أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي














المزيد.....

علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 19:51
المحور: قضايا ثقافية
    


كنتُ ابنَ العشرِ حين وقعتْ يدي مصادفةً على كتابٍ في متجر كتبٍ صغير في سوق مدينتي، معروضٍ خلف زجاجٍ باهتٍ يعلوه الغبار. كان عنوانه صارخًا: «علم النفس التربوي».
بلغ ثمَنه مئةً وخمسين فلسًا ، نصف دولار تقريبًا ،
في زمنٍ كان السعر فيه مقياسًا للقيمة ، والقيمةُ مرآةً للفكرة.

لم أكن أدري ما الذي شدّني إلى عنوانه: أهو الفضول أم محاولةٌ غامضةٌ لفهم ما لا يُفهم؟ كنتُ أراقب المعلّم وهو يشرح، والأطفال وهم يخطئون أو يصيبون، وأتساءل في صمتٍ طفولتي :
لماذا نفرح حين نُكافأ؟ ولماذا نخاف حين نُوبَّخ؟

كان علم النفس التربوي يومها نافذةً على سرّ الإنسان الصغير الذي كنتُه، وسرّ الكبار الذين أرادوا أن يصنعوا منّا صورةً أخرى عنهم. شعرتُ أن في التربية شيئًا من الفلسفة، وأن وراء السلوك المدرسي نظامًا خفيًّا من المشاعر والدوافع والعدالة.

كنتُ أحمل في جيبي المبلغ الصغير، وأحوم حول المكتبة متردّدًا، أخشى أن يزجرني صاحبها الذي عُرف (بصرامة أيديولوجيته) أكثر من حبّه لبيع الكتب.
ترددتُ في الدخول، وكنت أفكر: ماذا سأقول لأبي حين أعود إلى البيت بكتابٍ كهذا؟ هل سيتفهّم فضولي أم يراها قفزةً غير محسوبة في مدار العمر؟

كنت أتصور أن الكتاب سيحدثني عن علماء علم النفس ، امثال جون ديوي، الفيلسوف والمربّي الأمريكي الذي جعل من المدرسة مجتمعًا مصغّرًا للحياة الديمقراطية، أو عن جان بياجيه، صاحب الثورة في فهم مراحل النموّ المعرفي للطفل، أو ربما عن ليف فيغوتسكي، الذي رأى في التعلّم فعلاً اجتماعيًا قبل أن يكون فرديًا، أو حتى عن كارل روجرز الذي جعل الحرية ركيزةً للتعلّم، وسكينر الذي علّمنا كيف يتشكّل السلوك بالتعزيز والعقاب.

لم أدرك يومها أن مجرّد وقوفي أمام ذلك الزجاج كان عبورًا رمزيًا نحو عالمٍ لن أخرج منه أبدًا: عالم السؤال عن الإنسان، وكيف يصبح ما هو عليه.

غير أن ترددي لم يكن خوفًا من الكتاب بقدر ما كان خشيةً من موقف أبي ، الرجل (البسيط في أيديولوجيته) العميق في إنسانيته ،الذي لم يكن يرى في الحياة سوى أن نتدرّج في مدارسنا بهدوء، دون قفزاتٍ تفوق أعمارنا.
كان الإطار التربوي في بيتنا مستقيمًا كمسار قطارٍ شرقي، لا يسمح بانعطافاتٍ فكريةٍ مبكرة، ولا بقراءاتٍ تتجاوز خريطة وزارة المعارف الملكية وما بعدها.

وهكذا، بين صرامة صاحب المكتبة وبساطة أبي(اللا أيديولوجية)، انتهت مغامرتي بشراء الكتاب بالفشل… لكنّها تركت في روحي شرارةً لم تنطفئ.

خرجتُ من متجر الكتب بخطواتٍ متباطئة، وكنت أشعر أنني تركتُ خلفي شيئًا مني هناك. منذ تلك اللحظة، صار عنوان الكتاب يلاحقني في كل مكان، كما لو أنّه بوّابةٌ مؤجَّلة نحو فهم الإنسان .. نحو فهمي أنا.

بعد سنواتٍ طويلة، حين درستُ الاقتصاد والفكر، أدركتُ أن ذلك النداء الطفولي لم يكن عبثًا؛ لقد كانت رغبتي المبكرة في قراءة علم النفس التربوي محاولةً بريئةً لقراءة النفس قبل العالم، لفهم دوافع الخير في الإنسان قبل سلوك السوق في المجتمع.

