أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - ياسر قطيشات - العلم والسلطة: معركة الحقيقة والقوة














المزيد.....

العلم والسلطة: معركة الحقيقة والقوة


ياسر قطيشات
باحث وخبير في فلسفة السياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية

(Yasser Qtaishat)


الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 19:23
المحور: حقوق الانسان
    


منذ أن بدأ الإنسان يسأل، أصبحت المعرفة مصدراً للقلق لدى السلطة، فالعلم بطبيعته قوة تحررّ: يكشف ما تريد الأنظمة إخفاءه، ويُنتج شرعية معرفية توازي الشرعية السياسية، ويحررّ الإنسان من الخرافة، ويمنحه قدرة على التفكير خارج نطاق الهيمنة.
لذلك، فإن الصراع بين "العالِم والحاكِم" ليس حادثاً تاريخياً، بل هو صراع بنيوي بين العلم؛ بوصفه بحثاً عن الحقيقة، والسلطة؛ بوصفها ادعاءً لامتلاك الحقيقة.
وهذا التوتر هو ما يجعل الحضارات تبدو وكأنها تحتفل بعلمائها بعد موتهم، بينما كانت تضطهدهم في حياتهم، الإسلام كرّم ابن رشد وابن سينا، لكن السلطة الإسلامية سجنهما أو نفتهما، أوروبا تعتبر غاليليو رائداً، لكنها حاكمته، الصين تتفاخر بتراثها المعرفي، لكنها أبادت معظم كتب علمائها في عصر واحد! .. المفارقة إذاً ليست إسلامية أو عربية أو شرقية وغربية، إنها إنسانية.
يرى "ميشيل فوكو" أن السلطة ليست مجرد مؤسسات، بل شبكة لإنتاج الحقيقة والسيطرة على ما يعدّ "معرفة"، وبذلك يصبح العالِم منافساً سياسياً، لأن ما يقوله ليس مجرد أفكار، بل يمسّ تعريف الحقيقة نفسها. وبهذا المنظور يصبح العاِلم، دون سلاح، قادراً على إرباك السلطة لأنها تخشى صوتاً لا يمكن إخضاعه إلا بالقوة.
عاش "ابن سينا" نموذجاً حياً لمعادلة "المعرفة في مواجهة السلطة"، حيث سجنه حاكم همدان، ثم حرّره حاكمٌ آخر (علاء الدولة محمد) وقاده معه إلى أصفهان، اضطهدته الدولة لكنه بقي أقوى من السلطة، المجتمع -وليس النظام السياسي- هو من احتضنه، ولهذا خُلّدت كتبه، فهو مثال واحد على أن العالِم ينجو بفكره لا بولائه.
أما "ابن رشد"؛ الفيلسوف الذي نفته السلطة واحتفى به الغرب، فقد نُفي وأُحرقت كتبه في الأندلس، ثم أصبح أساس النهضة الأوروبية بعد وفاته، لم تكن المشكلة في "الإسلام"، بل في السلطة السياسية التي رأت فلسفته خطراً على خطابها الديني–السياسي. والأمة الإسلامية لاحقاً أعادت اكتشافه والاحتفاء به.. القمع كان سياسياً… والاحتفاء كان ثقافياً.
فيما استخدم "ابن الهيثم" الجنون كاستراتيجية مقاومة أمام قمع السلطة، فعندما أدرك استحالة تنفيذ مشروع هندسي طلبه الحاكم الفاطمي، تظاهر بالجنون لينجو بحياته وبعلمه، ومع ذلك ترك أكثر من 120 كتاباً وأعاد اكتشاف الكاميرا المظلمة.
السلطة تمتلك القوة، لكن العالِم يمتلك الحيلة والخيال، فـ"الفارابي"، استخدم حيلة "النشر بعد الموت" كتحرير للمعرفة، فقد أوصى بنشر كتبه بعد وفاته، ليكتب بحرية مطلقة دون خوف من السلطة، لقد أدرك الفارابي أن الحقيقة تملك قوتها حتى بعد موت صاحبها، ولا تستطيع السلطة محاكمة الأموات.
ولكن لماذا تنتج الأمة (الحضارة) العلماء وتطاردهم الدولة؟
هنا يكمن جوهر الأحجية التي طرحتها، كيف يمكن لحضارة أن تفتخر بعلمائها بينما قمعتهم دولها؟ الجواب: لأن "الأمة" غير "الدولة"، فالأخيرة هي جهاز سياسي يريد الاستقرار والطاعة، ويخاف من السؤال والنقد، ويرى في العلماء منافسين للشرعية.
أمّا الأمة (الحضارة) هي فضاء واسع، يصنع الثقافة والمعرفة، ويحفظ العلماء في ذاكرة طويلة تتجاوز عمر الحكام.
وشهد التاريخ الغربي صداماً متكرراً بين السلطة والعلماء؛ فـسقراط أُعدم لأنه تحدّى السلطة الأثنية، و"تشي هوانغتي" أحرق الكتب وقتل العلماء لفرض "حقيقة واحدة" مدارها السلطة أو الحاكِم، ورغم ذلك، تمكنت أفكار مثل فلسفة "لاوتزه" من النجاة والانتقال إلى الحضارة العربية الإسلامية، ما يؤكد أن المعرفة أقوى من الاحتكار السياسي.
ولم يُحاكم "غاليليو" بسبب خطأ علمي، بل لأنه هددّ سلطة المؤسسة الدينية التي احتكرت تفسير الكون، كما تعرض "فولتير وروسو" للنفي والسجن بسبب نقدهما للكنيسة والملكية، إنها حالة قصوى من احتكار الدولة للمعرفة.
وفي القرن العشرين، أعادت "المكارثية" إنتاج القمع في الولايات المتحدة، فلاحقَت علماء مثل أوبنهايمر وبولينغ، بينما شهد الاتحاد السوفييتي موجات اضطهاد واسعة للعلماء في عهد ستالين، وخسرت إيطاليا العالِم "إنريكو فيرمي" عام 1939م بفعل الفاشية والعنصرية، ليتحول دعامةً للنهضة النووية الأميركية.
وفي عصر التنوير والحداثة الغربي، لا يُحرق العلماء، بل: تُفصل وظائفهم، تُمنع أبحاثهم، تُشوه سمعتهم، تُخنق أصواتهم.. إذا انتقدوا الرأسمالية أو الحروب أو السياسات الإمبريالية! كما شاهدنا في حرب إبادة غزة وحرب العراق.. المبدأ واحد: عندما يهددّ العِلم مصالح السلطة، تُهاجم السلطة العلم!
كل الأمثلة التي ذكرناها تقول الشيء نفسه: العالِم قد يُسجن، قد يُنفى، قد يُطرد، قد يُجبر على الصمت، قد يدّعي الجنون أو يهرب أو يكتب سراً، لكن العلم ينتصر في النهاية، لا لأن العلماء أقوى من السلطة، بل لأن الزمن يقف في صف الحقيقة.
لأن الحقيقة -كما يقول أرسطو- "ابنة الزمن"، فإن العلماء الذين اضطُهدوا في كل الحضارات أصبحوا لاحقاً رموزًا كونية، بينما طوى النسيان أسماء الحكّام الذين حاربوهم!
وفي كل عصر وحضارة: من الخلافة إلى روما إلى الصين إلى أميركا اليوم، كلما حاولت دولةٌ قتل المعرفة، عادت المعرفة من شقوق المجتمع، من المنفى والهامش، أو حتى من جيل لاحق.
ربما لهذا السبب كانت المعرفة دائماً أخطر من السيوف، وأثمن من الإمبراطوريات،
وأبقى من كل سلطة.



