أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مظهر محمد صالح - زلزال في اليابان… أم رسالة انتظار خُطّت بالدموع














المزيد.....

زلزال في اليابان… أم رسالة انتظار خُطّت بالدموع


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 18:02
المحور: سيرة ذاتية
    


لم تكن طوكيو مدينة تزورك ،بل مدينة تُحضّر لك نفسها كما لو كانت جزءًا من بروتوكولها الإمبراطوري العميق. في ذلك الصباح من أكتوبر 2012، كانت الطرقات اللامعة المبللة بالضوء تقود وفود صندوق النقد والبنك الدوليين نحو قصر المؤتمرات، كأنها شرايين مدينةٍ تدرك أن العالم يعود إليها بعد نصف قرن ليشهد كيف تحوّلت من جراح الحرب إلى قِبلةٍ للاقتصاد والتكنولوجيا.
دخلتُ القاعة الافتتاحية، وكان الهواء نفسه يشبه مزاج اليابانيين: رائقًا، منضبطًا، بلا ضوضاء. وقف رئيس الوزراء، رجل في منتصف الستين، بملامح هادئة تفيض حكمة وخجلًا مهذبًا. وحين بدأ الحديث، دخل التاريخ من باب جانبي وجلس بين المقاعد يسمع.
قال الرجل بابتسامة مقتصدة:
“آخر مؤتمر مماثل هنا… كنتُ حينها تلميذًا في الصف السادس الابتدائي.”
ثم توقّف قليلًا، كمن يُرخي سلكًا زمنياً بين الماضي والحاضر، وتابع:
“واليوم… أنا رئيس وزراء اليابان.”
صفّق الحاضرون. أمّا أنا، فقلت في سري:
بين طفولته وذروة منصبه، تقدّمت اليابان من أطلال إلى كوكب للأمم المتقدمة. أيُّ مسار صنع هذا التحوّل؟ وأيُّ تربية تصنع رجلاً يصل بين زمنين هكذا؟
خرجت من القاعة مشحونًا بمزيجٍ من الدهشة والتأمل، واتجهتُ نحو القصر الإمبراطوري. هناك، خلف تلك الأسوار المعمّرة التي تشبه صفحات حجرية من كتاب التاريخ، شعرت بأن اليابان ليست مجرد اقتصاد قوي، بل سردية هوية وانضباط ومسار طويل من الترميم النفسي بعد الحرب.
كان الدخول إلى القصر أشبه بعبور جسرٍ بين زمنين: ماضٍ سامورايي محارب، وحاضر يتقنه السوق والذكاء والتكنولوجيا. وقفتُ أمام البوابة الحجرية، ثم سرتُ ببطء، كأن خطواتي تتلمّس بقايا قوة تاريخية تتنفس في المكان.
وفي المساء شاركت في حفل تشاوري لبلدان غرب آسيا، تقوده السيدة كريستين لاغارد. امرأة طويلة القامة، تمسك الميكروفون كما لو كانت تمسك ميزان عدالة خفي. خطابها كان جريئًا، مغلفًا بديبلوماسية أنيقة، تتسلل فيه نبرات يسارية لا تخطئها الأذن الخبيرة. صافحتنا واحدًا بعد الآخر، وكانت يدها باردة واثقة، كأنها نتاج مدارس السياسة الفرنسية التي لا تعرف الارتجاف.
في صباح اليوم التالي، بدت طوكيو كأنها مدينة جرى تلميعها طيلة الليل. الشمس تنعكس على نوافذ الأبراج، والسيارات تسير كأنها جزء من نظام تشغيل دقيق. دخلتُ مكتبي في قصر المؤتمرات أُعدّ أجندة اجتماع تشاوري مع المصارف المركزية النظيرة.

فجأة… تحرّكت الطاولة..

ثم مالت الطاولة يمينًا…
ثم يسارًا…
ثم عاد كل شيء ليميل بعكس ما أفعله أنا، كأن المكان يصحّح اختلال التوازن بدلًا عني!

