أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الحاجة الملحّة لإعادة اختراع التاريخ حين يصبح الحاضر خانقاً.















المزيد.....


الحاجة الملحّة لإعادة اختراع التاريخ حين يصبح الحاضر خانقاً.


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 11:05
المحور: الادب والفن
    


تبدو رواية سلمى للروائي السعودي غازي عبدالرحمن القصيبي في بنيتها العميقة محاولة يائسة وجميلة في آن واحد لإعادة تأسيس علاقة مع التاريخ عبر حكاية امرأة واحدة تتحول، بما يشبه التناسخ السردي، إلى مرآة لأزمنة متعددة ومصائر متكسرة. ليست العجوز سلمى مجرد شخصية روائية تتعرّض للشيخوخة والهلوسة، بل هي كيانٌ سردي قائم بذاته، تنسج حوله الرواية شبكة معقدة من التوتر بين ذاكرة شخصية تتداعى ورواية رسمية للتاريخ تُصرّ على أن تُقدَّم عبر الراديو الذي يهيمن على الفضاء الداخلي والغرفة والوعي ذاته. فالقصيبي في روايته لا يقدَّم الراديو كجهاز، بل كسلطة كاملة، باردة، مطلقة، تشبه إلى حد كبير المرويات الرسمية التي يفرضها المنتصرون، والتي لا تترك للمخيلة الفردية سوى هامشٌ ضئيل للاحتجاج والاعتراض. ولهذا يتحوّل كل مشهد تسمعه العجوز من الراديو إلى ساحة صراع، ليس بين تفسيرين للتاريخ، بل بين حقيقتين متناقضتين، ما عاشته هي في هذيانها المديد، وما تقوله الآلة بوصفه "حقائق" مكتملة ومنقّحة.
لكن الرواية تنقلب على نفسها بذكاء حين تُظهر أن سلمى ليست ضحية للرواية الرسمية وحدها، بل هي صانعة لرواية أخرى لا تقلّ خيالية، بل أكثر تورّطاً في الرغبة. فهي تعيد بناء غرناطة كي تنقذها، وتعيد رسم شخصية المتنبي كي تمنحه بطولة لم يعشها، وتعيد كتابة سقوط بغداد كي تقيم نفسها في موقع الحاكمة القادرة على دفع الانهيار. هذا لا يُقدَّم بوصفه غروراً ، بل بوصفه محاولة لفهم العالم عبر تحويل الماضي من ساحة للهزيمة إلى مسرح للتكفير. تضيف الرواية إلى هذا كلّه لمسة مأساوية تتمثل في أنّ كل تلك البطولات التي تتحقق في ذاكرة سلمى لا تنتمي إلى التاريخ، بل إلى سرد "موازٍ" لا يملك أي أثر إلا في عقلٍ استنفد حياته في محاولة إصلاح ما لا يُصلح. وهنا يتجلى الانكسار البنيوي الأكبر لأن الرواية تدين تزييف التاريخ، لكنها تبني بديلًا عنه أكثر اتساعاً وجرأة وخيالًا، مما يجعلها متورّطة في نفس اللعبة التي تعترض عليها، وهذا التناقض هو الثغرة الجوهرية، ليس خللًا بل لبّ الرواية، لأن محاولة امتلاك الحقيقة تنتج تزويراً آخر، ومحاولة تحرير التاريخ من هيمنة واحدة تستبدله بهيمنة جديدة.

هذه الثغرة تنسجم مع البنية المتشظية للسرد. فالرواية لا تسير في خط واحد، بل تلتفّ وتلتوي، تتقدم وتعود، وتتحرك بين الأزمنة كما لو أنها تعبر محطات راديو. اللحظة في غرناطة تفضي إلى لحظة في بلاط المتنبي، ثم تتسرب إلى قصر الخلافة العباسي، ثم ترتد فجأة إلى غرفة العجوز وهي توبّخ الراديو، أو توبخ ابنها، أو تحكي عن زوجٍ لم نعد نعرف أين يبدأ وجوده الحقيقي وأين ينتهي. هذه التقنية السردية تمنح الرواية انسياباً يشبه التيه، لكنها ليست عشوائية، هي تمثيل فني لفكرة أن الزمن العربي ليس سلسلة من الأحداث بل سلسلة من السقوط المتكرر. الزمن لا يتقدّم، بل يلتف. والماضي لا يموت، بل يعود كل مرة في هيئة جديدة، وكأنه ينتقم من الحاضر عبر قصصه غير المكتملة. من هنا تصبح سلمى ليست شخصية روائية، بل لحظة وعي جمعية، تحمل في طياتها كل ما هو مؤجل ومقموع، وتعيد صياغته على شكل حكايات مقاومة، غير قادرة على تغيير شيء واقعي، لكنها تمتلك قدرة هائلة على تفكيك الوهم.
ولعل أكثر ما يثير الانتباه أن الرواية تُظهر سلمى في كل لحظة كأنها تمتلك مشروعاً سلطوياً خاصاً بها، لا يُعلن بوضوح لكنه يحكم كل تصرفاتها. إنها لا تروي التاريخ رغبة في المعرفة، بل رغبة في السيطرة عليه. تحاول إعادة تشكيل مصائر الرجال، سواء كانوا سلاطين، أو شعراء، أو أبناء، أو عشاقاً، وتضع نفسها في مركز الحدث. هذا ليس تمجيداً للمرأة، بل إعادة قراءة عميقة للكيفية التي تتورط بها الرغبة النسوية في السرد، وكيف يمكن للحلم بالإنقاذ أن يتحول إلى نوع من التعويض النفسي، أو حتى نوع من التسلّط العاطفي على الماضي. لكن الرواية تكشف أن السلطة نفسها، مهما بدا شكلها أو جنس حاملها، هي الخيط الناظم لكل الخراب. في غرناطة تقود السلطة إلى الخيانة. في بلاط المتنبي تقود السلطة إلى الوهم. في بغداد تقود السلطة إلى الفساد والسقوط. وفي غرفة العجوز، رغم ضيقها وصمتها، تقود السلطة (هذه المرة سلطة الذاكرة) إلى خلق واقع بديل، جميل لكنه هشّ، كامل ومهدّد بالانهيار مع كل هبّة صوت من الراديو.
لغة الرواية تنسج هذا كله عبر مزيج بين الواقعية والهلوسة والتوثيق والتخييل، مما يجعل القارئ يعيش حالة من اللايقين. هل سلمى شخصية تاريخية؟ هل هي صوت رمزي؟ هل هي مجرد امرأة مذعورة تخلق في رأسها تاريخاً موازياً كي لا تواجه قسوة الشيخوخة؟ هذا اللايقين ليس ثغرة بل أداة فنية. الرواية نفسها تريد من قارئها أن يشك، أن يرفض النهاية الواضحة، أن يعيد إنتاج المعنى بدلًا من تلقّيه جاهزاً وهنا تتقاطع الرواية مع الاتجاهات السردية الحديثة التي تنفي وجود "حقيقة واحدة" وتستبدلها بتعدد أصوات ووجوه ورغبات.
رواية سلمى تبدو كمرثية عربية كبرى، تحاول فيها الذاكرة أن تقاوم النسيان عبر تخييل الماضي بدلًا من تصديقه، وكأن الخيال هو آخر أسلحة الإنسان حين يعجز عن تغيير الواقع. سلمى ليست بطلة بالتعريف الكلاسيكي، بل هي ذاكرة منكوبة تُسهم في تشييد عالم بديل كي لا تنسحق تحت وطأة الهزيمة. والراديو ليس راوياً محايداً بل تجسيد لسلطة لا تُناقش. وبينهما يتشكّل نصّ يشتغل على السؤال الأصعب والأعمق، ما الذي نفعله بالتاريخ حين يفلت من يدنا؟ هل نصدقه؟ أم نعيد كتابته؟ أم نحوله إلى قصة شخصية كي نخفف من قسوته؟
ثم يحدث الانشطار السردي الحاسم عندما يدور المؤشر بين الإذاعات ثم يتوقف على صوت جمال عبد الناصر. فيتحول السرد إلى مشهد داخل مكتب الرئيس نفسه، حيث "يرفع جمال عبد الناصر رأسه من الأوراق… ويشرق وجهه عندما يرى سلمى واقفة أمامه". هذه النقلة الصاعقة، من غرفة عجوز نائمة إلى مكتب رئيس دولة، ليست انتقالاً زمنياً فحسب، بل هي إعلان صريح بأن الرواية تسير بمنطق الوعي الداخلي لسلمى، لا بمنطق الواقع الواعي ولا يستعيد الماضي بل يخلقه.
عندما تقول سلمى للرئيس:"سيادة الرئيس! هل نسيت أنني مديرة المخابرات العامة؟!" ينتقل السرد من الاسترجاع إلى التخليق الكامل. إنها لا تتذكّر لحظة في حياتها، بل تكتب لحظة لم تعشها. لا تُستدعى سلمى من الماضي بل تُمنح سلطة لم تحزها قط، وهكذا تكشف الرواية عن حيلة ذكية. إذ كل ما سيأتي لاحقاً ليس تاريخاً، بل رغبة تتنكّر بثوب الذاكرة. ويبدأ القارئ في إدراك الثغرة الجوهرية في الرواية وهي أن الرواية ليست رواية عن التاريخ، بل عن الحاجة الملحّة لإعادة اختراع التاريخ حين يصبح الحاضر خانقاً.

