ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 16:51
المحور:
الادب والفن
تأخذ رواية عزازيل للروائي يوسف زيدان القارئ في رحلة تأملية بين العوالم المادية والروحية، بين الرحلة الشخصية والمقدس. إنها رواية مشحونة بالرمزية الدينية والتاريخية، تقدم صورة غنية عن علاقة الإنسان بالمكان المقدس، وعن السفر الروحي والجسدي نحو "أورشليم"، تلك المدينة التي تعج بالأحداث والذكريات التي تمس الإنسان في عمق كيانه الروحي. فماذا عن التناقض بين الجسد والروح، ورحلة البحث عن الذات؟
تبدأ الرواية برحلة تتسم بالإرهاق الجسدي والروحي، حيث يدخل البطل أورشليم وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره، منهكًا من رحلة طويلة بين قرى اليهودية والسامرة. يعبر فيها عن التشتت بين الجسم المرهق والعقل الحائر، مما يثير تساؤلات فلسفية حول حدود القداسة التي قد تكون محض لحظة في المكان أو في الروح. كما يطرح معاناة الجسد، الذي يواجه الحر والجوع والإغماء، إلى جانب الروح التي تتسائل عن "سر البركة" ومدى ارتباطها بالمكان. فهل المكان هو من يقدس الروح أم أن الروح هي التي تعطي للمكان قدسيته؟ هذه المعضلة بين الروح والجسد تشكل لبّ النص الفلسفي، حيث يتساءل عن العلاقة بين رحلة الحج الروحية والمادية. هل نحتاج إلى مكان مقدس لنحقق الخلاص الروحي أم أن هذا الخلاص يكمن في قلوبنا وفي سعي الإنسان الداخلي؟
تتجسد في الرواية علاقة مع الأسطورة الدينية التي تستحضر تجربة يسوع المسيح، والرمزية التي تحيط بالصليب. فكرة "القيامة" تظل محورية في النص، كما يطرح الكاتب أسئلة فلسفية تلامس جوهر الدين المسيحي: "هل قام يسوع حقًا من بين الأموات؟ وكيف للإله أن يموت؟" هذه التساؤلات تكشف عن الصراع الداخلي للإنسان مع إيمانه وتجربته الروحية، بل إنها تطرح تساؤلات حول قدرة العقل البشري على فهم التناقضات بين الإله والإنسان.
تبدو هذه التساؤلات وكأنها صرخة فلسفية تبحث عن "المعنى" في الأسطورة والقداسة. يحاول القارئ أن يستفهم مع الشخصيات السر الذي قد يكون كامناً في مكان معين - مثل كنيسة القيامة - ولكنه لا يقتصر على المكان المادي فقط بل يتعدى ذلك ليشمل التجربة الروحية الشخصية التي يمكن أن تحدث في أي مكان. فما هو دور الأسقف نسطور والتأمل في المعمودية؟
الأسقف نسطور يمثل شخصية فلسفية ودينية محورية في النص، حيث يقدم تأملات لاهوتية تنطوي على حكمته الروحية. حديثه عن المعمودية هو نقطة التحول في النص، إذ يعكس تبريرًا لرحلة الخلاص التي مر بها الإنسان بدءًا من "الخطية الأولى" وصولًا إلى النعمة التي يُمنحها عبر المسيح. قد نرى في ذلك تكرارًا لفكرة الخلاص الذي يحمله المسيح من خلال المعمودية، والتي تشير إلى ولادة جديدة أو انبعاث روحاني للإنسان. لكن زيدان، عبر رمزية الأسقف، يعبر عن انتقال الإنسان من الزمن الأول (زمن الخطية) إلى الزمن الثاني (زمن الخلاص).
يقدم زيدان صورة مثالية لدور الأسقف كمرشد روحي ويقدم إجابات لأسئلة وجودية، مع علمه بأن الأجوبة التي يقدمها ليست سوى نتاج إيمان، يمكن أن يبدد القلق الروحي في النفوس الحائرة. فهل للصومعة رمزية للانعزال والبحث الداخلي؟
الصومعة التي يقيم فيها الراوي، والتي كانت في السابق مأوى للراهب الرهاوي، تمثل مكانًا روحيًا يتيح للإنسان فرصة للانعزال والتأمل. إنها تعكس مفهوم الانفصال عن العالم المادي للبحث عن الخلاص الروحي. في هذه المساحة الصغيرة، يتخلى الإنسان عن صخب الحياة لتطهير ذاته، وهو ما يتناغم مع الفكر الفلسفي الذي يربط بين الصفاء الداخلي والقدرة على التأمل العميق. ورغم أن الراوي يظل في مواجهة العالم الخارجي (في مكان بين الكنيسة والمدينة)، إلا أنه يظل منغمسًا في محاولات فهم الربط بين المكان والطهارة الروحية.
