أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين














المزيد.....

ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 22:18
المحور: قضايا ثقافية
    


(البيئة صانعة للذائقة وثقافة الاستهلاك)
قد يبدو سوق المشويات التقليدية في بكين، للوهلة الأولى، مجرد زقاق شعبي مكتظ بروائح الفحم وازدحام السياح، غير أن ما يقدّمه هذا الفضاء من صورٍ متلاحقة يكشف عن طبقة أعمق من المعنى ، طبقة تتجاوز الطعام ذاته لتلامس مفاهيم الثقافة والبيئة والهوية وطرق التكيّف البشري مع موارد الطبيعة.

لم تكن تجربتي في هذا السوق مجرد زيارة سياحية، بل كانت نافذة على فلسفة كاملة في الاستهلاك تشكلت عبر قرون من محاولات الإنسان الصيني في الحفاظ على توازنه الغذائي وسط بيئة كثيفة السكان وشحيحة الموارد مقارنة بحجم الحاجة. وما لفت نظري قبل كل شيء تلك اللافتات المنتشرة على طول الزقاق: “ممنوع التصوير” ، عبارة تثير التساؤل وتشي بأن ما يُقدَّم للعيون هنا ليس مجرد طعام، بل جزء من تراث يوميّ يراد حمايته من أن يُختزل في لقطة عابرة أو يُحوّل إلى غرائبية مستهلكة.
ومع التوغل في أعماق السوق، تتدرج المعروضات من الأسياخ المألوفة (الدجاج ولحوم الخنازير والعجول ) إلى عالم آخر تُقدَّم فيه (الثعابين والحشرات وديدان الأرض ) كوجبات طبيعية، بعضها للذوّاقين وبعضها لحاجة تاريخية كانت تُلزم السكان باستخلاص البروتين من كل ما تمنحه الطبيعة. هنا تتحول موائد الطعام إلى مرآة لبيئة تصوغ عادات الناس أكثر مما يصوغونها هم.
هذا المشهد أعاد إلى ذاكرتي حديثًا قديماً مع زميل صيني خلال سنوات الدراسة في ويلز. كان يقول بهدوء العارف:
الصين لا تتحمل الجوع… لذا نأكل ما تخلقه الطبيعة. كل ما هو من خلق الله يصلح أن يكون غذاءً،
كان يهمس لي يومها بأن حساء أظافر الدجاج المقددة تعد من أطيب الأطعمة في بلاده. ومع مرور الزمن أدركت أن كلامه لم يكن مجرد وصف لطبق شعبي، بل كان مفتاحًا لفهم ثقافة كاملة.
فالبيئة في جوهرها، لم تكن يومًا مجرد خلفية جغرافية، إنها مكون أساسي في هندسة الذائقة وشكل الاستهلاك. وهي التي جعلت سكان بكين يطوّرون مطابخ تستوعب كل ما يقدّمه المحيط، تمامًا كما جعلت البدو في صحارى العرب يطاردون الجراد في مواسم الربيع ويقددونه غذاءً لأيام العوز. في الحالتين، ليست شهية الطعام هي التي تحدد خيارات الإنسان، بل حاجته إلى البقاء وتقاليده المتوارثة في إدارة الندرة أو الوفرة.
إن ما يبدو غريبًا لنا ،كالحشرات المشوية أو ديدان الأرض ، ليس غريبًا في بيئة نشأت على مبدأ “استثمار كل ما تمنحه الطبيعة”تمامًا كما ليست أطباقنا الشعبية مفهومة لشعوب أخرى لا تعرف سياقات نشأتها. فالغذاء ليس مجرد قيمة غذائية، بل قيمة ثقافية تحمل تاريخًا من المحن والاحتياجات والتحولات.
ما تعلمته في سوق بكين ليس عن الطعام فقط، بل عن الإنسان.
فالثقافة ليست ترفًا، بل هي آلية بقاء.
والبيئة ليست محيطًا صامتًا، بل مهندسًا خفيًا يعيد تشكيل الذائقة وطقوس الأكل وأنماط الاستهلاك. ومن يقرأ عادات الشعوب الغذائية قراءة معرفية يدرك أن الهوية ليست في ما نأكل فحسب، بل في الأسباب التي جعلتنا نأكله.
لذلك، فلا عجب في اعماق السوق …!
فالعجب يولد فقط حين نتجاهل أن لكل أرضٍ تاريخها، ولكل شعبٍ طريقته الخاصة في التعايش مع الطبيعة، وللتنوع البشري ذاته حكاية تستحق الإصغاء.
( انتهى)



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير
- عاصفة عيد ميلادي: الخريف الضائع
- الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي
- خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
- منظر دجلة بين طفولتي وكهولتي: الخوف والخجل
- علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...
- اقتصاد الدموع : حين يصبح الحنين عملةً رمزية.
- خليجان يحرسهما قمر واحد – من أزمنة لا تموت رحلة تأملية بين ف ...
- السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد
- جدلية الظل والمصالحة مع الذات : القرين الخفي مرآة ديستوفسكي ...
- بكاء الأمهات على بوابة سجن متخلف..
- البنادق مقابل اللوبستر البحري: مقاربة في الاقتصاد السياسي لم ...
- وزارة الخزانة الأميركية .. قوة إمبراطورية وأسطورة ورقة نقدية ...
- تأميم المصنع الوطني: التاريخ الذي أحزن والدي
- ربطة العنق: متلازمة التعليم والأناقة في بغداد
- حرب السويس تشتعل… وخالتي تبحث عن ابنها


المزيد.....




- بطلب من محمد بن سلمان.. ترامب يُعلن أنه سيعمل على إنهاء الحر ...
- غروسي يجدد دعوته لإيران للسماح بتفتيش المنشآت النووية المتضر ...
- مواجهات شمال الخليل وألبانيزي تنتقد دعم جهات أوروبية لإسرائي ...
- سوتشي.. الريفيرا الروسية على البحر الأسود
- أيام شتوية في لوسيرن السويسرية.. حين يلتقي الجبل بالماء
- شجار بالأيدي بين جنود إسرائيليين يثير سخرية المنصات العربية ...
- دموع هيام عباس تروي نكبة عائلتها خلال تكريمها في مهرجان القا ...
- رسائل كردية لسوريا والعراق في منتدى الشرق الأوسط للأمن والسل ...
- أنباء عن مقترحات أميركية جديدة لإنهاء الحرب بأوكرانيا
- سوريا تندد بزيارة نتنياهو للمنطقة العازلة من أراضيها


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين