ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 15:02
المحور:
الادب والفن
الطيار الذي أسقطه الزمن قبل أن تسقط طائراته في رواية "لا لون هناك"
في زمنٍ تتداخل فيه الأحلام المهزومة مع أنقاض الطبقة الوسطى، وتنهار فيه الثوابت تحت وطأة التغيرات السياسية والاقتصادية، تبرز شخصية "كمال بك" من بين السطور في رواية لا لون هناك للروائي المصري محسن الغمري، كرجلٍ يصرّ على التماسك بينما يتفتّت داخله ببطء.
تبرز المهارة السردية والنفسية اللافتة في الرواية، التي لا تسرد حكاية طيار متقاعد، بل تُعيد تشكيل مفهوم البطولة العادية، حيث لا مدافع ولا معارك، بل مقاومة صامتة تجري في عمق النفس. كما أن كمال ليس مجرد شخصية، بل هو طبقة اجتماعية كاملة، ورمز لجيلٍ كان ذات يوم في قلب الدولة، ثم وجد نفسه على هامشها.
هو الطيار الذي خدم بلاده، رمز للانضباط والدقة، لكنه الآن يسير في بيته كأنه يمشي داخل حطام طائرته الخاصة: غرفة باردة، مرآة مهملة، وعطرٌ قديم يرافقه . فقوة الرواية تكمن في أنها لا تضخّم بطلها، بل تكشف هشاشته بعمق إنساني؛ كمال بك لا يبكي علنًا، لكنه يختبئ خلف المرايا، يخشى أن يراه أحد وهو يحنّ أو يُكسر. في حفلة زفاف ابنته، حيث يُفترض أن يكون الفرح سائدًا، يتراجع كمال خطوة إلى الوراء ليبكي خفية. هي لحظة ذروة شعورية ترمز إلى كل ما يشعر به الرجل الشرقي حين يفقد سلطته العاطفية، أو حين يدرك أن الزمن لم يعد له.
فماذا عن توفيق الأحمدي وعلاقته بتمارا، والاغتراب، والزواج التقليدي، والعلاقة الزوجية، والطلاق الصامت، أو الزواج المشلول الذي تقوم به حياة اجتماعية ظاهرها الاستقرار وباطنها الانفصال؟
كما أن الأنوثة في الرواية ليست مجرد زينة، بل محدّد رئيسي في بناء كمال الداخلي. "رضا" تقتحم عالمه دون إذن، فظة، صاخبة، تمثل الفوضى والزمن الجديد الذي لا يحترم الخصوصيات. هي المرأة التي تُربكه، تُزعجه، وتذكره بأن زمناً ما قد انتهى. في المقابل، تظهر "ندى" كنسمة حنين ريفية، قادمة من ماضيه القريب أو من ذكرياته عن الأنوثة الكلاسيكية، طيبة، متحفظة، تمنحه شعورًا بالأمان، لكنها في ذات الوقت تُهدده بانكشاف داخلي لا يحتمله. هو يريدها، لكنه يخاف أن تراه في لحظات هشاشته. لكن، ماذا عن الحنين كـ"بطل خفي"؟ إذ ليس كمال بك وحده هو البطل في هذا العمل؛ البطل الحقيقي هو الزمن المفقود، أو الحنين إليه. فمحسن الغمري يصوّر الحنين لا كعاطفة رومانسية، بل كحالة وجودية، كأن الماضي كان وطنًا أكثر اتساعًا من الحاضر.
كل شيء في الرواية يصرخ: "لقد كنا هنا، وكان لنا ذوق وهوية وأناقة". من ملابس "التوكسيدو" التي ما زالت تناسب جسده رغم مرور السنوات، إلى النظرة المتحفّظة إلى الأجيال الجديدة، إلى النقاشات السياسية العقيمة بين الأصدقاء، التي تنتهي دائمًا بمرارة لا نتيجة. فهل الرواية تحمل المجتمع على أكتافها؟ فالرواية لا تكتفي بتقديم شخصية نفسية معقدة، بل تطرح أسئلة سياسية واجتماعية من تحت الجلد. كما يتحدث الغمري عن ثورة أطاحت بدكتاتور، لكنها أفرزت فوضى اقتصادية التهمت الطبقة الوسطى. ويناقش كيف تحوّل الزواج من فرحة إلى عبء مالي، وكيف أصبح الآباء قلقين أكثر من أبنائهم، وهم يرسلونهم إلى مستقبل غير مضمون.