كان أبي، دون أن يدري، يمارس علم النفس التربوي حين يضع يده على كتفي ويقول: “اقرأ لتفهم الناس، لا لتجادلهم.” تلك الجملة كانت أول درسٍ في التربية النفسية، لم يأتِ من كتابٍ، بل من سلوكٍ صامتٍ وحنوٍّ أبويٍّ صادق.

مرت الأعوام ، وجاء يوم امتحان البكالوريا في اللغة العربية، وكان عنوان الإنشاء: «من هي أعظم شخصية في حياتك؟»
لم أتردّد لحظة في الكتابة عن أبي، عن بساطته وعدله الفطري وحنانه الذي يلخّص علم النفس كله في كلمة واحدة: الرحمة.

انتهت الامتحانات، واستُدعي أبي إلى المدرسة ليُبلَّغ أن نجله قد حاز المرتبة الثانية في مسابقة أفضل إنشاء بين طلبة الابتدائية في عموم اللواء.
سأل أبي عن التلميذ الأول، فأجابوه:
«هو تلميذ كتب أن أعظم شخصية في حياته… ما زال يبحث عنها!»

لا أدري، وربما لن أدري أبدًا، إن كان ذلك الطالب الذي فاز بالمركز الأول قد اشترى في طفولته ذاك الكتاب الذي لم أجرؤ على شرائه: انه علم النفس التربوي.
وحين أستعيد اليوم تلك اللحظة أمام زجاج المكتبة ، أرى في انعكاسها مرآةً لأمّةٍ بأكملها وهي تتعلّم ببطءٍ كيف تفهم ذاتها. فـ علم النفس التربوي لم يكن مجرد علمٍ للمدرسة، بل هو علمُ وطنٍ يبحث عن مسارات في الرقي التربوي ، قبل ان يغادر أوجاع ذاكرتي.
انتهى



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...
- اقتصاد الدموع : حين يصبح الحنين عملةً رمزية.
- خليجان يحرسهما قمر واحد – من أزمنة لا تموت رحلة تأملية بين ف ...
- السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد
- جدلية الظل والمصالحة مع الذات : القرين الخفي مرآة ديستوفسكي ...
- بكاء الأمهات على بوابة سجن متخلف..
- البنادق مقابل اللوبستر البحري: مقاربة في الاقتصاد السياسي لم ...
- وزارة الخزانة الأميركية .. قوة إمبراطورية وأسطورة ورقة نقدية ...
- تأميم المصنع الوطني: التاريخ الذي أحزن والدي
- ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد
- حرب السويس تشتعل… وخالتي تبحث عن ابنها
- حكاية خبز .. بين أمستردام ومدينتي
- جون تايلور في بغداد: حين التقت السياسة النقدية بجنرالات اللي ...
- نزار قباني على رصيف الذكرى… ليتني لم أره فرحًا
- مؤتمر باندونغ: يوم هزّ عرش طفولتي
- الحانة الويلزية: ملتقى التاريخ الجامعي والتراث الفيكتوري
- ساعة اليد المتواضعة: الزمن مرآت للطبقات


المزيد.....




- كيف بدت أصداء انطلاقة الموسم الـ 6 من -The Voice-؟
- بمكافآت ممتعة لحيواناتها.. حدائق الحيوان تحتفل بأجواء الهالو ...
- وزير الخارجية الألماني في دمشق... برلين تمد يدها لسوريا بعد ...
- عائلة مروان البرغوثي تقول لبي بي سي إن حديث ترامب يثير آمالا ...
- إسرائيل تتسلم جثماني رهينتين من حماس وسيخضعان لفحص تحديد اله ...
- مصر: وفاة مصورين في حادث سقوط رافعة تصوير إثر عطل مفاجئ
- الادعاء البولندي يطالب بالقبض على وزير العدل الأسبق بتهم فسا ...
- لجنة حماية الصحفيين: اختفاء 11 صحفيا في الفاشر عقب سيطرة الد ...
- مفاوضات المغرب وأميركا لاقتناء المقاتلة إف-35 -بمراحل متقدمة ...
- القضاء الأميركي يوقف نشر الحرس الوطني في شيكاغو وبورتلاند


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي