مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 00:21
المحور:
قضايا ثقافية
(اغتراب في اقتصاد المعنى)
لم أجد يومها تفسيرًا لتلك الدهشة التي باغتتني وأنا أطأ أرض مطارٍ عملاق في أميركا الشمالية قبل أكثر من أربعة عقود. كانت أصوات الأطفال المودّعين لبلاد الرافدين تملأ الأجواء ببكاءٍ متقطّعٍ يشبه النداء الأخير، وقلوبٌ صغيرة تتشبّث بدفء الجدّات في بلادي قبل أن يسحبها الواقع البارد إلى مصيرٍ بعيد.
هناك ، و وسط ضجيج المطار ووجوه العابرين، شعرتُ بأن العالم قد تفكّك إلى رموزٍ ومعانٍ تنتظر من يلتقطها ليُعيد ترتيبها في ذاكرته.
في تلك اللحظة، لم أكن أعرف بعدُ اسم زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ، الفيلسوف البولندي البريطاني الذي سيقلب لاحقًا تصوّراتنا عن العالم في كتابه المسمى الحداثة السائلة "Liquid Modernity" لكنني أحسست بما سيقوله لاحقًا: أن الاقتصاد لم يعد صلبًا كما كان في زمن الصناعة، بل صار سائلًا، تتدفق فيه القيم وتتحول المادة إلى رمز، والعمل إلى تجربة، ورأس المال إلى معرفة وثقافة. لم تعد الأسواق أسواق سلعٍ وخدمات، بل فضاءاتٍ لتداول المعاني والإدراك . اذ يرى باومان أن العصر الحديث قد فقد صلابته، وأن الإنسان يعيش اليوم في زمن المعاني العائمة ، حيث يُقاس النجاح لا بما تملكه من مادة، بل بما تخلقه من رموز وتجارب وشبكات — وهي نفس الفكرة الجوهرية التي تقف وراء ما نسميه اقتصاد المعنى..!
كانت أيام اغترابي الأولى قاسيةً كصقيعٍ داخليٍّ طويل. فالأطفال يذرفون دموعهم على وداع الجدّات، ونحن نكتشف أن الجذور التي نحملها ليست سوى صدى بعيد في فضاء جديد.
ومع الأيام، حين بدأتُ أفكّ رموز الحياة الجديدة، أدركتُ جوهر فكر بيير بورديو. لقد حوّل بورديو المعنى نفسه إلى رأس مال، ورأى أن السوق الرمزي والثقافي لا يقل شأنًا عن السوق المادي. وهكذا وُلد ما نعرفه اليوم بـ “اقتصاد المعنى” بشكل اعمق — حيث القيمة لا تُقاس بالمادة وحدها، بل بالتجربة، والانتماء، والرمز.
في اليوم التالي، قصدت مكتبة الجامعة باحثًا عن كتاب (بيير بورديو Pierre Bourdieu ملامح نظرية للممارسة Outline of a Theory of Practice) 1977
سألني أمين المكتبة عن أصلي، فقلت له بابتسامةٍ متعبة: “من أرض ما بين النهرين، حيث ابتدأ الإنسان أول رحلة في صناعة المعنى.” ابتسم الرجل وقال: “الكتاب سيصل بعد أيام.”
مرّت الأيام ببطءٍ ثقيل، وحين عدت لاستلام الكتاب، سألني عن حالي. أجبتُ بطريقتنا الشرقية المتفائلة: “كل شيء على ما يرام جداً.” ابتسم هو الآخر وقال: “Not too bad.” عندها أدركت أن اللغة ليست وسيلة تواصلٍ فقط، بل نظامٌ ثقافيٌّ كامل.
فعبارة “ليس سيئًا جدًا” لا تعني محدودية الرضا، بل تواضعًا في التعبير، وذكاءً في الاقتصاد اللغوي للمعنى.
ومع أولى صفحات الكتاب، انفتحت أمامي عوالم بورديو الثرية: كيف يُنتج الأفراد المعنى الاجتماعي للذوق من خلال أنماط الاستهلاك، وكيف تتحول الثقافة إلى سوق رمزي تحكمه قواعد الاعتراف أكثر مما تحكمه الأسعار. ففي هذا العالم، ليست الموسيقى أو الأزياء أو الفن مجرد سلع، بل رموزٌ تحدد مواقعنا في الحقل الثقافي.
ثم وجدت نفسي أمام فيلسوف اخر وهو ، جان بودريار (Jean Baudrillard) عالم الاجتماع الفرنسي ،يومها عد بودريار أحد أبرز مفكري ما بعد الحداثة، وارتبط اسمه بمفاهيم مثل المحاكاة (Simulation) وهي
النسخة المفرطة عن الأصل (Hyperreality) و تشييء المعنى وتحوله إلى سلعة. اذ يرى بودريار أن العالم المعاصر لم يعد يعيش “الواقع” كما هو، بل يعيش صور الواقع أي أننا أصبحنا نستهلك الرموز والمعاني بدل الأشياء الحقيقية.
فالإعلانات، والإعلام، والعلامات التجارية، تصنع عالماً من الصور الزائفة التي تحل محل الحقيقة.
كما يرى أن المعاني تُستهلك كما تُستهلك السلع، وأن الواقع نفسه صار يُدار بمنطق السوق الرمزي، حتى بتنا نعيش تضخمًا في المعاني يشبه التضخم النقدي.
