أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ















المزيد.....


الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8329 - 2025 / 5 / 1 - 16:17
المحور: الادب والفن
    


تتمازج التجربة الفردية بالهمّ الجماعي في تواشج لغويّ تتوسّطه شاعرية اللغة وجماليات الحكي. إذ لا يمكن اختزال مقالي عن هذه الرواية المكتنزة العنوان "الطانفا" للروائي "الصدّيق حاج أحمد"؛ فهي بمثابة أنثروبولوجيا سردية، تحكي عبرها الذات الجزائرية الصحراوية عن رحلتها من ضيق المساحة المحلية إلى اتساع الأفق العالمي، في جنوب إفريقيا، ضمن تجربة دراسية وإنسانية مثقلة بالتساؤلات والهويات والحنين. فهل التيمة الكبرى هي الإنسان في المنفى الداخلي والخارجي؟ أم أن الربط بين "الطانفا" والأدب، واستخدامه من قبل "الروائي الصدّيق حاج أحمد" كرمز أو عنصر في سرد القصص التي تتعلق بالثقافة والهوية؟ مثلًا، قد يُستعمل "الطانفا" وهو نوع من القماش كمؤشر على الارتباط بالجذور الثقافية أو لتمثيل النضال من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية في مواجهة العولمة أو التغيرات الاجتماعية.

الرواية تشعرنا بالبداية بنبرة تهكمية من ورش الكتابة والتنمية البشرية، لكنه سرعان ما يغوص في أعمق ما يمكن أن توفّره هذه الورش من معنى تحرير الصوت الداخلي عبر الحكي. التوجس من "التسليع" يرافق الشخصية من البداية، لكنه ينقلب قبولا عندما يكتشف أن السرد لا يعيد تشكيل العالم فحسب، بل يعيد تشكيل الذات. المتن يحكي رحلة عبر الزمان والمكان واللغة. من طين قصر في صحراء أدرار إلى خيوط المطر في كيب تاون، ومن لهجة محلية إلى نحت شخصية فكرية قارية، يتجول الراوي ليصنع من "الاختلاف" مادة فكرية، ومن الغربة محفزاً للإبداع. فهل السرد في هذه الرواية أداة مقاومة بين الهوية والكتابة؟

يبدو أن الراوي يحمل على كتفه ثلاث حقائب: حقيبة الجغرافيا، وحقيبة التاريخ، وحقيبة اللغة. هو ابن الاستعمار الفرنسي، لكنه يكتب بالفرنسية والإنجليزية والعربية، ويقرأ لمالك بن نبي، وويثيونغو، وستروس. إنه مشبع بوعي ما بعد كولونيالي، يرى أن امتلاك الأدوات المعرفية لا يتناقض مع مقاومة سرديات المركز. فهل التجربة الجامعية، ثم التفاعل مع الآخر (الهندي، اللبناني، المدغشقري، الجنوب إفريقي...)، تصنع سياقاً غنياً يحوّل الحكاية من مجرد "رحلة دراسية" إلى حجّ ثقافي؟

اللغة في الرواية ليست وسيلة للتواصل فقط، بل كائن حي يتطور مع الراوي. تارة فصيحة مشبعة بالتناصات الدينية والثقافية، وتارة دارجة تحمل صوت الأم والجدات، وتارة "إنجليزية مكسّرة" تعكس هشاشة الانتماء الجديد. هذا التنوع اللغوي لا يربك النص بل يثريه، ويعكس هشاشة الهوية/القوة في عالم ما بعد الحداثة. فالرواية من تقنيات المونولوج الداخلي، واليوميات، والحوار، والوصف السينمائي في رسم مشاهد دقيقة مثل لقاء جورج شلالا اللبناني، مطار كيب تاون، مقهى المدينة، سكن الشباب... كلها لحظات تخلق فسيفساء سردية تشبه حياة منفيّ دائم، يبحث عن وطن بين الكتب والغرباء.

الذروة الإبداعية في الرواية ليست فقط في الحكي عن الرحلة، بل في ذاك التمرين السردي الأخير الذي كتب فيه الراوي قصة روبوت يكتب عن قصر طيني. هنا، يتقاطع الذكاء الاصطناعي بالتراث، ويتصالح العلم بالروح، في قصة رمزية عن مستقبل يعيد الاعتبار للماضي. وكأنّ الرواية الحقيقية تبدأ من هذا المكان أي من الحلم بما لم يحدث بعد.

