ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8302 - 2025 / 4 / 4 - 02:53
المحور:
الادب والفن
لامس المسلسل الدرامي "البطل" أعماق الروح، حيث ألقى المؤلف والمخرج الليث حجو الضوء على قضايا إنسانية عميقة تتعلق بالهوية، الشجاعة، والوفاء بالمبادئ في زمن مليء بالتحديات. يجسد المسلسل رحلة شخصية محورية تُناضل للحفاظ على قيمها في عالم غارق في العنف والصراع. في وسط هذا الدمار، يبرز البطل كرمز للإرادة الإنسانية التي لا تنكسر، رغم العواصف التي تجتاحه. مع كل حلقة، يأخذنا المسلسل في رحلة نفسية مع البطل الذي يواجه تحديات الحياة، يقارع قسوة الواقع، ويظل ثابتًا على مبادئه. ومع قدرة تمثيلية جديرة بالتقدير، تحاصرك أركان هذه الدراما تمثيليًا وموسيقيًا وبصريًا وفلسفيًا وشعبيًا، مما ساهم في نجاح المسلسل الذي عصف بنا في رمضان 2025. فهل الحرب السورية في نفوس أبنائها هي الأصعب؟
تدور أحداث مسلسل "البطل" حول شخصية محورية تُدعى يوسف، الذي يبدو للوهلة الأولى أنه مجرد معلم بسيط في مدرسة ريفية، ولكن سرعان ما نكتشف أن هذا المعلم هو شخص ذو عمق فكري وأخلاقي، يسعى جاهدًا للحفاظ على قيم العدالة والمساواة في ظل حرب عاتية تهدد كل شيء حوله. يعكس يوسف صراعًا داخليًا شديدًا، حيث يعيش في عالم مهدد بالدمار ولا يجد أمامه سوى خيارين: إما أن يتخلى عن مبادئه في سبيل البقاء، أو أن يتمسك بها رغم كل شيء، حتى ولو أدى ذلك إلى فناءه. فيقول في رسائل موجهة لحفيده: "عزيزي يوسف، تضيق النهايات وصولًا إلى ما يشبه لحظة الاختناق، وبصورة ما يتدلى حبل خلاص فنظن أننا قد نجونا، ولكن سرعان ما ينقطع فنهوى نحو القاع مرة أخرى. شعور مؤلم، ما إن تتذوق طعم الخلاص حتى تكتشف أنك كنت تحلم، وأنك تهوي." فهل من زمن يجمع بين الجد والابن والحفيد؟ أم أن المخرج والمؤلف الليث حجو أدخلنا في دائرة الحرب السورية الداخلية في أنفس الشخصيات؟
على مدار الحلقات، نرى المدير أو المعلم يوسف يكتب رسائل، بعضها لحفيده الذي يعيش في عالم غير موجود بعد، وبعضها الآخر لنفسه ولزوجته وأولاده وحتى لفرج قبل أن يغادرهم، محاولًا فهم ما يحدث من حوله. هذه الرسائل تُعتبر بمثابة نافذة نطل من خلالها على أعماق شخصية "البطل"، ونعرف مدى الصراع النفسي الذي يعيشه في محاولته للحفاظ على إنسانيته وسط العنف والموت المحيط به. كما نراه يتساءل في رسائله: "هل يمكن للإنسان أن يبقى على قيد الحياة بقيمه في وسط هذه الفوضى؟" هذا التساؤل يعكس بطبيعته عمق الشخصية والصراع الدائم في محاولة الحفاظ على الذات في عالم يرفض الرحمة. فهل فرج هو البطل الرديف، أو الذي يحاول أن يكون بطلًا فتقتله أهدافه وصراعاته أو بالأحرى استخفاف محيطه به؟