إن الرحلة الروحية التي يرويها زيدان ليست مجرد رحلة حج تقليدية، بل هي رحلة فلسفية نحو الذات والوجود. بين أسوار أورشليم، يطرح الكاتب تساؤلات حول الحقيقة الإلهية، وقدرة الإنسان على إدراك هذه الحقيقة في الأماكن المقدسة. هل المكان هو الذي يعطينا البركة، أم أن البركة تكمن في الروح الإنسانية التي تبحث عن القداسة؟ كما يشير إلى أن رحلة البحث عن المعنى تكمن في السعي الداخلي الذي لا ينتهي، حيث تظل التساؤلات مفتوحة دائمًا، مثلما تظل الحقيقة الإلهية بعيدة عن الإدراك الكامل.
رواية عزازيل ليست مجرد سرد تاريخي أو روائي، بل هي رحلة تأملية وفلسفية تسلط الضوء على التفاعل بين الإنسان والمكان المقدس، وتطرح أسئلة وجودية عن الإيمان، والمعنى، والخلاص الروحي. إنها دعوة للتفكير العميق في دور المكان في تشكيل الروحانية وفي مفهوم البركة. فهل التأمل في التوبة والنقاء الروحي يجعل القارئ يتذبذب بين التجربة الإنسانية والرهبانية؟
إن تصوير زيدان لحياة الرهبان داخل دير معزول عن العالم الخارجي، مُركزًا على تفاصيل العلاقات بين شخصياته المختلفة، يوفر للقارئ نافذة للتأمل في الموضوعات الروحية العميقة مثل التوبة، الطهارة الروحية، والصراع الداخلي. من خلال شخصياته، يطرح زيدان تساؤلات فلسفية ودينية تتعلق بمفهوم الحياة الرهبانية، وكيف يمكن أن تكون مسارًا لتطهير النفس والتقرب من الله. لكنه أيضًا يعكس تعقيدات العلاقات الإنسانية وتحديات التوبة. فهل التوبة: تجربة روحية أم هروب من الماضي؟
الرهبنة، بوصفها حياة تكرس لله، تُفترض عادةً أن تكون سعيًا للاقتراب من النقاء الروحي والتخلي عن شهوات الجسد والمشاعر الدنيوية. لكن السرد يعرض لنا بشكل مدهش أن هذه الرحلة ليست خالية من التحديات. شخصية "فريسي الأقنوم"، التي تحكمها القيم اللاهوتية الصارمة والمجادلات الدينية، تكشف عن صراع داخلي عميق بين الالتزام الديني والعاطفة البشرية. فالتوبة، كما يظهر من قصة هذا الراهب، ليست مجرد عملية تطهير مستمرة، بل هي أيضًا مسألة مكابدة وصراع مع النفس.
فالراهب الذي يرفض الأنوثة ويستعلي على ضعف الإنسان، يمثل في رأيي قمة الازدواجية في الحياة الدينية؛ فهو يهرب من دوافعه البشرية عبر إصراره على المبالغة في فكره اللاهوتي، الذي قد يكون مجرد محاولة لتغطية هواجسه الداخلية. يبدو أن التوبة التي أقدم عليها كانت مبنية على الاعتراف بالخطأ فقط، دون أن يحقق الموازنة بين تقبل الذات والمصالحة مع البشرية. فماذا عن التوازن الروحي في شخصيات الرواية ؟
يسعى الراهب "الضحوك الوقور" إلى إدخال البهجة والطمأنينة في حياة الآخرين،و يكشف عن قدرة البشر على احتضان معاناتهم الداخلية والتعامل مع معاناتهم الروحية، مما يعكس وجهًا آخر من التوبة. التوبة التي تقبل البشر بما هم عليه، دون إخفاء أو تنكر. في هذا السياق، يصبح "الضحوك الوقور" نموذجًا للتوازن الروحي، حيث يُظهر لنا أن الخلاص ليس في النفي الكامل للطبيعة البشرية، بل في إعادة تأهيلها ودمجها مع النية الطيبة. فهل التوبة لا يجب أن تكون عبارة عن إنكار أو محاربة للجوانب الإنسانية، بل التعايش معها والبحث عن الصفاء الداخلي؟
ما يقدمه زيدان في نهاية عزازيل من حوار داخلي بين الراهبين والراوي يدعو إلى التساؤل حول الفجوة بين المعرفة العقائدية والتجربة الروحية الشخصية. فالرهبانية تتطلب، من وجهة نظر النص، توازنًا دقيقًا بين اللاهوت والفلسفة الروحية الشخصية. ففي حين أن "فريسي الأقنوم" يتبنى المعرفة اللاهوتية بشكل أكاديمي وجاف، فإن "الضحوك الوقور" يمثل نوعًا من التوازن بين القلب والعقل. هذا التفاوت بين الشخصيتين يثير تساؤلات حول دور العقلانية في الدين ومدى قدرتها على التواصل مع التجربة الروحية الحية التي تشمل الألم والفرح، التوبة والمغفرة.
هل التدبير الإلهي يتحقق عبر التمسك الجامد بالقيم العقائدية فحسب، أم يتطلب صراعًا داخليًا مستمرًا وتفاعلًا مع التجربة الإنسانية؟ وهل تعكس عزازيل التوتر المستمر بين الحياة الروحية وحياة الجسد؟ وهل كل هذه المعاني الفلسفية والدينية العميقة تجذب القارئ للتفكير في حقيقة التوبة؟ أم تجعله ينفر من عزازيل ومعناه العميق؟
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