ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 22:59
المحور:
الادب والفن
يقدّم فيلم Love Me Tender تجربة تتعمّد منذ لحظاتها الأولى وضع المشاهد داخل الذهنية المضطربة لبطلتها سيكوندا؛ امرأة تعيش في عزلة خانقة، ليس فقط لأنها تعاني رهاب الخروج، بل لأنها تحتمي بحدود ضيقة نسجتها حول نفسها، حدود تشبه جدران شقتها المهملة التي تكاد تختنق بأشيائها وصمتها. تضعنا كلوديا رينيكي Klaudia Reynickeأمام شخصية مُحمّلة بقدر كبير من التوتر الداخلي، إلى درجة تجعل غرابة سلوكها ليست مجرد خيار إخراجي، بل انعكاساً لانقطاعها الطويل عن العالم. هذه العزلة لا تُقدم بصورة شاعرية أو رومانسية، بل تُعرض على حقيقتها: قاسية، خانقة، ومشوّهة للذات. وهنا تُبرِز المخرجة كلوديا رينيكي جرأتها في عدم تليين الصورة؛ إذ تسمح لنا بمشاهدة سيكوندا في أسوأ حالاتها، بل وفي لحظة انكسار أخلاقي تجعَل التعاطف معها شبه مستحيل.
لكن العزلة، كما نعرف في علم النفس، ليست حالة ثابتة، بل دائرة تلتهم صاحبها حتى تجبره على الانفجار أو الانفتاح. وفي لحظة ما، يتحوّل الفيلم من حالة ركود ثقيل إلى حركة غير متوقعة، حين تُدفع سيكوندا إلى الخروج من قوقعتها وحرفياً وترتدي بذلة قافز سخيفة تبدو كدرع أخير بين هشاشتها والعالم. هذه اللحظة، رغم غرابتها، تمثل نقطة ولادة جديدة. إنها ليست لحظة شجاعة صافية، بل لحظة اضطرار، وكأن الجسد سبق النفس في محاولة التحرر. ومن هنا يبدأ التحوّل الأكثر إثارة في الفيلم في السماح للآخرين بالتسلل إلى ذلك العالم الداخلي المتصلّب. الشخصيات التي تظهر في الثلث الأخير من الفيلم كالجار او المطالب بالديون لا تمثل مجرد إضافات درامية، بل تعمل كمرآة نفسية لسيكوندا، تذكّرها بأن العالم رغم عشوائيته لا يزال قادراًعلى احتواء الهشاشة.
وما يميّز هذا الجزء من الفيلم هو قدرته على الكشف عن طبقات شخصية سيكوندا دون أن يدّعي إصلاحها. لا يحاول الفيلم إصلاحها بالكامل، ولا يقدّم رحلة تعافٍ مثالية، بل يمنحها فقط فرصة للتماس مع الحياة، مع الآخر، ومع شيء يشبه الطمأنينة. وهذه الصدق هو ما يجعل النهاية مؤثرة إلى حد كبير؛ فهي ليست خاتمة سعيدة تماماً ، بل خاتمة ناضجة، تنتمي إلى الحياة أكثر مما تنتمي إلى الخيال.
قوة الفيلم نفسياً في عرضه للانهيار الإنساني ومحاولات الانبعاث. فالفيلم لا يخجل من قسوته، ولا يعتذر عن بطلة يصعب حبّها، لكنه يمنحها، ويمنحنا، فرصة نادرة لفهم كيف يمكن للعزلة أن تلتهم الذات، وكيف يمكن لتجربة صغيرة، أو شخص جديد، أن يعيد فتح نافذة في جدارٍ ظنناه محكماً. . لكنه دفعني للكتابة عن لحظة ما من حياة كل إنسان حيث تتعطل اللغة التي اعتاد استخدامها، وتتوقف قدرته على تفسير ما يحدث داخله، كأنّ النفس تُسحب إلى منطقة عميقة تستجيب للتفسيرات السهلة. هناك، في ذلك العمق المضطرب، تتداخل الأصوات القديمة بالمخاوف المستحدثة، يتصارع صوت يقول "ابقَ في مكانك، فالخطر في الخارج" مع آخر يهمس "تحرك، فجمودك يقتلك أكثر". وبين الصوتين يدور الإنسان في حلقة تبدو بلا نهاية، حلقة يختلط فيها الخوف بالرغبة، والرغبة بالإنهاك، والإنهاك بالأمل الصغير الذي يرفض أن يموت.
في هذه المقالة حاولت تتبّع هذا الصراع، لفهم العزلة حين تتنكر كطمأنينة، وللإصغاء إلى تلك القوة الهشة التي تنبض داخل كل فرد رغم كل شيء. هي رحلة في قلب الإنسان، في ما يخشاه وما يهرب منه، وفي ما يسعى إليه دون أن يعرف تماماً لماذا. فالفيلم نكأ هذا الجرح، والنور المختبئ تحته، وللأسئلة التي لا تتوقف عن ملاحقتنا مهما حاولنا إسكاتها. عندما نمارس عزلة ما على أنفسنا. ونضطر للخروج بعدها.