الرواية تنجح في أن تكون أكثر من سردية شخصية؛ إنها توثيق لحال الإنسان العربي الإفريقي في عالم يتغير بسرعة. الغربة هنا ليست غربة مكان فحسب، بل غربة لسان، وغربة هوية، وغربة قناعات. لكنه أيضاً نصّ يتجاوز الرثاء، ويطرح الأمل في "التجاوز بالكتابة"، تمامًا كما فعل الراوي عندما قبل خوض الورشة الإبداعية، رغم ضيق الحال.

رواية "الطانفا" ليست قصة بل حياة مكتوبة محملة بالأسئلة، مرصّعة بلحظات إنسانية نادرة، مفعمة بثقافة موسوعية، وتجربة عميقة. "الصديق حاج أحمد" في هذه الرواية لا يروي فقط حكاية سفر، بل يؤسس لتقليد سردي جديد، يكتب فيه العربي الإفريقي ذاته المغتربة بوعي فلسفي، وجرأة سردية، وعشق خالص للحياة. فهل نحن أمام عمل أدبي/سردي تتداخل فيه الأجناس الأدبية ما بين السيرة الذاتية، وأدب الرحلة، واليوميات، والاعترافات الفكرية، مما يجعله نصًا هجينًا، يتجاوز التصنيفات التقليدية، ويؤسس لنمط كتابة عربي معاصر متحرر من القوالب الجاهزة؟ أم أن الراوي في هذا النص ليس مجرد طالب جزائري حصل على منحة إلى كيب تاون، بل هو حامل لذاكرة استعمارية، ومثقف عضوي، وراصد للتفاصيل العابرة، وحالم بهوية تتشكل بين الانتماء الوطني والامتداد الإفريقي؟

تبدأ الرواية من حذر وجودي تجاه فكرة "ورشات الكتابة"، لينتهي به الأمر في قلب سردية حياتية كبرى تتقاطع فيها المسارات الشخصية مع الجغرافيا السياسية للجنوب العالمي. من صحراء الجزائر إلى مطار كيب تاون، مرورًا بمطار أورلي، والقاهرة، وأديس أبابا، نتابع مسارًا سرديًا لا يسجّل فقط حركة الجسد، بل يعيد رسم خرائط ما بعد الكولونيالية. المدن ليست أماكن فحسب، بل علامات ثقافية: أورلي تمثل التباس المركز الاستعماري، القاهرة تمثّل الثقل العربي المرهق، أديس أبابا نقطة تحوّل في السرد، وكيب تاون تُستعاد كأرض للتمازج العرقي، والتقدّم التقني، وبؤرة لاختبار الهوية في زمن ما بعد الأبارتايد. اللغة في "الطانفا" مزدوجة: شديدة البلاغة، لكنها غير متكلفة. تُمارس ما يمكن تسميته بـ"البلاغة المضادة"، حيث تُستعمل العبارات الفصيحة والمعجم الكلاسيكي في وصف أشياء معاصرة، مطارات، أكل، وجوه، تطبيقات حديثة. كما أن المزج بين الفصحى وتعابير دارجة، أو شبه دارجة، يمنح النص دفئه الإنساني ويكسر بروده الأكاديمي.

من أبرز مشاهد الرواية، حديث الراوي مع "جورج شلالاً"، صاحب المطعم اللبناني. هذا المشهد يُختزل فيه تاريخ كامل من الهجرة العربية إلى إفريقيا، ويعيد تأطير فكرة الشتات لا كفاجعة بل كـ"ضرب في الأرض" كما يسميه جورج. العلاقة بين المهاجرين اللبنانيين، والأفارقة، والمستعمرين، تتجلى هنا في تعقيدها وغناها الرمزي.

المحاورات التي يجريها الراوي مع رفقاء الغرفة، أو مع السائقات، أو مع الطلبة الآخرين، هي لحظات تتكشّف فيها الهوية، لا كجوهر ثابت، بل كمنتج تفاعلي. كل حوار هو تمرين وجودي في الانفتاح على الآخر، ولكن من موقع واعٍ، يرفض الذوبان، ويُصرّ على تذكير الآخر بالحقائق التاريخية (كالاستعمار الفرنسي والإنجليزي)، دون مرارة خطابية أو ادّعاء.

في مطلع الرواية، يعبر الكاتب عن امتعاضه من قوالب التنمية البشرية و"نظرية الفستق"، وهي إشارة نقدية ذكية للموجة المعاصرة من تسليع المعرفة والموهبة. لكن تحوّله التدريجي من هذا الرفض إلى قبول "ورشة الكتابة" يعكس نضجًا في الموقف، حيث يُعاد تأهيل العلاقة بين الفرد والمؤسسة ضمن وعي نقدي لا يُسلّم كليًا ولا يرفض جزئيًا.