"يوسف" هو بطل المسلسل وأيقونة المقاومة الإنسانية في وجه الظلم. البطل ليس قوياً جسديًا بل قويًا بالصمود النفسي كرب أسرة ومعلم الضيعة ومحب لمن حوله ، بل إن قوته الحقيقية تكمن في قدرته على الصمود النفسي. فقد وضعه العالم في مواجهة لا يمكن الفرار منها؛ فهو يعيش في زمان الحرب التي لا تترك مكانًا للضعف أو الاستسلام. لكن القوة التي يمتلكها يوسف ليست مجرد قوة خارقة، بل هي قوة معنوية: إنه يقاوم تيارات الفساد والإحباط التي تدفعه نحو التراجع عن قيمه. نراه يحاول أن يظل على تواصل مع هويته الإنسانية، حيث يواجه مواقف قاسية تشكك في إمكانية البقاء على المبدأ في عالم مليء بالانكسار. إن صراع يوسف لا يقتصر على محاربة الأعداء أو تقلبات الحرب، بل يشمل أيضًا معركة داخلية مع ذاته. فهو لا يعرف أي طريق يجب أن يسلكه في هذا العالم المليء بالدمار؛ أهو الطريق الذي يدافع فيه عن القيم، أم يسلك طريق النجاة الذي قد يتطلب منه التخلي عن مبادئه؟ فهل ابنته مريم تشبهه، أم أن عدم تمسكها بأهدافها وسفرها مع خطيبها أسفر عن تأخير أدى إلى موته بعد طلب الدولة الاحتياطي من الجنود للقتال؟ وهل فرج أراد أن يكون فردًا من أسرة لم يولد فيها، وهو الذي ولد في السجن من أم قتلت أبيه؟
عبر رسائله، يعبر يوسف عن حالة من الارتباك والتشوش الداخلي، يتأمل في معاني الحياة والموت، وفي كيفية إحياء أمل جديد رغم كل الخراب. يسأل نفسه: "هل يمكن للإنسان أن يبقى على قيد الحياة بقيمه في وسط هذه الفوضى؟" هذا التساؤل يعكس عمق الصراع الذي يعانيه يوسف. ويطرح المسلسل عبر هذه الحوارات العميقة تساؤلات فلسفية حول حقيقة الإنسان في زمن الأزمات: هل من الممكن أن يتخلى الإنسان عن مبادئه ليعيش، أم أنه يمكنه العيش بقيمه في عالم يستهين بالقيم؟ وكيف يستطيع الفرد الحفاظ على إنسانيته في عالم لا يعترف إلا بالقوة؟ كل هذه الأسئلة تجد إجاباتها من خلال شخصيات المسلسل وصراعاتها الداخلية.
تتمثل إحدى الشخصيات المميزة في "البطل" في مريم، التي تمثل الحضور الأنثوي القوي في القصة، وهي ابنته. ومن ثم الزوجة التي تشاركه الصعاب وتكون السند العاطفي في وقت لا يبدو فيه أحد حوله. فالزوجة ليست مجرد شخصية مساندة، بل هي تجسد الصراع الداخلي الذي يعانيه يوسف، حيث يطلب منها اتباع ركب الفساد والتغيرات التي تحدث نتيجة الحرب التي أنهكت الإنسان. هي تعيش بدورها في حالة من القلق والخوف على أسرتها، ولكنها تسعى دائمًا للثبات على القيم الإنسانية. في أحد مشاهد المسلسل، يتحدث قائلا: "لن تستوي الحياة إذا لم نشعر أننا معنيون بآلام الآخرين، وما قيمة الحياة إذا لم تستوي؟" وهو تساؤل فلسفي يعكس كيف يمكن للإنسان أن يجد معنى لوجوده في زمن الحرب والمأساة. ثم يقول: "سيكون هناك أيام تشعر فيها أن انقطاع الحبل الشوكي أرحم بكثير من أن تقطع حبل السرة. إن الألم الجسدي قد يكون محمولًا أمام ألم الروح. عزيزي يوسف، ستضعك الحياة أمام خيارات لا تريد منها شيئًا أو تريدها كلها، فتعجز. والعجز هو أن لا يخرج الصوت من فمك إلا بطلوع روحك معه." فالإحساس بالألم الداخلي هو أصعب ما يعانيه الفرد في ظل كل الانكسارات التي تحدث فجأة. فهل شعر فرج بكل هذا وهو يتخبط من الفقر ونظرة الناس له واحتقارهم له لأنه وُلد في السجن؟
