مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 00:17
المحور:
قضايا ثقافية
لا شيء أصدق في الذاكرة من رائحة الخبز حين تمتزج بالدخان الأول لحطبٍ يُجمع من حافات أنهار العراق – الطرفة.
تلك الرائحة ليست مجرد أثرٍ من بيتٍ قديم، بل هي جوهر الطفولة المشبعة بالبساطة، وذاكرة الوطن حين كان الخبز عنوان الكرامة.
فالخبز في حياة العراقيين ليس غذاءً فحسب، بل رمزٌ للحرية والعيش المشترك، تتقاطع فيه يدُ الأم، وعرقُ الفلّاح، ونفَسُ التنّور في دارٍ دافئة تشبه الوطن نفسه.
كانت رحلة العمر تشقّ طريقها في أوائل خمسينيات القرن الماضي، في دارٍ كانت أمي تدير فيها كل اقتصاد المنزل.
وصناعة الخبز كانت طقسًا مقدّسًا له مكانه الخاص: تَنّورٌ طينيّ يتوسّط باحة بيتنا الكبير، يحيط به دفء الألفة، وتغمره رائحة حطب العراق الطيّب "الطرفة "حين يمتزج دخانه بعطر الرغيف الخارج من جوف النار.
كانت يوميات الخبز تجلب السعادة والبركة، وتملأ البيت بخير الأقراص التي تصنعها الأيدي الطيبة.
تهيّئ أمي العجين بعناية الأم العراقية، ويختار والدي القمح الأجود، ثم تترك العجينة لتختمر على مهل، وتسلمها إلى سيدةٍ من محلتنا كُلّفت بإشعال التنور والخبز لقاء أجرٍ شهري.
كانت تلك السيدة، وقد أنهكتها الحياة، تسحب الأرغفة واحدًا تلو الآخر، فيما كنا نحن الأطفال نترقّب اللحظة كمن ينتظر عطية السماء.
كلما رمت مجموعةً من الأرغفة على أكوام حطب الطرفة لتبرد، تتسلّل أيادينا الصغيرة لتختطف الرغيف الساخن، نتقاسمه ونحن جياع بعد عودتنا من المدرسة.
لكن صيحات عمّتي حبسة كانت تلاحقنا كجرسٍ منبّه للحياة:
«اصبروا أيها الصغار حتى أنتهي من آخر كتلة عجين، تلك التي تُسمّى الشنكة، كي نستطيع حساب الجهد!»
كان الربيع يذكّرني دومًا بالعجين الممزوج باللحم، وهو من أطيب أنواع الخبز وأعلاها قيمة، ولذلك كانت صيحات عمّتي تشتدّ كلما اقتربنا من التنور نتحيّن رغيفًا قبل أن يُجمع.
في تلك اللحظات الصغيرة، حيث تختلط رائحة الطحين بالحطب، كنا نرى الوطن بعين البراءة ، وطنًا يصنعه الناس من تعبهم، من حصادهم، من النار التي تطهو نتاج القمح وتمنحنا الحياة.
من الحقول التي كانت النساء يحصدن فيها سنابل بلادي بوسائل بدائية، إلى مطاحن الحارة التي تطحن القمح، إلى أمي التي تعجن الطحين بيديها، وعمّتي حبسة التي تخبزه .. كان يُصنع خبز أوطاني…
إنها ذاكرة وطنٍ تُخبَز في تنانير الأمهات، وتُعجَن بعرق الفلاحين، وتُشعلها نار الانتماء.
إنه خبز الحرية… خبز العراق.
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