أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - ياسر قطيشات - صانعو الظِلال في فلسفة الطُغيان














المزيد.....

صانعو الظِلال في فلسفة الطُغيان


ياسر قطيشات
باحث وخبير في فلسفة السياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية

(Yasser Qtaishat)


الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 22:54
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


في الليلة التي هبط فيها الحاكم الجديد إلى ساحة البلاد، كانت الشوارع مليئة بالتصفيق، لكن العيون -وحدها- كانت تعرف أن الرجل لم يأتِ من بينها، كان يمشي بثقة من يعرف طريقه جيداً، كأن أحداً رسم له خطوته قبل أن يخطوها، وكأن ظلاً طويلاً يسبقه أينما ذهب!
في السياسة، لا يولد الطُغاة فجأة، فـ"خلف كل طاغية ستجد شخصاً يصنعه".. إنهم لا يهبطون من سماء بلا سحب، ولا يخرجون من رحم الأمة؛ كما يخرج القائد الحقيقي، ولا يتشكلون من فراغ؛ إنهم ثمرة بيئات سياسية، واقتصادية، وثقافية، وشبكات نفوذ داخلية وخارجية، تلتقي جميعاً عند نقطة خطيرة: رغبة مشتركة في السيطرة.
الطاغية ليس فرداً.. بل مشروع: تخبرنا الفلسفة السياسية أنّ الاستبداد لا يُختزل في شخص، بل هو منظومة، والطاغية، في هذا المعنى، ليس سوى الواجهة الأكثر صخباً لمشروع أكبر: مشروعٌ تُصاغ ملامحه خارج الأضواء، ويتقاسم صياغته لاعبون محليون ودوليون، أصحاب مصالح ومخاوف وحسابات.
هنا يصبح الطاغية "مُنتَجاً" أكثر منه "فاعلاً حراً".. مُنتَجاً لشبكات عميقة تتقاطع فيها المصالح بين أجهزة أمن، وأجهزة استخبارات أجنبية، ورجال أعمال، ومراكز فكر، ونخبٌ محلية تبحث عن حماية امتيازاتها ولو على حساب حريات الشعوب.. فاليوم تُحكم الشعوب بطرق أضمن وأوفر: بـ"أنظمة" تُدار، لا "دول" تُحتل.
فالهيمنة لا تحتاج إلى الجنود فحسب، بل تحتاج قبل ذلك إلى الوسيط؛ إلى من يفتح بوابات النفوذ، ويضمن الانصياع، ويقدم مصالح الخارج بوصفها مصالح الداخل، ويقمع المجتمع إن تمردت فطرته أو نهض وعيه!
وهنا تتحقق فكرة "الصانع" الذي يختبئ خلف الستار، صانعٌ يُدرك أن الحكم المباشر لم يعد ممكنًا في عصر الدولة الوطنية، وأنّ الهيمنة الحديثة تحتاج إلى وكلاء محليين يتحدثون لغة الشعب، لكنهم لا ينتمون لآماله. شخصٌ لا يظهر في الصورة، لكنه موجود في كل التفاصيل: في العقد الأول الذي وقّعه الطاغية، في صفقة السلاح، في قائمة الخصوم المطلوب سحقهم، وحتى في كلمات الخطاب، مهما حاولت الأمة أن تصدّق خطابه، تشعر في أعماقها أن جزءاً من السلطة لا يشبهها، وأن يداً غريبة تعبث في لوحة قيادتها.
ليس هؤلاء الصنّاع بالضرورة شبيهين "بموئيز كوهين" -مهندس الطورانية ومشروع التتريك وأتاتورك- في الصورة التقليدية للجاسوس؛ بل قد يكونون دبلوماسيين، أو خبراء، أو رجال اقتصاد، أو مستشارين، أو شبكات مصالح دولية تعمل بمكر هادئ لا يحتاج إلى صخب، فالعالم اليوم يُدار بالكواليس أكثر مما يُدار بالميادين.
في اللعبة الخفية: من يدير من؟ تفترض الفلسفة وجود شخصٍ واحد خلف الستار، لكنّ العالم اليوم أعقد من صورة "العرّاب" الفرد، إننا أمام شبكات نفوذ تمتد من العواصم الكبرى إلى القصور الرئاسية، ومن الشركات العابرة للحدود إلى غرف صناعة القرار المحلي.
والطاغية، مهما بدا قوياً، هو جزء من لعبة أكبر منه، لعبةٌ تتقاطع فيها مصالح أجهزة استخبارات، وتحالفات إقليمية، وتوازنات دولية، ومشاريع اقتصادية، ومخاوف جيوسياسية، وكلها تُبقي الطاغية في موقعه طالما يخدم الدور المطلوب منه!
والمفارقة أن الطاغية لا يكتشف أنه مجرد "أداة" إلا عندما يسقط فجأة، لحظة واحدة يتوقف فيها الدعم الخارجي، فينهار كل شيء، لا مظاهر القوة تنفعه، ولا جيوشه التي عظّمها، ولا مؤيدوه الذين صنعهم بالترهيب.
في لحظة ما، تصبح السلطة مسرحاً كبيراً، والجمهور يظن أن البطل الذي أمامه هو من يقرّر، بينما المخرج الحقيقي يقف خارج الإطار، يغيّر المشاهد ويعيد كتابة الفصول. فمن كان يُصنع كـ"ضرورة" يصبح عبئاً، ويُستبدل بغيره في لعبة تدوير لا تنتهي.
هكذا يُدار العالم: ليس بالقرارات المعلنة، بل باللحظات التي لا تُلتقط بالكاميرا،
الطاغية هو الجزء المرئي من جبل الجليد، أما تسعة أعشاره فمغمور في مياه المصالح الدولية والصفقات المظلمة.
من السهل إلقاء اللوم على "الآخر" وصانعيه، لكن الفلسفة النقدية تسأل: كيف استطاع هؤلاء أن يصنعوا طاغية بين ظهرانينا؟ ما الذي جعل بنية الأمة قابلة للاختراق؟ الطاغية لا يُستورد، بل يجد أرضاً خصبة يترعرع فيها: ضعف المؤسسات، انهيار العقد الاجتماعي، انقسام المجتمع، تقديس القوة على حساب القانون، ثقافة الخضوع التي تصنعها قرون من القهر ..الخ.
إنّ أخطر ما في الطغيان أنه يحتاج إلى قابلية داخلية، كما قال "مالك بن نبي" قبل عقود، فحيثما يغيب الوعي الشعبي، ينهض "الصانع" ليجد الأرض ممهدة.
فالطغيان عبارة عن (مرآة) تعكس الواقع السياسي والاجتماعي في أي بلد أو كيان، والصانع هو الظلّ الذي يحرّك الصورة، لكنّ تحرير الأمة يبدأ من نقطة واحدة: كسر العلاقة بين الاثنين،
فحين تقوى المؤسسات، ويستيقظ الوعي الجمعي، وتُبنى الإرادة الحرة بالمعرفة، ويُعاد بناء القوة داخل المجتمع والأمة، يسقط مشروع الاستبداد، ويصبح الصانع عاجزاً عن صناعة الطاغية، ولا يعود الخارج قادراً على صناعة حاكم بلا جذور.
فـ"صانعو الظِلال".. عاجزون عن اختراق أمة تمتلك مناعة مؤسسية وثقافية، وينجحون، فقط، حين تتحول الأمة نفسها إلى مساحة معتمة، ظِلالها الخوف والهيمنة.