أما مروان، فهو أحد الأبطال الجدد في حياة يوسف، خطيب ابنته، وهو الشاب الذي يعكس رغبة في الهروب أو الخروج من وسط الخراب في البلد إلى خارجها. يمثل مروان جيلًا جديدًا يحاول التمرد على الواقع القاسي بالهروب والمغادرة، ويحمل طموحات كبيرة في تحسين العالم. لكن مواجهته المستمرة للواقع يطرح تساؤلات عديدة حول قدرة الشباب على تغيير الواقع في ظل الظروف التي تفرضها الحروب. ليقول يوسف في رسالة: "الحرب تقلب الموازين يا يوسف، فإما أن نتكاتف وإما أن تنهكنا." حيث يركز على ضرورة التضامن الإنساني في مواجهة الظلم. لكن لغلاء المعيشة واللجوء وسعي الفرد لتأمين لقمة العيش، يقلب الموازين عند الجيل الجديد من الشباب. فهل منح الليث حجو البطل سمات نفسية واجتماعية تنتج تأثيرًا واقعيًا ومرآويًا، مما يجعله يصبح مبشرًا بالهوية والقيم الحالية ونموذجًا للتطور؟ أم أن البطل في منحى آخر هو فرج الذي تحول من حال إلى حال وأصبح مقصدًا للكثير من الشباب لمساعدتهم؟
سلافة هي الشخصية التي تمثل مأساة اللاجئين الذين لا حول لهم ولا قوة، بل هم مجرد أرقام في عوالم الحروب. لكن سلافة ليست مجرد رمز للضعف، بل هي نموذج للقدرة على العيش رغم المعاناة. في سعيها للبقاء على قيد الحياة، تكتشف سلافة أبعادًا جديدة لمعنى الصمود، حيث تجد نفسها تحت قيادة يوسف وتكتسب منه القوة الداخلية التي تجعلها تقاوم التحديات. كما نُشاهد صورة اللاجئ التي غالبًا ما تكون مغيبة أو مقتطفة في معظم الأعمال الفنية. اللاجئون هنا ليسوا مجرد ضحايا للمأساة السياسية أو الاجتماعية، بل هم جزء من نسيج إنساني مهدد بالزوال. مشهد استقبال سلافة وابنها في بيت الأستاذ يوسف يعكس التضامن البشري في أوقات الشدة، بينما نرى أن العائلات في القرية تبرعت بحبوب العدس والحمص إيمانًا منهم بأن المعركة ليست معركة فردية، بل معركة مشتركة. إذًا، مع دخول اللاجئين إلى المدرسة، تصبح الحياة اليومية تتقاطع مع هذا الفضاء المليء بالتحديات والآمال المتضاربة.
"البطل" يطرح عددًا من الأسئلة الفلسفية الكبرى، التي تدور حول دور الإنسان في عالم مليء بالألم والفوضى. هل ينبغي للإنسان أن يتخلى عن مبادئه ليعيش، أم أنه يمكنه العيش بقيمه في عالم يستهين بالقيم؟ وكيف يستطيع الفرد الحفاظ على إنسانيته في عالم لا يعترف إلا بالقوة؟ من خلال الحوارات التي تتم بين شخصيات المسلسل، يكشف العمل كيف أن الصراع الداخلي هو أصعب وأقوى من الصراعات الخارجية. صراع يوسف لا يكمن فقط في قتال العدو، بل في معركة الذات التي يخوضها من أجل التمسك بمبادئه. عبر رسائله، نرى أنه يرفض الاستسلام أمام الجوانب المظلمة في شخصيته، كما يرفض الاستجابة لأصوات المجتمع التي تدعوه للتخلي عن الأخلاق في سبيل النجاة.