لم أصرخ.
جمّدت نفسي كتمثال.
كأن الخوف لا يريد الاعتراف بوجوده.

كان الموظف المرافق يقف خلفي، يكرر بصوت منخفض، يكاد ينافس اهتزاز الجدران:
“Don’t worry sir… just a mild earthquake… about thirty miles from Tokyo.”

كانت عيناه ثابتتين، كأنه يتحدث عن مطر خفيف أو زحام صباحي، لا عن أرض تهتز تحتك.

توقّف كل شيء كما بدأ: فجأة.
كأن المدينة أعادت ترتيب صفائحها الداخلية ثم اعتذرت بصمت، واستأنفت يومها.

انتهى المؤتمر.
جمعت أوراقي، وغادرت طوكيو، لكنني أحسست أن المدينة تركت هزّتها داخلي.

وما إن عدت إلى بلادي، حتى وجدت نفسي أمام زلزالٍ آخر… زلزال اساء تقدير انسانيتي ونزاهتي ، هزّة لم يكن لها جهاز رصد ولا تحذير مسبق. هزّة قلبت ملامح الأيام وقوانين العمل وطبقات العلاقات، ودفعتني إلى كتابة ما يشبه رواية تُفتح صفحاتها بدموعٍ لا تجف.

لو أردتُ أن أعيد تسميتها، فلن أجد أجمل من عنوان رواية كتبها الكاتب الروماني قسطنطين فيرجيل جورجيو، اسمها:
“الساعة الخامسة والعشرون”وهي
الساعة التي تأتي بعد الزمن،
حين يصبح الإنسان خارج تقويم العالم،
وحيث الدموع تكتب ما يعجز الوقت عن قوله.
وهكذا أدركتُ أن زلزال طوكيو لم يكن إلا رسالة مبكرة…
الهزّة الأولى التي يرسلها القدر قبل أن تُكتب النهاية بالدموع.
(انتهى)



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنثروبولوجيا الديمقراطية في العراق
- إفطار في نيويورك وصداه في بغداد
- السعر وصراخ الحرية : زوربا من جديد
- ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين
- ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير
- عاصفة عيد ميلادي: الخريف الضائع
- الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي
- خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
- منظر دجلة بين طفولتي وكهولتي: الخوف والخجل
- علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...
- اقتصاد الدموع : حين يصبح الحنين عملةً رمزية.
- خليجان يحرسهما قمر واحد – من أزمنة لا تموت رحلة تأملية بين ف ...
- السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد
- جدلية الظل والمصالحة مع الذات : القرين الخفي مرآة ديستوفسكي ...
- بكاء الأمهات على بوابة سجن متخلف..
- البنادق مقابل اللوبستر البحري: مقاربة في الاقتصاد السياسي لم ...


المزيد.....




- إلغاء حق الجنسية بالولادة.. ماذا قال ترامب عن احتمال خسارة ا ...
- هل يبقى أحمد الشرع في السلطة -للأبد- وكيف يؤثر تاريخه بمستقب ...
- كوريا الجنوبية تنشر مقاتلاتها بعد دخول طائرات روسية وصينية م ...
- بيت لحم: شجرة الميلاد تضيء ساحة المهد رغم الجراح
- ذكرى سقوط نظام الأسد.. عودة إلى طفولة اختطفت وآلاف السوريين ...
- مقتل 67 صحافيا خلال سنة حوالى نصفهم في غزة
- المخ يغير وصلاته العصبية بالكامل 5 مرات خلال عمر الإنسان
- كيف تحولت شبابيك سوريا إلى أكبر منصة إعلامية خلال ردع العدوا ...
- اللواء الدويري: لهذه الأسباب تنقل إسرائيل قواعدها إلى الخط ا ...
- قلة النوم مرتبطة بانخفاض متوسط ??العمر المتوقع


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - مظهر محمد صالح - زلزال في اليابان… أم رسالة انتظار خُطّت بالدموع