اللافت أن سلمى، في كل المشاهد الخيالية التي تظهر فيها بصفتها شخصية فاعلة في الدولة، تتصرف بنبرة يقين مطلق. فعندما تحذر الرئيس من "مؤامرة خطرة جداً تدبر ضدك، وضد مصر"، نلاحظ أن حدة خطابها لا تشبه حدة محللة سياسية، بل حدة امرأة تشعر بأن العالم يفلت من يدها، فتخلق حبكة كونية لتعيد له المعنى. تقول له: "لا أتكلم عن المؤامرات اليومية العادية… أتحدث عن خطر داهم"، ثم تتوسع في تفسير السيناريو بدم بارد. هذا اليقين الذي تبديه سلمى في تحليلها السياسي يعكس الحاجة العميقة لدى الإنسان الضعيف، خاصة في الشيخوخة، إلى خلق فضاء يتحكم فيه. في غرفتها، لا تستطيع السير بسهولة، و"الحركة صعبة، والذاكرة ضعيفة"، لكنها في خيالها قادرة على أن تهزّ توازنات الدول العظمى.
تبرز الوظيفة النفسية للرواية عند سلمى التي لا تهرب من الواقع، بل تنقذه من العدم، على طريقتها. هي لا تعود إلى الماضي العربي لتبكيه، بل لتغييره. لكنها تفعل ذلك من خلال تمركز ذاتي لافت، فهي مصدر التحليل، وصاحبة المعلومات، ومالكة الرؤية الاستراتيجية. وهنا تتضح أبرز خصائص الرواية وهي أنها تنقد السلطة عبر خلق سلطة مضادة، تنقد التزييف عبر بناء تزييف بديل، وتنقد الرواية الرسمية عبر إنشاء رواية شخصية كاسحة.