#ياسر_نايف_قطيشات (هاشتاغ)       Yasser_Qtaishat#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزمن الفلسطيني بين المصادرة والترويض
- الخديعة الثانية!
- الهويّة المنفيّة: -اليهود العرب- في مرآة المخيال الصهيوني
- نهاية الدولة أم ما بعدها؟
- -فلسفة الاستسلام وفقه الخنوع-.. ضرورةٌ مرحلية أم استقالةٌ من ...
- -النظام الدولي القائم على القواعد-.. عندما تصنع القوّة قواعد ...
- استقرار الأنظمة واضطراب المجتمعات!
- متى نجلسُ بجانب النافذة!؟
- لبنان والمعادلة المستحيلة: دولة بلا مقاومة أم مقاومة بلا دول ...
- انهيار وهم الحماية: درس الدوحة في منظومة الأمن الخليجي والعر ...
- ما بعد الإدانة .. وما قبل الانهيار: متى يغادر العرب دائرة ال ...
- قمة -شنغهاي- والاستعراض الجيوسياسي: هل ينكسر احتكار الغرب لل ...
- لبنان و-سلاح- حزب الله: بين معادلات الداخل ووصاية الخارج
- أمريكا -السنية والشيعية-: كيف حوّلت الطائفية إلى استراتيجية ...
- الأردن في مواجهة المشروع الصهيوني وخيارات التحدّي الوجودي
- ما بعد -مؤتمر نيويورك-: هل تتجه فلسطين نحو الدولة أم نحو الع ...
- -عقدة الثمانين- .. بين سرديّة الاعتراف وسرديّة الوجود!
- الصندوق الأسود العربي: محاولة لفهم لحظة السقوط
- -غزة- في مرآة الخذلان العربي
- الأمّةُ في زمن الانكسار: كيف نبني مستقبلاً يستحق الحياة؟


المزيد.....




- حياة معلقة للاجئين أفغان على الحدود الإيرانية في انتظار العب ...
- الداخلية: اعتقال 4 مطلوبين دوليين وضبط 200 ألف حبة كبتاجون ب ...
- نطاق المجاعة ينحسر في غزة لكن شبح الجوع يهدد مستقبل القطاع
- ترامب يطارد المهاجرين بتمويل ضخم ومداهمات مثيرة للجدل
- 10 إصابات في الضفة والقدس.. والاحتلال يدشن -سياسة الإعدام ال ...
- مكتب إعلام الأسرى: الأسيرات في سجن الدامون يتعرضن لانتهاكات ...
- استمرار تدفق النازحين من منطقة هجليج إلى مدينة كوستي في السو ...
- الأونروا تكشف عن حملة تضليل غير مسبوقة تستهدف تفكيكها
- الأمم المتحدة: تفكيك الإنتاج الضخم للكبتاغون في سوريا
- الأونروا: حملة تضليل إعلامي منسقة لتفكيكنا بلغت مستويات غير ...


المزيد.....

- اتفاقية جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة وانعكاسا ... / محسن العربي
- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - ياسر قطيشات - العلم والسلطة: معركة الحقيقة والقوة