"الطانفا" تشبه رسالة منفي قديم، لكنه لا يكتب من منفى جغرافي، بل من منفى لغوي وثقافي وفكري. إنه نصّ ينتمي إلى أدب ما بعد الكولونيالية بامتياز، لكنه لا يُخضع نفسه لمنطقه. يمتلك قدرة هائلة على تحويل التفاصيل الصغيرة (قفل، كتيّب أدعية، شريحة هاتف، صورة قديمة) إلى رموز كثيفة بالمعنى. هي مزيج رائع بين السرد الذاتي، التأمل الفلسفي، والبعد الثقافي-الأنثروبولوجي، إذ يتنقل بسلاسة بين مشاهد الحياة اليومية والتجارب الأكاديمية والانفعالات الداخلية. ويمكن اعتباره مشروعًا سرديًا غزير المحتوى، متنوع الطبقات، يطرح قضايا الهوية، الاغتراب، مقاومة الظلم، البحث عن الذات، بل وحتى الحلم بإعادة تشكيل العالم من خلال الخيال.

في لحظة ملتقطة من بدايات ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت إفريقيا تعيد رسم ملامحها الاقتصادية والاجتماعية، يظهر "بوغرارة"، ليس كتاجر فحسب، بل كرمز لهُوية هجينة، تُشكّلها ذاكرة ثورية من الجنوب الجزائري، وخبرة تجارية مرنة بين العاج، والسينغال، والكاريبي، والجزائر. شخصية تُمثّل بامتياز البطل الكامن خلف السرديات الصغرى؛ البطل الذي لا يدوَّن اسمه في كتب السياسة، لكنه يحفر أثره في الذاكرة الشعبية والشفاه المتداولة.

يبدو الاسم "بوغرارة" مشحونًا من لحظته الأولى. فهو لا يحمل فقط طابعًا قبليًا – تواتيًا – بل يتحوّل تدريجيًا إلى علامة مسجلة، إلى "شيكوز الطانفا في لافريك"، وهي عبارة تحمل في ذاتها احتفالًا صاخبًا بالشخص، كما تحمل في طياتها بعدًا فكاهيًا وساخرًا، يعبّر عن الطريقة التي تستقبل بها المجتمعات المحلية صعود أحد أفرادها نحو المجد التجاري. فالتحوّلات الصوتية من "بوغرارة" إلى "بوغاغة" ليست صدفة، بل هي مفتاح تأويلي لسرد الهوية نفسها. فكيف يختلط اللقب بالأسطورة، وتتحوّل الكنية إلى مرآة ساخرة لمكانة اجتماعية متأرجحة بين الاعتراف والتشكيك.

اللافت أن بوغرارة ليس تاجرًا تقليديًا. إنه وريث المجاهدين، حفيد الثوار، الذي علّق وسام الاستقلال على صدر قميص البازان. في لحظة هو رجل أعمال عصري يبرم عقود امتياز مع شركات أوروبية كبرى، وفي لحظة أخرى هو الحفيد الذي يذكر إمامه المغيلي ويستشهد بطريقته القادرية، ويتنقّل في صحارى الجزائر على ظهر الحمار "بوعرف"، وكأنه خارج من حكايات الواحات القديمة.

الثنائية في الرواية تُشبه رقصة بين عالمين: عالم السوق والربح، وعالم البركة والتجذر الروحي. ويجعل من بوغرارة شخصية جامعة لتناقضات الأزمنة ما بعد الاستعمارية في إفريقيا: الزّي البازاني الفاخر من جهة، والتمرة المهداة من خيرات القصر من جهة أخرى.

ميناتو، الهوساوية، ليست مجرد زوجة ثانية، بل هي القنطرة التي عبر منها بوغرارة إلى نصفه الأفريقي. حضورها ليس هامشيًا، بل مركزي؛ تحضر بالطبخ، بالذاكرة، بالمزاج السياسي، وحتى بالملوخية التي أهدته بها يوم زارهم أول مرة. زوجته الأولى، لالاهم، لا تقل أهمية، إذ تمثل بعدًا من بُعد العراقة والسلطة العائلية، ومع ذلك تُزاح من المركز لصالح ميناتو، ويُفتح السرد على حرب صامتة بين القصر القديم ورائحة الجنوب الجديد.

