أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.














المزيد.....

الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 15:57
المحور: الادب والفن
    


ضحى عبدالرؤوف المل

يتلاعب كايزر سوزي وهوالوجه المتعدد للشر بالزمن الذي يتسابق معه لتحقيق غاياته ، وبالحقيقة، والمُتلقي، كما فعل مخرج فيلم "The Usual Suspects" (1995)، برايان سينغر وكاتب السيناريو كريستوفر ماكويري. هذا الفيلم، الذي يُمكن أن يُقرأ بطرق متعددة، كفيلم جريمة وتشويق، أو دراما بوليسية، أو حتى أطروحة فلسفية عن الإدراك والشر والمعرفة، يقدم لنا نموذجاً فريداً لفن سردي يتقاطع فيه الشكل مع المضمون، ليصنع خدعة بصرية-عقلية تقوّض يقين المُشاهد قبل أن تُعيد بناءه على أساس من الشك الدائم. فهل من سقوط للواقع من يدي رواي غير موثوق فيه ؟
في قلب الفيلم نجد شخصية فيربال كينت (Kevin Spacey)، الراوي الذي لا نثق به، ليس فقط لأنه مجرم محترف، بل لأن كل ما نراه ونسمعه خلال الفيلم هو روايته للأحداث، وهي رواية يكتشف المحقق كوجان في النهاية (كما نكتشف نحن) أنها كانت مصنوعة بالكامل من عناصر مرئية في غرفة التحقيق.هذا البناء السردي يُثير سؤالاً فلسفياً مركزياً وهو ما هي الحقيقة؟ وهل يمكن أن تكون رؤيتنا للعالم، كلياً، مجرد وهم محبوك بإتقان؟
إن ما يفعله سينغر وماكويري لا يقتصر على تحريف الحبكة، بل يقلب العلاقة بين الراوي والمتلقي، فبدلاً من أن يقود الراوي المُشاهد نحو الفهم، يضلله عمداً، ويجعله يُشارك في جريمة الإدراك المشوّه. حتى أكثر المشاهد التي تضلل المتلقي وتجعله يلهث لرؤية وجه كايزر وسوزي هومشهدعائلته تقتل أمامه. كما أن الفيلم يستعير تقنية الفلاشباك، لكنه يستخدمها ضد منطق ما تراه لا يُوثق، بل يُشوّه. وما تُدركه، لا يُحرّرك، بل يُضلّلك. السينما هنا تُصبح مرآة متكسرة ، تعكس صورة الذات لا كما هي، بل كما نُريد، أو كما يُريد لها آخر، ربما أكثر دهاءً، أن تكون. خاصة عندما يكون الوهم أكثر إقناعاً من الحقيقة.


في هذا، يقترب الفيلم من تراث أدبي وفلسفي عميق، من غوغول إلى بودلير، ومن هيغل إلى نيتشه، في اعتباره أن الحقيقة ليست سوى قناعٍ يُلبَس، لا جوهرٍ يُكشَف.صورة شيطانية للسلطة والشر المتخفي بمن هو كايزر سوزي " أعظم خدعة قام بها الشيطان هي إقناع العالم أنه ليس موجوداً " كايزر سوزي، الشخصية الغامضة التي لا نراها أبداً. أو ربما نراها طيلة الوقت دون أن نعرف شخصيته الحقيقية ، هو أكثر من مجرد زعيم عصابة. هو تمثيل ميتافيزيقي للشر "الشيطان أذكى من أن يعلن وجوده، بل يقنعك بأنه غير موجود أصلاً."بهذا الاقتباس من بودلير، يُحدد الفيلم فلسفته الوجودية. الشر في "The Usual Suspects" ليس مواجهة مباشرة، بل لعبة أقنعة، ومراوغة، وتنكّر. إنه يختبئ في الأضعف، في الهامشي، في المَقعد والثرثار عديم الخطر . أو هكذا يبدو. سوزي، هنا، هو الإله المعكوس، خالق عالم من الأكاذيب، يُعيد تشكيل الواقع بلسان أحد عبيده. إننا لا نعرفه، ولا نراه، لكنه يحكم كل شيء، تماماً كالقوة الغيبية في فلسفات اللاهوت، أو كـ"اليد الخفية" في نظريات السوق، أو كـ"السلطة" كما وصفها فوكوالتي لا تَظهر، لكنها تنظّم كل شيء من الخلف.
إدراك متأخر وهزيمة عقلانية يشعر بها المشاهد الواعي في لحظة الإدراك الأخيرة ، حين يسقط كوب القهوة من يد المحقق كوجان، ويبدأ في إعادة تجميع قطع اللغز التي كانت أمامه طوال الوقت .إذ لا نشهد فقط انهيار قناع كينت، بل انهيارنا نحن كمشاهدين. لقد كنا، طيلة الوقت، ضحايا للقصة التي صدّقناها، لأننا – ببساطة – أردنا أن نُصدّق.

