أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - جين أوستن: حياة قصيرة… وعاطفة طويلة لا تنطفئ (في الذكرى الـ250 لميلادها)















المزيد.....

جين أوستن: حياة قصيرة… وعاطفة طويلة لا تنطفئ (في الذكرى الـ250 لميلادها)


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 02:56
المحور: قضايا ثقافية
    


.

كان وداعي لمحطّة قطار ونشستر، عاصمة إنكلترا القديمة، منعطفًا حادًا لم يُعفِني من الإجابة عن سؤال مضيفتي، السيدة جوناثان، وهي تبتسم بوجه صافٍ وسلوك رقيق قلّ نظيره. قالت لي:
هل تمارس الكتابة؟
فأجبتها: نعم.

ارتسمت على وجهها ابتسامة أعمق، ولمحتُ في عينيها بريقًا التقط في تلك اللحظة خيطًا من أشعة الشمس وهي تمرّ على الرؤوس الشقراء، كأنها تحثّهم، في الذكرى السنوية لرحيل الروائية الإنكليزية جين أوستن في 18 تموز/يوليو 1817، على أن يُقلبوا صفحة الأدب البريطاني مجددًا ، ويعيدوا قراءته بروح جديدة.

يومها أدركتُ أنّ الشمس لا تغرب عن ونشستر ما دامت لا تفتقر إلى العاطفة، وأنّ السكون الذي احتضن رفات جين أوستن في كاتدرائيتها الشهيرة ما زال يزرع في النفس صوتًا واحدًا مدويًا للحرية:

“لن أُغَيَّب… فمن غاب عن الأشياء غابت الأشياء عنه.”

واصلت سيري برفقة مضيفتي نحو منزل أوستن، الذي غدا متحفًا للزوّار. وما إن دخلتُ حتى علق في ذاكرتي ذلك السرير البسيط في غرفة نومها، تحيط به تحف صغيرة موضوعة على حوامل معدنية وخشبية، فيما انتشرت عند ملتقى الأقدام وسائد وأبسطة وادعة.
ورغم أنّ جين أوستن لم تتزوج في حياتها، فإن ذلك لم يمنعها من كتابة أعظم الروايات عن الحب والزواج، وعن نساء يبحثن عن الشريك المناسب. فجميع رواياتها تكاد تنتهي بزواج يجمع امرأة ذكية برجل “مناسب”، بعد مخاض طويل من المشاعر والتباينات الطبقية.

تظلّ رواية «كبرياء وتحامل» أشهر أعمالها العاطفية: امرأة لامعة الذهن في مواجهة رجل غنيّ متعجرف. وفيها تخوض أوستن، بنبرة بارعة، في أسئلة المعرفة والطبقة الاجتماعية، متناولةً الحياة اليومية ومشكلاتها في الطبقة الوسطى، ومكرّسةً نفسها بوصفها من أوائل من ناقشوا حياة المرأة في مطلع القرن التاسع عشر.
حتى اعتلاها النقّاد مرتبة أعظم من كتب في الأدب الإنكليزي بعد شكسبير، وصاحبة أول رواية حديثة بالمعنى البنائي الدقيق.

وُلدت جين أوستن عام في 16 كانون الاول /ديسمبر 1775 لأسرة متواضعة ،كان والدها قسًا ريفيًا محدود الدخل. قبلت مرةً الزواج من رجل ثري، لكنها رفضته بعد وقت قصير، معلنةً همسًا:

“كل شيء يمكن أن يحدث، أي شيء يحتمله الإنسان… إلا أن يتزوج بغير حب!”

تأملتُ في منزلها قولًا لها طالما ردّدته النساء عبر القرون:

“إن عاطفة المرأة سريعة؛ تنقلها من الإعجاب إلى الحب، ومن الحب إلى الزواج، في غمضة عين.”

وتساءلتُ في سري وأنا أغادر منزلها:
ترى… ما موقف مُحِبّة جادّة من مُحِبّ عابث؟
فأجابني صوت داخلي من قلب الكاتدرائية، حيث ترقد أوستن بسلام:

“عليك أن تطهّريه من العبث، فالجديّة في العبث تقود إلى العدم. وإن استُعمل الحب يومًا مبتدأً لجملة مفيدة… فسيُنسى الخبر إلى الأبد!”

غضبتُ قليلًا، ثم تذكّرتُ فورًا قول أوستن:

“الغاضبون تنقصهم الحكمة.”
فعُدتُ إلى صوابي حالًا.

انتهت زيارتي لمدينة ونشستر عند طاولة طعام على رابية خضراء، في مكان ريفي خلاب. تقدّم نحونا عامل المطعم وقال:
إنها الطاولة نفسها التي جلست عليها السيدة مارغريت تاتشر وزوجها في إحدى زياراتها الصيفية قبل أعوام… إنها من نصيبكم اليوم. أنتم محظوظون!

استحضرتُ “المرأة الحديدية” وهي تمضي في صخب الفوكلاند، تمسك الحرب بيدٍ من نار، وتخطّ بيدٍ أخرى دروب الليبرالية الجديدة على صفيحٍ ساخن. وفي الضفة المقابلة، كانت جين أوستن، برقتها البالغة، تشعل ثورتها الهادئة بالكلمات؛ كلماتٍ تمشي على أطراف أنفاسها، وتربّي الحسّ الإنساني كما تُربّي المصابيح ضوءها.

وبين المرأتين مفترق جهات، غير أنّ خيطًا خفيًّا كان يجمعهما: ذلك الهدوء السريّ للعاطفة، حين تتوضّأ صلابة تاتشر بدمعةٍ تفيض من روح جين أوستن ،دمعةٍ لا تسقط، بل تطرق باب الرقة قبل أن تلامس معدن القوة.