العزلة التي نخوضها في لحظات الخوف ليست تلك التي نختارها بوعي حين نبحث عن هدوء مؤقت أو استراحة من ازدحام الأيام. العزلة التي استكمل المقالة عنها مساحة رمادية تتكون ببطء، دون أن نعلن الدخول إليها، مساحة يدخلها الإنسان حين يشعر أن العالم أصبح أكبر من احتماله، وأن نفسه باتت أضيق من أن تتسع لارتباكاته.أو ربما استراحة بعيدة عن ضوضاء الحياة لا تشبه هنا عزلة سيكوندا التي أجبرت على العزلة منذ الطفولة وخافت الخارج الذي لم تكن تعرفه جيداً.
في البداية، تبدو العزلة رائعة خاصة في الطبيعة . إذ يمكن إغلاق الباب على كل شىء ، إطفاء الضوضاء، إيقاف سيل التوقعات التي يفرضها الآخرون. لكن ما لا ننتبه إليه أنّ العزلة ليست حالة جامدة، بل كيان ينمو ويتمدّد ويغيّر شكله. ما نلجأ إليه بحثًا عن راحة آمنة يتحول شيئًا فشيئًا إلى جدار، ثم إلى قيد، ثم إلى عالم كامل يبتلع قدرتنا على الحركة.
ولأن النفس كائن حساس للتكرار، يبدأ الذهن بإعادة تشكيل القناعة "العالم مزعج ، البقاء وحدي آمن وجميل". كل يوم يمرّ يعمّق هذا الاعتقاد، حتى يصبح الانسحاب عادة، ثم قاعدة حياتية. ومن دون أن نشعر، يتحول الخوف من الخارج إلى خوف من الخروج نفسه: يصبح الباب ثقيلًا، والشارع صاخباً، والوجوه تهديداً، والمحادثة امتحاناً. هكذا لا تعود العزلة مجرد ملجأ، بل تصبح نسخة جديدة من الذات وهي نسخة تحب الصمت أكثر ممّا تتحمل الكلام، وتخشى الاقتراب أكثر ممّا تحتمل الفقد، وتتعامل مع العالم كما لو كان مرآة تكشف نقاط ضعفها بدل أن تعكس جمالها.
لكن الخوف من الخارج في الفيلم يشكل يقظة إنسانية ، فالخوف مهما كان ثقيلًا على الروح، ليس خصماً كما نعتقد. إنه لغة داخلية يخبرنا بها الجسد عن حدودنا، وعن جروحنا القديمة التي لم تُعالَج كما ينبغي، وعن الأماكن التي لم تُمنح فرصة لتُشفى. يعامل الكثيرون الخوف وكأنه عيب، أو كأن صاحبه ضعيف. لكن الحقيقة أن الخوف أقدم من المنطق، وأنه جزء من الذاكرة الجسدية للإنسان. قد يخاف المرء من مواجهة الآخرين لأن طفولته امتلأت بالنقد أو المنع كما هي الحال مع سيكوندا. وقد يخاف من العلاقات لأن أول حب أصابه بكسر لم يفهمهكما هي حال سيكوندا . وقد يخاف من النجاح لأن بداخله صوتاً يشكك في قيمته. لكل خوف جذور، حتى لو بدت خفية، وحتى لو بدت سخيفة عند سماعها من الخارج. المهم ليس “ما نخافه”، بل كيف نتعامل مع هذا الخوف. الهرب منه يضخمه. تجاهله يجعله يهمس في اللحظات التي نحتاج فيها إلى الثبات. لكن الاعتراف به—مجرد الاعتراف—هو بداية تحويله من قوة مشلّة إلى قوة إرشادية.فهل الخوف أحياناً فيه حكمة لأنه يرسم لنا الخريطة التي تحتاج إلى عبور، لا الخريطة التي يجب أن نتجنبها.
رغم كل ما يثقله الإنسان على نفسه من العزلة ، الخوف، الذكريات، تبقى داخله رغبة في الحياة لا يقدر على محوها. قد تخفت، قد تنكمش، قد تختبئ خلف صمت طويل، لكنها لا تختفي. هذه الرغبة ليست دائماً رغبة في السعادة؛ أحياناً تكون رغبة في الحركة فقط، في الإحساس أننا ما زلنا قادرين على فعل شيء جديد ولو كان بسيطًا. والرغبة في الحياة تظهر في أصغر الأشياء: رغبتنا في ترتيب الغرفة بعد أسبوع من الفوضى، رغبتنا في فتح النافذة، رغبتنا في سماع أغنية كانت منسية، رغبتنا في رؤية الشمس. لا توجد خطوة صغيرة عديمة القيمة في رحلة التعافي، لأن كل خطوة تمنح الجهاز النفسي معلومة جديدة تقول" ما زال الداخل حياً" .ولأن النفس كائن مرن بشكل مذهل، يمكن لشرارة صغيرة أن تقلب أعمق ظلام مررنا به. أحياناً لا نحتاج لمعجزة، بل نحتاج لتلك الحركة الضئيلة التي نشعر بها في صدورنا: رغبة غير معلنة في فتح باب جديد.