غير أن السرد الروائي يميز بدقة بين نوعين من السلطة: سلطة الراديو، وسلطة الخيال. سلطة الراديو قائمة على خطاب ثابت من حقائق، نشرات، أصوات رجال الدولة، خطب حماسية، استعادة للأحداث بصورتها المؤدلجة. أما سلطة الخيال عند سلمى فهي قائمة على إعادة توزيع الأدوار لتجعل من نفسها محوراً للحكاية، وتجعل من جمال عبد الناصر رجلاً يصغي إليها بلا مقاطعة، وتجعل من مؤسسات الدولة الدائرة التي تتحرك فيها بثقة لا تشبه وضعها الحقيقي. هذا التناقض ليس خللاً، بل هو تمثيل دقيق لصراع الإنسان مع الزمن. فالراديو يقول لها: هذا هو العالم. أما خيالها فيردّ: بل هذا هو العالم كما يجب أن يكون.
تأتي القوة الدرامية للرواية من الطابع الهذياني الممنهج الذي تبنيه الرواية. فمشاهد الحوار بين سلمى وعبد الناصر مكتوبة بمنطق يتجاوز التصديق الواقعي، لكنه شديد الترابط الداخلي. عندما تقول له: "لا لم أبدأ في تعاطي الحشيش ولا الأفيون، معلوماتي مؤكدة مئة في المئة"، فهي تبرّر خيالها بآليات المنطق ذاته الذي تستعمله الأجهزة الأمنية. هذه المفارقة تُضفي على المشهد بعداً ساخراً، وتجعل من شخصية سلمى تجسيداً لخطورة الخلط بين السلطة والفكرة، وبين الحقيقة والرواية.
تزداد المفارقة عندما يتورط جمال عبد الناصر نفسه في اللعبة. فهو يصدّق بعض ما تقوله، يناقشها، يعارضها، ثم يصغي. هذه الاستجابة ليست واقعية، لكنها ضرورية فنياً لكي يتحول وعي سلمى من مونولوغ داخلي إلى خطاب تاريخي موازٍ، يقدّم تفسيراً لواحد من أعقد منعطفات التاريخ العربي: حرب 1967. وما يلفت النظر أن السيناريو الذي تقدّمه سلمى للرئيس يتطابق، بشكل أو بآخر، مع روايات تآمرية شائعة: "سوف تبدأ المؤامرة بمعلومة ملغومة"، "ستكون التهديدات الإسرائيلية سافرة جداً"، "سوف تقلع الطائرات الإسرائيلية كلها… وتهاجم الطائرات المصرية وتدمّرها كلها". هذه الدقة في تحليل الهزيمة لا تأتي من معرفة، بل من رغبة لسلمى تريد تفسيراً مقنعاً لحجم الانهيار العربي، فتخلق سيناريو يبدو محكماً لكنه مصنوع بالكامل من خيوط الخيال.

ويكمن عمق الرواية أكثر حين تكشف آلية العقل العربي في التعامل مع الصدمة. فبدلاً من مواجهة الواقع الموجع، تُبتكر روايات تآمرية تمنح الهزيمة معنى. واللافت أن السرد لا يدين سلمى، بل يتعاطف معها. إنها لا تكذب، بل تحاول أن تعيد للحدث قواماً يتسع لفهمه. إن هشاشة الذاكرة، وضعف الجسد، وضغط الشيخوخة، كلها تتحول إلى دافع لصنع سردية موازية. وهكذا تصبح الرواية نفسها دراسة في علم النفس الثقافي، لا مجرد نص سردي.

مع ذلك، يستمر السرد الروائي في كشف التناقض المركزي، في اللحظة التي تظن فيها سلمى أنها تنقذ التاريخ من الوقوع في فخ النسيان، يصبح تاريخها الشخصي هو الضحية الأولى. إذ حين تعود من مقاطعها الرئاسية إلى سريرها الصغير، نرى أن الراديو ما يزال إلى جوار رأسها، وأن ابنها يتساءل: "لماذا تريد أمه جهاز راديو جديداً كل شهر؟ هذا السؤال البسيط هو أخطر جملة في الرواية كلها. إنه يفكّ الأوهام بضربة واحدة. فبينما تعيش سلمى في عقلها على مستوى رؤساء الدول، يراها ابنها امرأة تائهة في شيخوختها، تطلب راديو جديداً لأن "عقلها لم يعد كما كان". لكن القارئ، الذي عاش داخل وعيها، يعرف أن القضية أعقد بكثير من خلل في العقل. القضية هي صراع بين عالم داخلي يحاول إعادة تخليق الزمن، وعالم خارجي لا يعترف إلا بالوقائع. فالراديو "بجانب رأسها على المخدة"، يعني أنها ترسم صورة رمز مركزي لجهاز هو العقل، المخدة هي الذاكرة، والسرد هو الحلم. لا فرق بين الأصوات الخارجة من الراديو والأصوات الصاعدة من الذاكرة. في كل مرة ينتقل السرد من غرفة سلمى إلى مكتب الرئيس، أو إلى ميدان الحدث التاريخي، فهو لا يخرج من الواقع بل يدخل أعمق فيه، يدخل في الحقيقة الداخلية للذات حين تصبح الذاكرة طريقة لفهم العالم.
رواية سلمى ليست رواية تاريخية، وليست رواية سياسية، بل رواية عن هشاشة الوعي البشري حين يصطدم بزمن أكبر منه. سلمى ليست مجرد عجوز فقدت الذاكرة؛ إنها تمثيل حيّ لأمة فقدت ثقتها بتفسير واحد للهزائم، فابتكرت آلاف التفسيرات، كلها مشحونة بالعاطفة والرغبة والندم. في كل مرة تقول فيها سلمى "الأمر لا يحتمل التأجيل"، فإنها تعبر عن استعجال داخلي أو استعجال الزمن الأخير للوعي قبل أن ينطفئ. إن استعجالها ليس سياسياً بل وجودياً. إنها تريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل لحظة السكون النهائية التي لا يعود بعدها أي صوت مسموع، لا صوت العرب، ولا هنا برلين، ولا صوت الذاكرة نفسها.

