أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - مظهر محمد صالح - بين الدفع النقدي والدفع الرقمي: امتحان الكرامة خارج الوطن














المزيد.....

بين الدفع النقدي والدفع الرقمي: امتحان الكرامة خارج الوطن


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 16:47
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


بين الدفع النقدي والدفع الرقمي، ثمّة لحظات لا تختبر أدوات المال بقدر ما تختبر كرامة الإنسان، ولا تكون أكثر قسوةً منها حين تقع وأنت خارج وطنك، عاريًا إلا من بداهتك وتجربتك.
كان عليّ أن أغادر فندقي في لندن باكرًا، وأن أُسوي حساب الإقامة لأربع ليالٍ قضيتها هناك لحضور مؤتمر علمي في المالية العامة، قبل عقدٍ ونيف. قدّمت بطاقة الدفع الإلكترونية التي يُفترض أن تغطي تكاليف الإقامة وتوفّر حدًا ائتمانيًا كافيًا، غير أن موظفة الفندق رفعت رأسها ببرودٍ مهني وقالت:
البطاقة غير مفعّلة.
سألتها عن قيمة الحساب، فأجابت: نحو ثمانمئة باوند إسترليني.
فتّشت جيبي، فلم أجد سوى مبلغٍ لا يكفي إلا لإفطارٍ سريع وأجرة سيارة أجرة إلى المطار. عندها لجأت إلى ما تبقّى من يقيني النقدي: الدولار الأميركي. أخرجته بثقةٍ عفوية، لكن الرد جاء صادمًا وصريحًا، وبصلافة أنكلوسكسونية جافة:
ما هذه العملة؟ لا أعترف بها.
تجمّدت للحظة. تساءلت في داخلي: أين ذهبت اتفاقية بريتون وودز التي تأسست عام 1945، ومنحت الدولار هيمنته على نظام المدفوعات العالمي؟ كيف يعشق جمهور الشرق الدولار، بينما يُرفض هنا، في الفندق الذي أقيم فيه، رفضًا قاطعًا؟
يا لها من مفارقة!
قلت لها، محاولًا الحفاظ على رباطة الجأش: إذن ماذا أفعل؟
أجابت ببرودٍ أشد: هذه مشكلتك. عليك أن تحلّها بنفسك.
كان الليل قد دخل ظلمته، والساعة تقترب من العاشرة مساءً. وقفت عند بوابة الفندق، والظلام يضغط على صدري، لا أدري إلى أين أمضي.
في تلك اللحظة، تقدّم مني سائق سيارة أجرة، رجل بريطاني وقور في عقده السادس، وقال بهدوء إنساني نادر:
ما الخطب أيها الرجل؟ تبدو في حيرةٍ شديدة.
شرحت له ما جرى. أجابني بلا تردد:
لا تقلق، سنذهب قليلًا. هناك مكتب صرافة قريب يمكنك أن تحوّل فيه دولاراتك إلى باوندات.
توقفت السيارة أمام بقالة صغيرة يديرها رجل هندي. دخلت مرتبكًا، لكن رائحة التوابل الشرقية أعادت إليّ شيئًا من الطمأنينة، وكأن الذاكرة سبقت الجسد. سألته عن مكتب الصرافة، فأشار إلى زاوية قريبة من الشارع.
هرعت نحوها، وبرد صيف لندن يخفّ وطأته بنسيمٍ منعش، حتى بلغت المكتب… لأجده مغلقًا، وصاحبه يعلّق لافتة صغيرة: انتهى العمل.
يا رب، ما هذا الإحراج؟
أملك عملة يتقاتل العالم من أجلها، لكن الفندق الذي أقيم فيه لا يعترف بها!
خذلتني قدماي من شدّة الخيبة، وعدت أدراجي إلى البقالة. استقبلني الرجل الهندي بابتسامةٍ واسعة، وكأن قارة آسيا بأسرها تمدّ يدها لتضمّ جزيرة بريطانيا.
قال لي بلطف: ما بك أيها الرجل؟
شرحت له ما جرى. ابتسم وقال:
كم تريد أن تستبدل؟
قلت، من خوفي: ألف باوند.
قال بهدوء: أعطني دولاراتك، وهذا المبلغ كاملًا… ولن آخذ منك أي عمولة.
ناولني المال، وقدّم لي كوب شاي معطّر، أعادني إلى توازني. شكرته بامتنانٍ عميق.
عدت إلى سائق الأجرة الذي كان ينتظرني. أخبرته أن المشكلة حُلّت. سألني عن أجره، قال: أربعة عشر باوندًا. أعطيته عشرين، فاعتذر، ولم يقبل الفرق إلا إكرامًا للحظة الفرح ونقاء المقصد.
عدنا إلى الفندق قرابة منتصف الليل. كان الـ«كونسيرج» سعيدًا بزوال المأزق. وقفت مجددًا أمام موظفة الحسابات، وقلت بهدوء:
انتهى الإشكال، أرجو تزويدي بقائمة الحساب.
دفعت المبلغ بأريحية، لكنها بقيت أسيرة دائرة إنسانية ضيّقة لا تتّسع لغير الإجراءات.
في تلك اللحظة أدركت أن العالم، رغم وفرة المال وتعقّد الأنظمة، لا يزال يضع الإنسان في مواقف منزوعة الرحمة.
وفي داخلي، لعنتُ بريتون وودز لا لأنها أخطأت، بل لأنها جعلتنا ،نحن الأفراد،ساحة اختبار لصراعات الأنظمة النقدية، ووقودًا لحروبٍ ناعمة لا تنتهي.//