أحد العناصر الأساسية في مسلسل "البطل" هو الصراع النفسي الذي يعاني منه يوسف. ورغم كونه شخصية محورية تسعى للحفاظ على المبادئ، إلا أن الواقع القاسي يجعل الصراع الداخلي أكثر قوة وتأثيرًا. فكلما تقدم يوسف في المسلسل، زادت الأسئلة التي تطرأ على ذهنه: "هل يمكنني أن أظل على قيد الحياة وأظل كما أنا؟ أم أن الحياة ستفرض عليَّ تغييرًا يجعلني أفقد جزءًا من إنسانيتي؟". هذا السؤال يظل يلوح في أفق المسلسل ويؤثر على تطور القصة. المسلسل يعكس كيف أن الإنسان في زمن الحرب ليس مجرد ضحية أو تابع للظروف، بل هو أيضًا قادر على المقاومة والتمسك بمبادئه.
كما تبرز أهمية "فرج"، الذي يمثل الدائرة المغلقة لشخصية ضحية تتحول إلى شخصية أخرى في ظل ظروف معقدة. فرج هو شخصية تبدأ كضحية لنظام قاسٍ وظروف اجتماعية معقدة، ليجد نفسه في النهاية في دوامة من الأفعال غير القابلة للتراجع. يسلط العمل الضوء على حقيقة مرّة: أن الأبطال في كثير من الأحيان لا يُصنعون من القوة، بل من التضحية والألم. "فرج لم يكن الشرير الوحيد في القصة؛ بل كان ضحية لنظام وعلاقات مشوهة، وتضارب المصالح الذي جعل منه شخصية محطمة".
نهاية "البطل" ليست النهاية المعتادة التي نتوقعها من الدراما العربية التقليدية، حيث تنتصر العدالة ويُعاقب الشر. بل هي نهاية مليئة بالتعقيدات والتساؤلات. فرج يموت بين يدي "الأستاذ يوسف"، الذي يعترف بقتله. ولكن هل كانت هذه النهاية حتمية؟ وهل كان من الممكن لفرج أن يكون شخصًا آخر إذا اختار البقاء على الطريق الذي رسمه له "الأستاذ يوسف"؟ يطرح المسلسل هذه الأسئلة عن المصير واختيار الإنسان في زمن الحرب.
كما يبرز في نهاية المسلسل سؤال عن البطولة الحقيقية. يوسف، كما يبدو في رسائله، يمر بتحول لا يقتصر على الصمود جسديًا، بل يشمل الصمود من خلال المبادئ والإنسانية. البطل ليس مجرد قصة عن شخص يكافح من أجل البقاء، بل هو قصة عن الأمل في ظل الأوقات المظلمة، عن المقاومة الداخلية التي يخوضها كل فرد في عالم مليء بالخراب. يظل البطل دائمًا هو الشخص الذي يقاوم ويناضل، رغم الصعوبات والمصاعب التي تحيط به. فهل الرسائل التي وجهها يوسف لحفيده هي لمعرفة الماضي لحرب فرضت نفسها على أجداده؟ وهل ما قاله "من العدل أن تعرف ماذا جرى وكيف جرى لتعرف كيف تسعى لجعل العالم أقل ظلمًا، لتعرف كيف تدافع عن حقك بالحياة بسلام، حكايتك وليس بالدماء التي أهرقت فيها. ستحمل حكايتك في طياتها مصائر لا ذنب لك بها ولا ذنب لأبطالها." وهل يمكن أن تكون البطولة ذنبًا، فاغفر ورفع يد العون للآخرين، وإلا فلن ترحمنا هذه الأرض؟"
بعيدًا عن الصورة المثالية للأبطال الذين يمتلكون قوى خارقة أو ينتصرون دائمًا، يقدم مسلسل "البطل" البطولة كحالة من المقاومة الداخلية، حيث لا يتمثل البطل في قوته الجسدية، بل في قدرته على الحفاظ على قيمه وإنسانيته وسط الخراب. "البطل" ليس مجرد قصة عن شخص يكافح بل هو مستوحى من كتاب زيارة الملكة لممدوح علوان، فقد استطاع الليث حجو الاحتفاظ بأجواء الرواية الفلسفية والرمزية مع تعديل الحبكة لتناسب طابع المسلسلات التلفزيونية، ويضعنا في ظل التحديات، عن المعركة التي يخوضها الإنسان مع نفسه ليظل إنسانًا في عالم يعج بالفوضى.
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