمة قتل الانتماء… حين ينجو الوطن ويُقتل المواطن


المزيد.....




- إلغاء حق الجنسية بالولادة.. ماذا قال ترامب عن احتمال خسارة ا ...
- هل يبقى أحمد الشرع في السلطة -للأبد- وكيف يؤثر تاريخه بمستقب ...
- كوريا الجنوبية تنشر مقاتلاتها بعد دخول طائرات روسية وصينية م ...
- بيت لحم: شجرة الميلاد تضيء ساحة المهد رغم الجراح
- ذكرى سقوط نظام الأسد.. عودة إلى طفولة اختطفت وآلاف السوريين ...
- مقتل 67 صحافيا خلال سنة حوالى نصفهم في غزة
- المخ يغير وصلاته العصبية بالكامل 5 مرات خلال عمر الإنسان
- كيف تحولت شبابيك سوريا إلى أكبر منصة إعلامية خلال ردع العدوا ...
- اللواء الدويري: لهذه الأسباب تنقل إسرائيل قواعدها إلى الخط ا ...
- قلة النوم مرتبطة بانخفاض متوسط ??العمر المتوقع


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - حكاية العراق بين فلسفة الفساد وميتافيزيقيا السلطة