بلغة دقيقة، يصوّر الروائي المجتمع كعائلة كبيرة مفككة، لا يجمعها سوى الحنين، ولا تفرقها سوى الحسابات الجديدة. فهل هي مقاومة ناعمة ضد السقوط في اللغة؟ أم أن أسلوب السرد في رواية لا لون هناك بطيء عن عمد، كأنه يسير على إيقاع رجل يفضل القهوة على نار هادئة؟
واللغة شاعرية دون أن تقع في الابتذال، مليئة بالصور المركبة مثل: "أرسم ظل روحي فوق روح رجلٍ آخر"، هذا الأسلوب لا يُظهر فقط الحزن، بل يُقدّسه. يجعل من الوحدة كيانًا حيًا، ومن الحنين طقسًا يوميًا. فكمال بك لا يثور، بل يحنّ. لا يصرخ، بل يصمت بحجم الخسارة. فهل يصير الماضي وطنًا عندما نكبر؟
الرواية ليست رثاءً لزمنٍ مضى، بل توثيق مؤلم لبطولةٍ صامتة. هي بطولة رجل رفض أن يُبتلع، فأقام في داخله متحفًا لذاكرته، وارتدى التوكسيدو القديم كأنما يرتدي درعه الأخير. إنه صوت جيلٍ خسر معاركه دون أن يدخل الحرب، فقط لأنه استيقظ فجأة ووجد أن الزمن لم يعد زمنه. فكمال بك هو نحن... حين ندرك أن الحياة تمضي، وأن أكثر ما نملكه هو قدرتنا على أن نُحب بصمت، ونشتاق دون أن ننهار.
فهل تحوّل جيل بأكمله من قمة الطموح والتماسك إلى هاوية القلق والتفكك؟ وهل يطرح الغمري في هذه الرواية مشكلات كثيرة أبرزها سقوط الطبقة الوسطى بعد الثورة، ومعضلة الزواج وتكاليفه، والطلاق كأزمة مجتمعية متفاقمة، وفشل المنظومة الأسرية الحديثة في ظل القوانين الجديدة؟ وهل كل هذا ضمن لغة تجمع بين الرصانة الأدبية واللهجة المحكية لتكسب الرواية حياة ودفئًا؟ فهل من تأرجح بين الفكاهة والتراجيديا؟ وهل المجتمع يُحمّل المسنين وصمة العجز واللاجدوى؟
رواية الغمري تمزج بين الواقعية النفسية والتأمل الفلسفي، في صورة اعترافات داخلية لرجل بلغ التقاعد، يتأمل عالمه الخارجي وتاريخه المهني وعلاقته بأسرته ومجتمعه، في محاولة لفهم مأزقه الوجودي الجديد. فالديالكتيك الداخلي بين الرغبة في الانعزال والحنين للتواصل، وبين التصالح مع السن والتمرد عليه، تُظهر ثنائية الحياة/الموت كصراع يتجسد في الحوار مع الذات، والمرآة، والساعة، والفراغ.
فهل يعكس الروائي الحنين إلى "الزمن الأجمل" كما يراه البطل، حيث كان المجتمع أكثر احترامًا للذات والآخر، في مقابل الحاضر المليء بالتصنع والانحدار القيمي؟
أسلوب يتسم بالصدق الموجع والواقعية النابضة، وكأنك ترسم بالكلمات ملامح بشرٍ من لحم ودم، كلٌّ منهم يحمل عالمًا من الحكايا والندوب. فالرواية تتراوح بين السرد السلس والحوار الذكي، المتقاطع بين مستويين: الحنين القديم والحياة الحاضرة.