لكن عندما يقع الإنسان في القلق أو الاكتئاب أو الرهاب، يظن أن حياته انتهت. لكن المرض النفسي ليس نهاية الطريق؛ في كثير من الأحيان يكون بداية الطريق الحقيقي نحو فهم الذات. فهل الاكتئاب يضعك أمام السؤال الأهم وهو ما الذي فقدته طوال حياتي ولم أسمح لنفسي بالاعتراف به؟
الرهاب كما هو عند سيكوندا يخبرك بأن هناك حدثًا ما، أثراً ما، ما زال يصرّ على أن يُرى. كل اضطراب نفسي هو رسالة مُقنّعة، ولو كانت قاسية. إنه وضع النفس أمام مرآتها بلا زخارف، بلا تحسينات، بلا تبريرات. إنه يعيد الإنسان إلى نقطة البداية بتساؤلات من أنا؟ كيف وصلت لهذا؟ ما الذي حاولتُ إخفاءه؟ ولماذا لا أقدر على تجاهله بعد الآن؟
المرض في نفس سيكوندا يحفر في أماكن لم يجرؤ العقل الواعي على المساس بها من قبل. لكنه لا يحفر من أجل إيلامها فقط؛ بل من أجل إخراج الجرح الذي نتظاهر بأنه غير موجود.ولذلك، كثيرون لا يتغيّرون إلا بعد تجربة المرض النفسي. إنه يعرّي الشخص من الأقنعة، ويمنحه مساحة لبناء حياته على أساس أصدق لو كان هذا البناء بطيئاً ومؤلماً.
لكن الفيلم يخبرنا في النهاية أنه مهما حاول الإنسان الانسحاب من الآخرين، يبقى حضورهم جزءاً لا يمكن فصله من عملية التشكل النفسي. قد يكون الآخر صديقاً، حبيباً، شخصاً عابراً، أو حتى غريباً تحدث معه لدقائق. لكن أثره قد يكون أكبر مما نتوقع. فالعلاقة الإنسانية تعمل كـ مرآة مزدوجة تعكس ما نحبّه في أنفسنا، وما نخافه، وما نخفِيه، وما نحتاجه دون أن نعبّر عنه.
الإنسان الذي يقول لك كلمة طيبة قد يفتح فيك باباً كنت تعتقد أنه مغلق للأبد. والإنسان الذي يجرحك يكشف عن منطقة داخلية لم تكن تعرف بوجودها. كل علاقة فيه وحتى المؤلمة منها ستضيف طبقة جديدة إلى فهمنا لذاتنا.والمثير في الأمر أن الآخرين لا يحتاجون إلى مجهود خارق ليغيّروا شيئًا فينا. يكفي أن يدخل أحدهم حياتك في اللحظة المناسبة، بكلمة مناسبة، ليهزّ ما كنت تعتبره ثابتاً. وعلى الرغم من الخوف من التعلق، يبقى الآخرون جزءًا من علاجنا مهما حاولنا تجنبهم. فالعزلة قد تعلّمنا الكثير عن أنفسنا، لكنها لا تتيح لنا قياس أنفسنا إلا من منظور واحد. أما العلاقات، فتمنحنا منظوراً ثانياً، وربما ثالثًا ورابعاً، يكشف عن أجزاء لم نرها وحدنا.
كثيرون ينتظرون لحظة شفاء مفاجئة، كأن ضوءاً سينزل من السماء ويغير كل شيء بين ليلة وضحاها. لكن الشفاء، مثل النمو، عملية هادئة للغاية، لا نلاحظها إلا عندما ننظر وراءنا. وهذا ما أراده والد سيكوندا بعد أن شعر بفعل حجز ابنته في البيت بعيدا عن الناس وبعزلة لحمايتها لكن الشفاء يبدأ حين يعترف الإنسان بضعفه دون خجل. لكن عندما ضربته ابنته داخل المصحة النفسية أدرك أن لا أحد يشفى تماماً. وهذا ليس أمراً سلبيًاً نحن لا نُبنى لنكون خالين من الألم؛ نحن نُبنى لنكون قادرين على السير رغم وجوده. الشفاء الحقيقي هو أن تتعلم المشي بالحمل الذي نحمله، لا أن تتخلص منه. أن تعرف أين تؤلمك الأشياء دون أن تدع هذا الألم يحدد مصيرك.
وكل خطوة، مهما بدت صغيرة، تعيد تشكيل الداخل بطريقة لا يمكن قياسها. كل صباح نستيقظ فيه بعد ليلة ثقيلة هو انتصار. كل محاولة للخروج من الدائرة لو فشلنا هي نجاح. وكل مرة نقول فيها" سأحاول من جديد" نكون قد أنقذنا أنفسنا من السقوط الكامل. لكن السؤال الأقوى الذي تخرج منه بعد انتهاء الفيلم هل نعود كما كنا؟ وهل خطوة واحدة… أحيانًا تغيّر حياة بأكملها.؟
بيروت-لبنان الأحد في 16 تشرين الثاني 2025 الساعة التاسعة مساء
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