إن الثغرة الأساسية في الرواية تُعدّ ذروتها الفنية وهي هذا التناقض بين صورة سلمى في خيالها وصورتها في الواقع. النص الروائي لا يحسم أيّ الصورتين حقيقية، لأنه يريد من القارئ أن يدرك أن الحقيقة ليست هدفاً روائياً بل مادة للصراع. الواقع لا ينتصر على الخيال، ولا الخيال يبتلع الواقع. إنهما يتداخلان، يتصارعان، ويجعلان من الرواية نصاً عن الهوّة بين ما نعيشه وما نحتاج أن نصدقه كي نستمر.
القصيبي لا يقدّم التاريخ كما وقع، ولا كما يجب أن يقع، بل كما يُعاد اختراعه داخل ذاكرة متعبة، تبحث عن عزاء لا تجده إلا عبر إعادة خلق الماضي. إن سرد سلمى ليس محاولة لإخفاء الحقيقة، بل محاولة لحمايتها من القسوة. إنها، بكل بساطة، امرأة تحاول أن تمنح الهزائم العربية معنى، وأن تمنح حياتها المتبقية دوراً، وأن تمنح الراديو وظيفة أخيرة وهو أن يكون الجسر الأخير بين ذاتٍ تتلاشى وعالمٍ ينسحب منها بصمت. إذ تغدو الرواية شهادة على كيف يتحول التاريخ إلى علاج نفسي، وكيف يتحول الخيال إلى دفاع أخير عن كرامة الذاكرة، وكيف يتحول صوت واحد هو صوت عجوز وحيدة إلى محاولة يائسة لإعادة ترتيب الفوضى الكبرى.
سلمى في هذه الرواية كأنها شقٌّ متوتر من الوعي العربي ذاته، امرأةٌ تتجوّل بين الأزمنة لا لأنها بطلة أسطورية، بل لأنها جرحٌ متحرّك يتلبّس أشكالًا متعددة: جاسوسة بين معسكرات الفرنجة، معشوقة شاعرين من عمالقة العصر الحديث، ضابطة في قوّة الدفاع الإسرائيلية، وعجوز أمام راديو يُعيد ترتيب ذاكرتها كما تشاء الأمواج الإذاعية. وفي كل هذه التحولات ليست سلمى كائناً ثابتاً، بل طاقة سردية تنفرط تحت ضغط الذاكرة والتاريخ والندم. وحين تتقدّم الرواية بمشاهدها، يعثر القارئ على الثغرة الجوهرية التي تُمسك بجسد السرد كلّه هي أن سلمى ليست شخصاً واحداً ، بل استعارة كبرى للهوية العربية حين تتمزّق بين البطولة والسقوط، بين الحبّ والخيانة، بين المقاومة والانصهار في الآخر.
يشعر القارىء أحياناً أن سلمى وهي في حالة قريبة من الجنون متأرجحة بين الخوف والأمل، لحظة تُجسّد امرأة تعيش في التخوم بين اليقين والشك. ثقتها بزوجها صلاح الدين زوجها الشجاع… القادر على هزيمة الفرنجة في حطّين لا تُلغي معرفتها بقوة العدو، ولا تُلغي أيضاً معرفتنا نحن، القرّاء، بأن هذه الثقة ليست سوى طبقة رقيقة تُخفي تحتها نزيفاً من الخوف. بهذا تلتقط الرواية أول خيط من ثغرتها الأساسية، فالبطولة ليست صلبة، بل مكوّنة من خليط هشّ من التظاهر بالصلابة ورجفة الخوف.
وتستمر الرواية في تقويض صورة البطولة نفسها حين تُظهر لنا أن سلمى هي التي كانت " تزود زوجها بتفاصيل قوة العدو" فتحوّلها من زوجة خلف الخطوط إلى عينٍ في قلب معسكر الفرنجة ليس فعلًا بطولياً تقليدياً، بل فعلًا يمزج بين الرغبة في الاقتراب من الموت والرغبة في إثبات الذات لزوج نراه هو الآخر ممزقاً بين الرجولة والخشية من فقدانها. خطابه لها يقول فيه "سلمى! أنت زوجتي… كيف أتركك تغامرين بحياتك؟" يكشف عن بنية ذكورية تحاول حمايتها لا تقديساً لها، بل تقديساً لصورة الزوجة-الملكية. لكن ردّها "سيدي السلطان! لأنني زوجتك يجب أن أشاركك الجهاد" ينسف هذا الامتلاك الذكوري لصالح ذات تقرر أن تكون فاعلة لا مملوكة، متحركة لا راكدة.