كمال وندى ليسا نقيضين، بل مرآتان لاحتياجات بشرية عميقة: الحاجة للاعتراف، للحنان، للونٍ بشري ينقذ اليوم من رتابته الثقيلة. فهل زمن الاسترجاع حاضر بقوة، خاصة في قصة توفيق، وهو ما يمنح الرواية طابعًا تأمليًا؟
في النهاية يمكنني القول في رواية لا لون هناك، لا يسعى محسن الغمري إلى سرد قصة تقليدية، بل يقدّم تجربة سردية تقوم على التبئير النفسي، حيث تصبح الذاكرة بطلاً موازياً، والحياة اليومية مجالًا لتفكيك المفاهيم الكبرى حول الوطن، والانتماء، والذات. الرواية ليست عن "كمال بك" فحسب، بل عن كل من يشعر أن الزمن تجاوزهم، وتركهم يواجهون ذواتهم في فراغٍ رمادي لا لون له.
اللافت في هذه الرواية هو التواطؤ المقصود بين اللغة والحالة الشعورية. فالعنوان ذاته – لا لون هناك – لا يُستخدم فقط لوصف مشهدٍ باهت أو مساحة رمادية، بل هو توصيف لزمن يفتقر إلى الوضوح، إلى الأخلاق، إلى الانتماء القيمي. وكأن الرواية تعلن منذ لحظتها الأولى أن ما سيأتي ليس حكاية ذات بدايات ونهايات، بل حالة إنسانية مشوشة، تقف على تخوم الانهيار الداخلي.
الغمري يكتب بعيون من عاش الزمن الجميل ثم صحا على زمنٍ مُشوَّه. لا يستدعي الماضي من باب الحنين فقط، بل ليقارن بين نسقين من العيش: الأول كان منضبطًا، قائمًا على المعايير، والثاني فوضويّ، سريع، متحلل من المعنى. وفي هذا الإطار، يبدو كمال بك كمن يقف على حافة جسرٍ انهار نصفه، يحاول أن يوازن نفسه على ما تبقى من صلابة الماضي، بينما الحاضر يتداعى من تحته.
الرواية أيضًا تطرح إشكالية الانتماء الأسري، ليس عبر الخلافات المباشرة، بل عبر التآكل الصامت للعلاقات. أفراد العائلة لا يتشاجرون بقدر ما ينفصلون روحيًا. الابنة تُكمل حياتها، والزوجة تصبح شبحًا منزليًا، والأب يتحوّل إلى قطعة أثاث عتيقة. ومن خلال هذه التفاصيل، يفتح الكاتب نافذة على أزمة الهوية داخل البيت، بوصفه نموذجًا مصغرًا للمجتمع.
ما يثير الإعجاب في معالجة الغمري هو غياب الحلول الجاهزة. لا يقدّم بطلًا يتغيّر، ولا نهاية كاثارسيسية (تطهيرية)، بل يقدّم مأزقًا وجوديًا خالصًا. وبهذا، تقترب الرواية من خط التأملات الفلسفية في الأدب، كما نراه لدى كتّاب مثل ألبير كامو أو باتريك موديانو، حيث تشكل "اللاجدوى" أساسًا للرؤية لا موضعًا للشفاء.
جانب آخر مهم في الرواية هو استخدام الأشياء اليومية كرموز سردية. فالمرآة، والساعة، ورائحة العطر، كلها أدوات تستحضر السياق الزمني المفقود، وتصبح عناصر فاعلة في تشكيل الفضاء النفسي للبطل. هذه الأشياء ليست مجرد خلفية، بل شركاء في بناء السرد، وتذكير دائم بأن الزمن ليس مجرد تقويم، بل حالة شعورية.
وأخيرًا، ما يميز لا لون هناك هو أنها رواية ما بعد الصدمة؛ صدمة التغيير، صدمة فقدان الأدوار، وصدمة التقدم في العمر. إنها ليست فقط رواية عن شخص، بل عن طبقة، وعن بلد، وربما عن جيل بأكمله كان يحلم بنهضة، فاستفاق على لا يقين. هذه الرواية لا تُقرأ بحثًا عن متعة، بل عن معنى؛ ولا تُغلق بارتياح، بل تترك سؤالًا مفتوحًا يتردد في الذهن طويلًا: هل فقدنا لوننا أم أن الضوء نفسه تغيّر؟
بيروت 3 حزيران الساعة الثانية عشرة ظهرا 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