الرواية مكتوبة برؤية سردية أصيلة تستلهم "أدب المجالس"، حيث الحكاية تُروى لا تُقرأ، ويختلط فيها التاريخ بالمرويات الشفهية، والفكاهة بالتراجيديا. يتداخل فيها صوت الراوي مع "قوالة القصر"، وسائق الشاحنة، ونساء القصور، والباعة، والمجاهدين، والأطفال، لتشكل ما يشبه "أوبرا أفريقية"، حيث بوغرارة هو المحور الذي تدور حوله كل الأصوات.

اللغة تتراوح بين الفصحى والدارجة والمفردات الهوساوية والموريتانية والعربية، مما يمنح النص طابعًا بوليفونيا – تعدد الأصوات – يذكر بكتابات الطيب صالح ونغوغي واثيونغو.

لا يكتفي النص بخلق شخصية مثيرة مثل بوغرارة، بل يستخدمه ليروي تاريخًا موازيًا لتاريخ الدول: تجارة القماش، امتيازات التوزيع، العلاقات الجزائرية الكوبية، المسارات بين فاؤ وأدرار ونيامي، ومعارك سوق البازان. ينسج تاريخًا اقتصاديًا – ثقافيًا – شفويًا، يضيء على ما لا يُكتب عادة: كيف تتغير مصائر الأمم من قاعة فندق في أبيدجان، أو من قصة زواج ثالثة على حافة الصحراء.

"بوغرارة" ليس مجرد اسم بطل في حكاية عائلية، بل هو استعارة للحظة أفريقية غنية ومربكة، لحظة يصعب فصل التاريخ فيها عن الطرفة، والصفقة عن البركة، والمجد عن المأساة. هو شخصية فريدة من نوعها، تمثل فرصة نادرة لإعادة كتابة السرديات التاريخية من زاوية منسية: زاوية التجار الصوفيين، الحالمين، الذين صنعوا الحكاية بصمت.

في عالم تتقاطع فيه طرق التاريخ والذاكرة والأسطورة، ينبثق "بوغرارة" كرمز استثنائي، لا يُختزل في اسم شخص أو مسيرة تاجر، بل يتجاوز ذلك ليصير تجليًا لهوية حضارية، وقصة ممتدة تتشابك فيها مسارات السياسة والتجارة، الحنين والخذلان، الصوت والصدى. فهو ليس مجرد حكاية تاجر مغامر من توات إلى الكاريبي، بل سرد ملحمي كثيف، كُتب بمداد الهامش، حيث تنبت الحكايات الحقيقية، خارج ضوء النخب ومركز السرديات الرسمية. الروائي هنا لا يروي فقط، بل يؤرخ بلسان الهوامش، حيث "القصر"، "الفاؤ"، و"كُوطونو" تتساوى في الأهمية الرمزية مع "داكار"، و"أبيدجان"، و"هافانا". يُبنى بوغرارة بوصفه شخصية نصف واقعية نصف أسطورية. رجلٌ وُلد من صُلب الصحراء، لكنه تمرّد على جغرافيا التمر، حاملاً ملامحه الطينية إلى الأسواق عابرًا الحدود كأنها مجرد سطور في دفتر تجاري. وقد أحسن الكاتب في تحويل حدث بسيط — توقيع عقد تجاري — إلى ملحمة تجارية تستحق الوقوف، تتردد أصداؤها في قصور الصعاليك كما في دهاليز القصر الجمهوري.

من أجمل مفارقات الرواية، لعبة الاسم: كيف يتحول "بوغرارة" إلى "بوغاغة"، بفعل نطق غير دقيق من الغرباء. هذه المفارقة لا تُعرض كدعابة لغوية فقط، بل كرمز لهشاشة الهوية حين تلامسها العولمة أو حين تنكسر في مرآة الآخر. الاسم لم يعد مجرد لقب بل وَسمٌ للذاكرة، و"بوغرارة" لم يعد يملك اسمه، بل صار يملكه الناس.

ميناتو، الزوجة الهوساوية، ليست فقط حبًا أو زينة، بل رمزًا لتصالح بوغرارة مع نصفه الأفريقي. خلاسيتها تجعله يشعر بالحنان، حديثها عن الإمام المغيلي يعيد إليه روحه، وطبخها للملوخية يوقظ شهية قلبه قبل بطنه. في المقابل، لالاهم، الزوجة الأولى، تمثل الصراع الداخلي بين الولاء للماضي والانشداد إلى المستقبل. وهكذا تصبح المرأة هنا ليست كائناً مرويًا فقط، بل حاملة لهوية الرجل المتعدد.