غير أنّ هذه القوة النسوية لا تبقى خالصة، فالسرد الروائي يُظهر أن سلمى لا تدخل معسكر الفرنجة فقط بوصفها جاسوسة، بل بوصفها امرأة تجيد الخديعة، تقول: "سوف أحارب بالخديعة… وأنت تعرف أن أقوى الرجال لا يستطيع أن يتغلب على امرأة ضعيفة في فن الخديعة" وهنا ينكشف البُعد الإشكالي فالقصيبي يمنح البطلة قوة، لكن هذه القوة مؤسّسة على النمطية الجندرية ذاتها، المرأة تنتصر لا بقوة الفكر أو السلاح، بل بدهاء ضعيف. هذه المفارقة تمثّل واحدة من الثغرات الجمالية المقصودة التي تجعل شخصية سلمى تتأرجح بين التحرّر وإعادة إنتاج ما تهدمه.
وحين تقدّم لنا الرواية ذكرى القبض عليها في معسكر الفرنجة، فإنها لا تستخدمها لبناء بطولة، بل لبناء عارٍ مجهول المصدر، ذكرى تطاردها إلى الشيخوخة. تقول الرواية:" تبًا لهذه الذكرى اللعينة! لماذا لا تذهب… لماذا هذا الإصرار على تعذيبها؟" هنا تتجلّى الثغرة الكبرى في حياة سلمى: الماضي ليس مصدر مجد، بل مصدر عذاب، ليس تاريخاً يمكن التباهي به، بل تاريخاً يمكن أن يدمّر الذات لو أصرّ على البقاء. ويتضاعف هذا العذاب حين يتداخل الشرف بالمصادفة، والعار بالنتيجة غير المقصودة. فالملك لم يقتلها، لكنه قدّم لها" كأسًا كتلك التي يشرب منها"، في إشارة إلى احتمال فقدان السيطرة، ورغم أن الرواي يلمّح أنها لم تكن مخدّرة، فإنه يترك فجوة تجعل سؤال "ماذا حدث حقاً؟" مفتوحاً. تلك الفجوة، لا الحدث ذاته، هي التي تُنهك سلمى.

