مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 00:12
المحور:
قضايا ثقافية
طوّفتُ طويلًا في ذلك العمود التأمّلي الشفيف للمفكّر حسين العادلي، وهو يُقَلِّب الغُربة على جمرٍ خفيّ، نبحث عنه في رياح البرد بعد أن أغلق كلٌّ منّا بابه، وانسحب إلى عزلته، في معركةٍ بلا صوت.
كان حصان طروادتها الاغتراب، وكانت الغُربة هي التي انتصرت.
أيّنا كان أسرع في إغلاق الباب؟
وأيّنا أقفل الشباك أوّلًا، خوفًا من برد الآخر؟
كانت كلمات العادلي تشبه ضوءًا شاحبًا يتسرّب من شقوقٍ ضيّقة؛ كلّما أوصدنا نافذةً، وجد لنفسه ممرًّا آخر. وكان يقول، لا كتعريفٍ بل كاعتراف:
«الغُربةُ أن لا تجد سكينتك مع كلّ نَفَس،
ولا صوتك في كلّ لغة،
ولا وجهك في كلّ مرآة.
الغُربةُ أن يتغرّب العقل حين يجرؤ على مخالفة القطيع،
وأن تُنفى النفس حين تستنكف السائد،
وأن تُنبَذ الروح لأنّها ترفض أن تتشابه.
هي أن تُنتزع شخصيّتك من شخصك،
وتُمنح رقمًا صالحًا للإقامة،
وأن تصبح الذاكرة لعنة،
والحنين وحشًا ليليًّا،
والصمت صديقًا وحيدًا لا يخون.
أسوأ الغُربة…
أن تُقنعك القوّة بأنّ صمتك حكمة،
وبأنّ غيابك نجاة.
وأن تكون كما يشتهون،
ثم يُطالبونك بالشكر لأنّك ما زلت حيًّا.
ولو صلحت البلاد لأهلها،
لما صار الاغتراب فضيلة،
ولا الهجرة خلاصًا».
غادرتُ عالم المعنى عند المفكّر العادلي،
ليحدّثني صباح اليوم صديقٌ يسكن في مجمّعٍ شاهق،
حيث الطبقة الوسطى تلامس أطراف الثراء.
سألته:
كيف تتشكّل أنثروبولوجيا الجيران في هذا العلوّ؟
كيف يتعارف الناس حين تُعلَّق البيوت في الهواء؟
ابتسم، صمت قليلًا، ثم ضحك،
كمن يضحك على أمرٍ لا يُحزن ولا يُفرح، وقال:
نحن سكّان العمارة رقم (11).
لا يجمعنا ودّ، ولا صُحبة،
لا سلام الصباح، ولا صينية الغداء،
بل منصّة رقمية واحدة،
ندخلها حين يحدث خللٌ ما.
سألته: أيّ خلل؟
قال:
قطةٌ شيرازية أضاعت شقّتها،
فتُعلن غربتها على الشاشة،
ويُطلب من الجميع البحث عنها… وإعادتها سريعًا.
أو وجبةٌ ضلّت طريقها ليلًا،
دخلت شقّةً ليست لها،
دُفع ثمنها بالخطأ،
وبقي صاحبها ينتظر،
جائعًا،
أمام هاتفٍ صامت.
ضحكتُ،
وتذكّرتُ عائلة جارنا أبا جميل،
حين كانت المحلّة تتنافس ثلاثة أيّام:
من يسبق إلى طرق باب الجار الجديد
بصينية غداءٍ ساخنة،
لا لنُطعمهم فقط،
بل لنقول لهم:
لستم غرباء هنا.
أمّا جيران هذا الزمن،
فقد صاروا كائناتٍ بلا وجوه.
أغلقوا الأبواب والنوافذ،
وفتحوا نافذةً واحدة…
رقمية.
نافذةٌ تُدير الغُربة،
ولا تكسرها.
تحفظ النظام،
وتُهمل الدفء.
تُحصي الأخطاء،
وتنسى القلوب.
هكذا صارت الجيرة علاقةً بلا ذاكرة،
وحضورًا بلا لقاء،
وصوتًا بلا صدى.
هكذا…
لم نعد غرباء لأننا رحلنا،
بل لأننا بقينا،
وقطعنا آخر خيطٍ بين الباب…
والباب.
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