إن "The Usual Suspects" لا يهزأ فقط من المحقق، بل يسخر من ثقتنا كبشر في النظام، في المنطق، في سردية واحدة مرتبة. تماماً كما كتب غوغول "كل شيء خداع، كل شيء حلم، لا شيء كما يبدو عليه." وهنا يكمن العمق الثقافي للفيلم هو يضع المشاهد داخل المعادلة، لا كمُراقب، بل كمُشارك في وهم جماعي، شبيه بما نعيشه في السياسة، الإعلام، الدين، وحتى في مفاهيم الهوية الشخصية. من الحبكة إلى البنية نحن في حلزونية تعيدنا دائما إلى نقطة البداية إذ لا يُمكن فهم هذا الفيلم فقط من خلال "ما حدث" بل من كيف حدث. التركيبة السردية هي القفز بين الماضي والحاضر، والتلاعب بالمونتاج، والانحراف التدريجي عن الثقة – لا تخدم القصة بقدر ما تصبح هي القصة نفسها.


"The Usual Suspects" ليس مجرد فيلم تشويق ذكي، بل أداة فلسفية حادة تقطع أوهامنا اليومية عن المعرفة، والثقة، والسلطة، والواقع. إنه درس في السرد الماكر، وفي هشاشة الإدراك الإنساني، وفي قدرة السينما على أن تُفكك ما نعتقد أنه بديهي.وفي عالم اليوم ، المليء بالأخبار المزيفة، والسرديات المصنّعة، والخدع البصرية والسياسية الماكرة، يظل هذا الفيلم أكثر من مجرد عمل سينمائي ناجح؛ إنه تحذير دائم من أن كايزر سوزي يمكن أن يكون أي شخص، في أي مكان، وربما في داخل كل منا.ويبقي على السؤال مدى الحياة هل نثق بما نراه، أم بما نُحب أن نصدّقه؟ربما، كما قال "الثرثار"، لا يهم... لأن الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.
لبنان- طرابلس في 13 آب 2025 الساعة 12 و 30 دقيقة ظهرا



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التطور القادم من التخابر
- السرد الرمزي العربي في رواية- الولد الذي حمل الجبل فوق ظهره ...
- هل التحليل الجيومتري الديناميكي في لوحة جبران طرزي يعزز الإي ...
- مأزق الكاتبة في مجتمع متصلب
- هل يُمكن لشعب أن يرث نبياً دون أن يرث رؤيته؟
- الكوميديا السوداء في مواجهة القمع الأنثوي في عصر تيك توك ويو ...
- كم يمكن أن نُفرّط في حرياتنا مقابل الشعور بالأمان
- ما بين قوانين النقد الصارمة و- لعبة العفريتة-
- هل من رسائل مخفية يمكن استنتاجها في رواية أوراق شمعون المصري ...
- سردية اعترافية لراوٍ عاشق ومقاوم في رواية
- عبء الماضي ومهمة المستقبل في قصة الشامة ل ميخائيل شولوخوف
- -حياة غير مكتملة-: حين يُبعث الغفران وسط رماد الحزن
- بارتلبي ورفض عالم هيرمان ميلفل الحديث والكئيب
- تيار الوعي بين الحب والصداقة والعالم الهش في رواية قلب ضعيف ...
- صوفيا رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب
- سردية القهر والانتحار في هلوسات ترشيش للروائي حسونة المصباحي
- بنية القلب الواعي في هندسة العلاقة الإنسانية
- الطيار الذي أسقطه الزمن ق في رواية -لا لون هناك-لمحسن الغمري
- نسمات أيلول- كوميديا اجتماعية تسلط الضوء على تقلبات الحياة ا ...
- رواية -عزازيل و الانتقال بين العوالم المادية والروحية


المزيد.....




- مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
- -وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله ...
- الحنين والهوية.. لماذا يعود الفيلم السعودي إلى الماضي؟
- -المتمرد- يطوي آخر صفحاته.. رحيل الكاتب صنع الله إبراهيم
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن عمر 88 عاما
- وزارة الثقافة المصرية تعلن وفاة -أحد أعمدة السرد العربي المع ...
- وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما
- من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله ...
- العراق يدرج موقعين في بغداد ضمن لائحة التراث العربي


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.