وحين تقفز الرواية بقسوة من مشاهد الفرنجة إلى مشاهد القاهرة، إلى شوقي وعبد الوهاب وأم كلثوم، فإنها لا تقدّم انتقالًا زمنياً تقليدياً، بل قفزة في هويّة سلمى نفسها، فجأة تتحوّل من جاسوسة تاريخية إلى امرأة في قلب الحياة الفنية المصرية، معشوقة شاعرين، ومركز مثلث عاطفي-فني يتلاعب بالجميع. لكن هنا أيضاً لا تقدّم الرواية بطلة خارقة، بل امرأة تتقن "التظاهر والتلاعب بالأحاسيس"، امرأة لا تحبّ الشاعر ولا المطرب، لكنها تحافظ على سرّ المثلث لأنها تحتاج إلى تلك السلطة العاطفية. للمرة الثانية، تُبنى قوة سلمى لا على يقين داخلي، بل على الفراغ ذاته، على القدرة على خلق رغبة دون القدرة على تبادلها. إنّها سلطة من النوع الذي يدمّر صاحبه، سلطة قائمة على كونها تُحرك الآخرين دون أن تتحقق هي في علاقة حقيقية.
وتبلغ الرواية ذروتها المأساوية حين تضع سلمى في قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بزي ضابطة في قوة الدفاع الإسرائيلية، تواجه وجه شارون الذي يسألها:" من أين جاء والداك؟” فتجيبه “من اليمن". هذه اللحظة ليست مجرد مشهد تجسسي، بل لحظة انهيار كامل للهوية. سلمى هنا تتحول إلى ما هو نقيضها، تتقمص ما لا يمكن احتماله، وتحمل في جسد واحد ذاكرتين لا يمكن التوفيق بينهما. ذاكرة جاسوسة عربية تخترق الفرنجة، وذاكرة ضابطة تخترقنا نحن. هذا التناقض هو لبّ الرواية: سلمى ليست بطلة ولا خائنة… إنها مرآة لعصرٍ ضاع تعريف الانتماء فيه. وهكذا، يتضح أن الرواية ليست بحثًا عن الحقيقة بل عن القدرة على تحملها، ليست رواية تاريخية بل رواية عن الصراع بين الذاكرة والخطاب، ليست رواية عن سقوط مدن، بل عن سقوط السرديات التي ادّعت أنها تمتلك العالم. إنّها رواية تقول إننا قد لا نستطيع أن نغيّر ما حدث، ولكننا نملك دائماً أن نغيّر القصّة التي نحكيها عنه. وهذا، في جوهره، هو أعمق ما في الأدب من عزاء. فالرواية تفجّر أهم أسطورة سياسية في الوعي العربي وهي أن الهوية صلبة، نقية، متجانسة، محمية بالتاريخ، فسلمى امرأة عربية مسلمة في زمن صلاح الدين، ثم تتحول في زمن لاحق إلى امرأة تعيش في مصر، ثم في انقلاب صادم تصبح نقيباً في الجيش الإسرائيلي. هذا الانتقال الفجائي ليس عبثاً إنه تعليق سياسي يقول : إذا كانت الهوية العربية مبنية على أساطير متخيلة أكثر من كونها مبنية على واقع، فهي قابلة للانهيار والتحول والتشظي.
أما مشهد صبرا وشاتيلا الذي يمر أمام عينيها يكشف كل شيء: سلمى ترى المجزرة لكنها تقف في صفِّ من صنعها. وهنا تتجلى الثغرة الأخلاقية الكبرى، الثغرة التي يجعلها النص الروائي غير قابلة للترقيع. سلمى ليست سيئة، لكنها ضائعة إلى الحدّ الذي يجعلها تلبس زي قاتل ضحاياها. هذه ليست إدانة للشخصية، بل إدانة للعصر الذي أنتجها.
ثم تأتي اللحظة التي يُفترض أنها أخفّ، لحظة الأغنية: "سلوا كؤوس الطِلا"، لكنّها تتحول إلى بوابة ذاكرة جديدة، ومعها يعود شوقي ويعود عبد الوهاب وتعود ليلة لا تتكرر. هنا يكشف القصيبي أنه لا يقدم قصة حياة، بل يقدم حالة وعي متشظٍ يفشل دائماً في الوصول إلى معنى ثابت. حتى أجمل الليالي تنقلب إلى حسرة؛ فالعجوز حين تستمع إلى الأغنية تبتسم، لكن هذه الابتسامة ليست فرحاً بل استدعاءً لحياة لم تكن تملكها سوى كذكرى. لكن سلمى لا تملك زمام روايتها. حياتها ليست خطّاً مستقيماً، بل سلسلة انكسارات، سلسلة أدوار ترتديها دون أن تنتمي إليها. الراديو لا يستحضر ذكرياتها فحسب، بل يفضحها. الأغاني لا تذكّرها بالماضي، بل تعيد جراحه إلى السطح. التاريخ ليس بطولةً بل فوضى. والهوية ليست صلابةً بل قناعٌ يتبدل. فسلمى شخصية غير قابلة للاكتمال، لأنها ليست بنت زمن واحد ولا قضية واحدة. هي مجازٌ لجسدٍ عربيٍّ أنهكته الحروب، ولذاكرةٍ فقدت القدرة على التمييز بين ما عاشته وما تتخيله. قوتها ليست قوة، بل استمرارية الانكسار. وكل ما في الرواية يشير إلى أنّ ثغرتها الكبرى ، وهي ثغرة النص الروائي ذاته، هي سؤال غير قابل للإغلاق وهو من تكون سلمى حقاً؟ هل هي بطلة؟ أم خائنة؟ أم عاشقة؟ أم ضحية؟ أم ممثلة بارعة؟ أم شبحاً يمرّ عبر التاريخ دون أن يترك أثراً ثابتاً؟