لم تعد الشركات تبيع القميص، بل رمزية الاسم الذي يحمله. وتذكرت الفيلم السينمائي الشهير The Matrix , الذي يناقش فلسفة بودريار ،في كيف تحوّل الاستهلاك إلى وسيلة لتشكيل الهوية الاجتماعية لا لتلبية الحاجات فقط..!
عند هذه النقطة، أدركت ايضا أن اقتصاد المعنى ليس منظومة اقتصادية فحسب، بل نظام لغوي وفلسفي أيضًا. فمن منظور فلسفة اللغة امثال (سوسير، فوكو، دريدا، ليوتار)، المعنى ليس ثابتًا، بل يتولّد داخل شبكة من العلاقات ويتحرّك وفق منطق الندرة والتداول. كما أن الكلمات تتبادل قيمها كما تتبادل العملات قيمها في السوق النقدي.
أما النصوص والأفكار، فهي سلع فكرية تتحرك عبر الزمن والثقافة، قابلة لإعادة التأويل والاستهلاك. وعند دريدا، المعنى لا يُستهلك تمامًا؛ إذ تبقى منه “بقية” او أثر رمزي trace يشبه فائض القيمة في الاقتصاد الماركسي.
لقد انتقل العالم اليوم من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد المعنى.
الشركات تبيع القصص لا المنتجات،
والدول تتنافس بالقوة الناعمة لا بالقوة الخشنة،
والمنصات الرقمية تدير أسواقًا للانتباه والمعنى،
حيث يصبح “الترند” هو السعر اللحظي للرمز ،ليظهر لنا بعد سنوات عالم راسمالية المراقبة surveillance capitalism الذي يتغول إلى نمط جديد من الرأسمالية يقوم على جمع البيانات الشخصية وتحليلها واستثمارها لتحقيق الأرباح والسيطرة السلوكية, حيث صاغت المصطلح الباحثة الأمريكية شوشانا زوبوف (Shoshana Zuboff) في كتابها الشهير:
(عصر رأسمالية المراقبة، The Age of Surveillance Capitalism 2019).
اذ ترى زوبوف أن هذا الشكل الجديد من الرأسمالية نشأ مع صعود شركات التكنولوجيا الكبرى مثل:
Google، Facebook، Amazon، Apple، وMicrosoft،
التي حولت البيانات الشخصية للمستخدمين إلى سلعة تُستخرج وتُحلّل وتُباع للمعلنين أو تُستخدم للتأثير في السلوك البشري.
انها رأسمالية المراقبة ، لا تبيع منتجات مادية، بل تبيع تنبؤات عن سلوك الإنسان.
فالخطوات الأساسية هي:
استخراج البيانات: من كل نشاط رقمي ، كالتصفح، والمواقع، و الصور، و الأصوات، و التفاعلات.
ثم تحليلها بالخوارزميات بغية فهم التوجهات النفسية والعاطفية والاجتماعية.
و التنبؤ بالسلوك عبر بناء نماذج دقيقة لما سيفعله المستخدم مستقبلاً.
وأخيراً ، توجيه السلوك والتحكم فيه من خلال الإعلانات والأخبار المخصصة، أو حتى تحريك الرأي العام.
قلت في سري ان راسمالية المراقبة او الاستطلاع ماهي الا الاستعمار الجديد للعقل ، او بالاحرى الإمبريالية الوظيفية -function-al imperialism حيث تتحول التجربة الإنسانية إلى مورد اقتصادي قابل للاستخراج والتنبؤ،بل هي المورد الريعي الجديد للمركز الرأسمالي الغربي ، الذي يقابل ريع النفط في مشرقنا.
فالبيانات من خلال الهواتف الذكية وغيرها هي النفط الجديد…!
والإنسان في راسمالية المراقبة نفسه أصبح المنجم الذي تُستخرج منه هذه البيانات.
والقيمة الاقتصادية لم تعد في الإنتاج المادي بل في التحكم بالمعلومة والسلوك.
و الربح يتحقق من خلال الإعلانات الموجهة بدقة فائقة.
ومن ثم بيع البيانات والتحليلات لشركات أخرى.
وبالتالى التأثير على الاستهلاك، والسياسة، وحتى القرارات الانتخابية .
من زبدة هذه التحولات نعيش في عصرٍ جديد: عصر رأس المال الرمزي، حيث المعنى نفسه هو العملة، والوعي هو السوق.
ومنذ ذلك الوقت ذابت في نفسي تدريجيًا الفوارق اللغوية والثقافية، و أدركت أن الاقتصاد لم يعد بالضرورة نقودًا ومواد، بل رموزًا وذكريات.
لقد عاد الأطفال إلى حياتهم، وغابت الجدّات ، واغترب الشوق ، وبقيت نصف تلك الوجوه في ذاكرة الحنين . لكن اقتصاد المعنى ظلّ حيًّا، يملأ الفجوات بين الماضي والحاضر، ويربط الذاكرة بالهوية، والحنين بالاستمرار.
إنه الاقتصاد الوحيد الذي لا يُقاس بالربح والخسارة، بل بما تبقّى في القلب من أثر…. كفائض قيمة معنوي مستلب.
انه اقتصاد الحداثة السائلة ….انه اقتصاد آلدموع…انه اقتصاد المعنى..!
انتهى.//
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