اللغة ليست حيادية، بل "شخصية روائية" قائمة بذاتها. تمتزج العامية بالعربية الفصيحة، وتُحشر المصطلحات الأجنبية ضمن سياقها المحلي، ما يعطي السرد مذاقًا ثقافيًا مدهشًا. إنه سرد يتكلم من ألسن الناس ومن قيعان الأسواق، من ترانيم النساء عند الطهو وحديث المجالس بعد المغرب.

تتخذ الرواية أحيانًا منحى فلسفيًا ساخرًا، حين يقف بوغرارة أمام نفسه، بعد حادث الحمار، متأملاً عبث المصير. المفارقة هنا ليست تهكمًا فقط، بل شكل من أشكال الحكمة الشعبية، تلك التي تقول الكثير دون أن تدّعي العلم، والتي تضحك على الوجع وتحوّله إلى مثلٍ يُروى. بوغرارة ليس بطلًا خارقًا ولا قديسًا، بل هو ابن الناس، ابن القصبة والتمر، والحلم الذي يتنقل من دكّان إلى سفارة، من زوجة إلى أخرى، ومن كنية إلى لقب. في هذا الجزء الروائي، ينجح الكاتب في أن يخلط الجغرافيا بالعاطفة، والسياسة بالأسطورة، والتاريخ بالنكتة. فتخرج إلينا رواية ليست عن التاجر، بل عن الإنسان العربي الأفريقي حين يركب سفن العولمة دون أن ينسى خبز أمه ورائحة جدّته. فهل هذه رواية عن الذين نسوا أسماءهم في طريق المجد، ثم تذكّروها من ضحكة طفل في السوق أو صيحة ديك مع الفجر.؟
بوغرارة... الشخصية المركّبة ليس بطلًا تقليديًا، بل هو مزيج نادر من المجاهد والتاجر والحكواتي والحالم. تتطور شخصيته عبر مراحل مركبة، المجاهد الرمز الذي يُستدعى إلى المحافل الرسمية كسفير لذاكرة الثورة، إلى التاجر الكوزموبوليتاني الذي يبرم صفقات دولية، ويجوب القارات بحنكة دبلوماسي وتجّار مغامر، إلى الطفل القديم الذي لا يزال مرهونًا بذكرى عقيقته التي طُمست خلف شهرة "بوغرارة". إنها شخصية تستعير من التاريخ الوطني ما يجعلها كبيرة في عين المجتمع، لكنها لا تنفصل عن جذورها الشعبية، حيث الأسماء تتبدل، والهوية تُروى بشيء من الأسى والضحك في آنٍ معًا. فهل هذه رواية ذو سرد بمذاق السوق والمحراب ولغة هنا كائن حي. إنها ليست وسيلة حكي فحسب، بل تربة ثقافية. فماذا عن بلاغة المزاح والمجاز الشعبي: "بوغاغة" بدل "بوغرارة"، و"سنارة العقرب" كنية لزوجة مرعبة، كلها أدوات للسخرية الاجتماعية، التي تحمل نقدًا لاذعًا دون مباشرة.

إيقاع سردي دائري: يعود السرد إلى تفاصيل مهملة (مثل اسم عقيقته أو حادثة الحمّار "بوعرف") ليعيد بناء صورة الرجل في مرآة الهشاشة الإنسانية. فماذا عن المرأة في الرواية هل هي أكثر من ظل؟

في قلب السرد تتربع ميناتو الهوساوية، ليست كزوجة فقط، بل ككائن يرمز إلى اندماج الأفريقي بالعربي، والأنثوي بالروحي. طبخها للملوخية يصير "طقس حب"، وحديثها عن المغيلي الصوفي يجعلها وسيطة بين بوغرارة والماضي الروحي العميق. في المقابل، لالاهم، الزوجة الأولى، تمثل تحديًا داخليًا للرجل: "الملكية"، "السلطة"، "الصراع العائلي"، ونوع من الغيرة الرمزية. النساء في الرواية لا يُروين فقط، بل يُسهمن في بناء المسار الوجودي لبوغرارة: فهن ضوء ماضٍ، وصراع حاضر، ومأوى قلب.