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علم اقتصاد المعنى…بين القلم والممحاة
- زلزال في اليابان… أم رسالة انتظار خُطّت بالدموع
- أنثروبولوجيا الديمقراطية في العراق
- إفطار في نيويورك وصداه في بغداد
- السعر وصراخ الحرية : زوربا من جديد
- ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين
- ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير
- عاصفة عيد ميلادي: الخريف الضائع
- الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي
- خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
- منظر دجلة بين طفولتي وكهولتي: الخوف والخجل
- علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...
- اقتصاد الدموع : حين يصبح الحنين عملةً رمزية.
- خليجان يحرسهما قمر واحد – من أزمنة لا تموت رحلة تأملية بين ف ...
- السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد
- جدلية الظل والمصالحة مع الذات : القرين الخفي مرآة ديستوفسكي ...


المزيد.....




- رغم ادعاءات ترامب بوقف إطلاق النار.. تايلاند تتعهد بمواصلة ا ...
- يمتد عبر 11 دولة وأكثر من 6 آلاف كيلومتر.. إليك مشاهد مذهلة ...
- -على الغرب أن يتعلم من طريقة موسكو في الحرب الهجينة- - مقال ...
- ميسي يزور الهند: الجماهير تغضب على -معبوديها-
- الحرب في أوكرانيا: هل يسفر لقاء موفد ترامب بزيلينسكي في برلي ...
- خلفيات الصراع الحدودي بين تايلاند وكمبوديا
- واشنطن تتهم رواندا بـ-جر المنطقة إلى حرب- على خلفية أحداث ال ...
- بمشاركة 500 عالم وخطيب.. انطلاق مؤتمر -أمناء الأقصى- الدولي ...
- إصابة صيادين فلبينيين في هجوم لخفر السواحل الصيني
- هجوم على نتنياهو بعد فيديو يُظهر أسرى إسرائيليين قبل مقتلهم ...


المزيد.....

- كتاب : العولمة وآثارها على الوضع الدولي والعربي / غازي الصوراني
- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - مظهر محمد صالح - بين الدفع النقدي والدفع الرقمي: امتحان الكرامة خارج الوطن