#ياسر_نايف_قطيشات (هاشتاغ)       Yasser_Qtaishat#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلم والسلطة: معركة الحقيقة والقوة
- الزمن الفلسطيني بين المصادرة والترويض
- الخديعة الثانية!
- الهويّة المنفيّة: -اليهود العرب- في مرآة المخيال الصهيوني
- نهاية الدولة أم ما بعدها؟
- -فلسفة الاستسلام وفقه الخنوع-.. ضرورةٌ مرحلية أم استقالةٌ من ...
- -النظام الدولي القائم على القواعد-.. عندما تصنع القوّة قواعد ...
- استقرار الأنظمة واضطراب المجتمعات!
- متى نجلسُ بجانب النافذة!؟
- لبنان والمعادلة المستحيلة: دولة بلا مقاومة أم مقاومة بلا دول ...
- انهيار وهم الحماية: درس الدوحة في منظومة الأمن الخليجي والعر ...
- ما بعد الإدانة .. وما قبل الانهيار: متى يغادر العرب دائرة ال ...
- قمة -شنغهاي- والاستعراض الجيوسياسي: هل ينكسر احتكار الغرب لل ...
- لبنان و-سلاح- حزب الله: بين معادلات الداخل ووصاية الخارج
- أمريكا -السنية والشيعية-: كيف حوّلت الطائفية إلى استراتيجية ...
- الأردن في مواجهة المشروع الصهيوني وخيارات التحدّي الوجودي
- ما بعد -مؤتمر نيويورك-: هل تتجه فلسطين نحو الدولة أم نحو الع ...
- -عقدة الثمانين- .. بين سرديّة الاعتراف وسرديّة الوجود!
- الصندوق الأسود العربي: محاولة لفهم لحظة السقوط
- -غزة- في مرآة الخذلان العربي


المزيد.....




- ترامب يوضح لـCNN تفاصيل ملاحقة ناقلة نفط قبالة سواحل فنزويلا ...
- صلاح ينقذ منتخب مصر من فخ زيمبابوي ويعيده للانتصارات بكأس أف ...
- نتنياهو: سأبحث نووي إيران والمرحلة التالية من خطة غزة مع ترا ...
- اقتحامات بأنحاء بالضفة واعتداءات للمستوطنين في الخليل
- قرقاش: الإمارات تعمل مع شركائها من أجل منطقة خالية من التطرف ...
- اشتباكات حلب..استمرار النزوح ببعض المناطق وترقب للوضع الأمني ...
- زيلينسكي: مفاوضات إنهاء الحرب -قريبة جدا- من تحقيق نتيجة
- الأكبر في العالم.. ترامب يعلن بناء سفينة حربية تحمل اسمه
- الداخلية السورية: تصعيد -قسد- بحلب محاولة لإفشال اتفاق مارس ...
- ترامب يكشف النقاب عن سفن حربية جديدة من طراز يحمل اسمه: -ستب ...


المزيد.....

- النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط / محمد مراد
- افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار ... / حاتم الجوهرى
- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - ياسر قطيشات - صانعو الظِلال في فلسفة الطُغيان