بيروت -لبنان -الأحد في 7 كانون الأول الساعة التاسعة صباحا 2025



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع الأبعاد المقلوبة في مسلسل أشياء غريبة (الجزء الأول)
- هل الطفولة هي مصنع الحطام الأول للإنسان في مسلسل الآثم؟
- مسلسل الآثم - The Sinner- نافذة على عالم عائلي داخلي مضطرب
- الرواية البوليسية وتقنيات الإخفاء في رواية مجهولة نهر السين
- الكاتب اليوم لا يمكنه أن يعيش في عصر الحريم
- وهم النجاح الأدبي لدى الكتاب والموضة الرقمية
- التنمّر الأدبي
- بين الخوف والرغبة في الحياة في فيلم فيلم Love Me Tender 2019
- هل رواية- بيت الجاز- هي جولة في النفس البشرية المشتعلة؟
- رواية النفق منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع ...
- رسالة إلى حفيدتي يارا…
- حين تتحوّل الحكاية إلى لوحة في قصة جدتي ل -بيار فاضل-
- معادلة الميتا-كود والديجا فو (Déjà Vu) والإنسان كمنتَج خوارز ...
- هل الأسطورة والمعنى تمثل بناء النظام الرمزي للعالم؟
- هل تساوي قيمة الكاتب مكانَ نشره؟
- هل يمكن للمانغا أن تولد من رحم اللغة العربية؟
- الخوف من الحياة في شعرية المقاومة لدى إدريس سالم
- الهوية الكردية كخيط ناظم في رواية كريستال أفريقي
- الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط
- هل ما بين الكراهية والإعتراف عقدة نقص ؟


المزيد.....




- وزير الثقافة الباكستاني يشيد بالحضارة الإيرانية
- تحقيق يكشف: مليارديرات يسعون لتشكيل الرواية الأمريكية لصالح ...
- زيارة الألف مؤثر.. بين تسويق الرواية والهروب من الحقيقة
- إبادة بلا ضجيج.. اغتيال الأدباء والمفكرين في غزة
- -سماء بلا أرض- للتونسية اريج السحيري يتوج بالنجمة الذهبية لم ...
- جدة تشهد افتتاح الدورة الخامسة لمهرجان البحر الاحمر السينمائ ...
- الأونروا تطالب بترجمة التأييد الدولي والسياسي لها إلى دعم حق ...
- أفراد من عائلة أم كلثوم يشيدون بفيلم -الست- بعد عرض خاص بمصر ...
- شاهد.. ماذا يعني استحواذ نتفليكس على وارنر بروذرز أحد أشهر ا ...
- حين كانت طرابلس الفيحاء هواءَ القاهرة


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الحاجة الملحّة لإعادة اختراع التاريخ حين يصبح الحاضر خانقاً.