ما أجمل أن نستحضر اليوم ذكرى ميلاد الروائية البريطانية جين أوستن (16 كانون الأول/ديسمبر 1775) بعد مرور 250 عامًا على ولادتها. أوستن لم تكن مجرد كاتبة روايات رومانسية، بل كانت ناقدة اجتماعية بارعة، التقطت تفاصيل الحياة اليومية في إنكلترا القرن التاسع عشر، وحوّلتها إلى نصوص تحمل رياح العاطفة والعقل معًا.
اليوم، يحتفل الأدب العالمي بالذكرى الـ250 لولادة جين أوستن؛ الروح التي منحت الرواية الإنكليزية نبرة الذكاء الهادئ وسحر التفاصيل اليومية.
في هذه الذكرى الباذخة بالزمن، تقف الإنسانية إجلالًا أمام كاتبة رحلت مبكرًا عام 1817، لكنها تركت وراءها حياةً أطول من زمنها بكثير. فقد غابت عن الدنيا في الثانية والأربعين، غير أنّ صوتها بقي متقدًا في صفحات لم تهرم، وكأنها تكتب اليوم عنّا كما كانت تكتب عن مجتمعها الريفي وطبقته الوسطى قبل قرنين ونصف.

ان مرور 250 عامًا يجعلنا نرى أوستن كجسر بين الماضي والحاضر ، فهي كتبت عن القيود الاجتماعية التي ما زالت تتردد في حياتنا اليوم.

ظلت رواياتها تحمل حنينًا إلى زمن آخر، لكنها أيضًا دعوة إلى الأمل في أن العاطفة والعقل يمكن أن يتكاملا..!

تغيب أوستن، لكن شخصياتها لا تغيب. تمشي بيننا، تتجادل وتحبّ وتخطئ وتتعلّم، فيما تواصل رواياتها تعليم العالم درسًا لا يشيخ:
أن الإنسان هو الحكاية الكبرى التي لا تكفّ عن إعادة اكتشاف نفسها.
عاشت جين أوستن حياة قصيرة… لكنها منحتنا عاطفة طويلة لا تنطفئ.
فمهما قصرت أيامها على الأرض، اتسعت العاطفة التي سكبتها في رواياتها حتى صارت زمنًا آخر، زمنًا لا يخبو ضوءه ولا تنطفئ حرارته…
بالحبر والحب.

في الشرق ، حيث الذاكرة الجمعية تبحث عن رموز للهوية والشفاء، يمكن قراءة أوستن كصوت يذكّرنا بأن الأدب هو مساحة مقاومة ناعمة وعناد نبيل ضد القهر الاجتماعي في قمع العاطفة و نبض لا يخضع لقمع حياة عنوانها الحب . وإن الحب حين يُصاغ بالحبر،
يصبح زمنًا آخر…
زمنًا يقاوم النسيان،
ويمنح الإنسان حقه الأبدي في أن يشعر،
وأن يحلم،
وأن يبقى…انها جين اوستن..!!

(انتهى)



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الدفع النقدي والدفع الرقمي: امتحان الكرامة خارج الوطن
- علم اقتصاد المعنى…بين القلم والممحاة
- زلزال في اليابان… أم رسالة انتظار خُطّت بالدموع
- أنثروبولوجيا الديمقراطية في العراق
- إفطار في نيويورك وصداه في بغداد
- السعر وصراخ الحرية : زوربا من جديد
- ذاكرة الجوع وابتكارات البقاء: سردية من بكين
- ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير
- عاصفة عيد ميلادي: الخريف الضائع
- الطبيب حميد تاج الدين رجالٌ عظامٌ من بلادي
- خطاب الصمت في الفضاء الرقمي السائل
- منظر دجلة بين طفولتي وكهولتي: الخوف والخجل
- علم النفس التربوي يوم تعثّرت أيديولوجياته في ذاكرة طفولتي
- رغيف الخبز: الأم والوطن والطفولة (من ذاكرة الجمر والقمح)
- قصر النهاية: حين مررنا بالسجن ولم نعد إلى بابل
- الشاي… نباتُ الصين العظيم من قرن الإذلال إلى الحرب التجارية ...
- اقتصاد الدموع : حين يصبح الحنين عملةً رمزية.
- خليجان يحرسهما قمر واحد – من أزمنة لا تموت رحلة تأملية بين ف ...
- السفرة المؤجَّلة: أزمنة لا تموت
- تحت ظلال شجرة النارنج: مدرسة زهاء حديد في بغداد


المزيد.....




- -دليل بالغ الأهمية- قد يشير إلى داعش.. لقطات جديدة تُظهر بدا ...
- بيان للخارجية المصرية بعد غرق مركب مهاجرين قرب جزيرة كريت
- كيف تعاملت السلطات المغربية مع كارثة فيضانات (آسفي)؟
- ألمانيا: عودة الخدمة العسكرية.. جيل جديد يرفض الحرب وتحديات ...
- أرقام صادمة عن الفساد في العالم على طاولة مؤتمر أممي بالدوحة ...
- الجيش الإسرائيلي يصل -نقطة الغليان- بسبب نقص الكوادر
- هجوم أستراليا.. الهند تكشف جنسية المنفذ وسيدني تؤكد تدريب ال ...
- غارديان ترسم صورة لحياة بشار الأسد وعائلته في موسكو
- أرامل غزة.. صراع البقاء وسط الدمار والفقدان
- ضيف غير مرغوب.. جرذ يثير رعب ركاب طائرة هولندية وسخرية على ا ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - مظهر محمد صالح - جين أوستن: حياة قصيرة… وعاطفة طويلة لا تنطفئ (في الذكرى الـ250 لميلادها)