تظهر الجغرافيا كذاكرة إذ لا مكان في هذه الرواية يُذكر عبثًا. كل مدينة أو قصر أو فندق هو بصمة هوية؛ فأبيدجان بداية الانفتاح على الأسواق، وداكار وكوتونو بوابات الوعي الأفريقي والسياسي، ونيامي: الذاكرة الطفولية والروحية، وهافانا: مساحة تاريخية للمقاومة الأممية (كوبا – الجزائر). قصر تازولت وتوات: الأصل، الجذر، الدفء، والأسى العتيق. الجغرافيا هنا ليست إطارًا، بل بطلًا مرافقًا للسارد، تنطوي على رموز مقاومة، وعلاقات ممتدة بين الذات والعالم. كما أن العمق النفسي والمفارقة الساخرة ممتعة ذهنيا؛ فالكاتب يمرر مأساة الإنسان العربي – الأفريقي بجرعة عالية من السخرية الوجودية. حادثة الحمار ليست مجرد نكبة، بل لحظة تشظّي بين المجد والهشاشة. تحريف الاسم من "بوغرارة" إلى "بوغاغة" ليس ضياعًا لغويًا، بل انسلاخ رمزي عن الأصل وسط موجات التدويل. حتى المجلس الصعلوكي ومزاح "ولد الليل"، هي أدوات فلسفية لفهم فوضى الحياة، وضعف التخطيط أمام سخرية القدر.

السرد في الرواية هو أكثر من تجربة لغوية وتاريخية وفلسفية مكتملة، تكشف عن رجل يمثل جيلًا، أو ربما قارةً كاملة، تنهض من رماد الاستعمار، تتباهى بثروتها، لكنها لا تتخلص من عقدها الداخلية. إذ يتحول السوق إلى برلمان، والمجلس إلى أرشيف، والاسم إلى قضية وجودية، ويصير التمر والملوخية رمزًا لمعادلة كبيرة: كيف نكون عالميين دون أن ننسى طين أمهاتنا؟ هذه رواية تُقرأ بالعقل والقلب معًا. والجميل فيها أن كل قارئ يجد "بوغرارته" الخاصة: مجاهدًا، تاجرًا، صعلوكًا، أبًا، أو ببساطة... إنسانًا في النهاية.

في نهاية مقالي هذاأقول الرواية تستحق الدراسة كما تستحق أن تكون سلسلة، أو حتى عملاً سينمائيًا – لأنها ببساطة تحمل كل مقوّمات "الحكاية التي لا تنتهي".

ملاحظة :الطانفا هو قماش تقليدي ملون يتميز بتصاميم هندسية وألوان زاهية، ويُصنع من القطن أو المواد الاصطناعية. يعتبر جزءًا أساسيًا من التراث الثقافي والملابس في غرب إفريقيا. بدأ كملابس يومية ثم أصبح جزءًا من اللباس الاحتفالي والمناسبات الخاصة، ويُستخدم أيضًا في المناسبات الكبرى مثل الأعراس والاحتفالات الدينية. يعكس الطانفا الهوية الثقافية ويظل جزءًا مهمًا في حياة العديد من الأفارقة اليوم.

طرابلس -لبنان في 1 أيار 2025 الساعة 12 ظهرا



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحياة في ظل قناع رجل
- في حضرة العشق الطاهر
- الذاكرة المظلمة
- الشعر بين التقليد والحداثة قراءة في رؤية نزار دندش للأدب
- تبقى الديمقراطية هي الفاعلة
- حين تصير الموسيقى امتدادًا للروح
- الدراما السياسية في سيرة معاوية بن أبي سفيان بين التاريخ الم ...
- -البطل- معركة الإنسان مع نفسه في زمن الفوضى
- لام شمسية- وآثاره في مواجهة قضايا التحرش بالأطفال عبر الدرام ...
- الدماء التي لا تنسى -فهد البطل- وجوهر الصراع الأخوي
- أم هاشم وحقل الشوفان
- حديقة -الامريكان في بيتي- وشجرة الالوان
- خط النجمة البيضاء في رواية الشوك يزهر للروائي هاري مارتينسون ...
- هل الرواي اداة وظيفية دالة..؟
- صلاة لبداية الصقيع
- زمن ما قبل الذاكرة – قراءة في رواية ساق البامبو
- المشرقي القادم من شريط حدودي محتل
- شاعرات من الدول العربية في اليوم العالمي للمرأة والشعر
- مكانة الشعر في الفصل بين المفردات العاطفية وبناء منطق القصيد ...
- القوة الثقافية في تحديات قوى الدول الكبرى وصناع الحروب


المزيد.....




- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...
- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...
- عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة ...
- مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