أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-















المزيد.....


وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 18:14
المحور: الادب والفن
    


رواية تزاوج المحاكاة بالرسائل في نسيج حلمي كابوسي
ضحى عبدالرؤوف المل

في زمن تتكثف فيه الأسئلة حول ماهية الواقع، وحدود الوعي، ودور الذات في تشكيل العالم، تبرز رواية "ترانيم التخوم" للروائي مازن عرفة الصادرة عن دار ميسلون بوصفها عملاً سرديًا تجريبيًا غنيًا ومكثفًا، ينتمي إلى نمط الكتابة ما بعد الحداثية، ويتجاوز التصنيف الكلاسيكي للرواية، ويغوص في أعماق الوعي، بل وما وراء الوعي، عبر بنية تتعدد فيها المحاكيات وتتقاطع فيها الأزمنة والأمكنة والذوات. ليست هذه رواية بالمفهوم التقليدي، بل "مرايا متكسّرة" تعكس هشاشة العالم وانشطار الإنسان المعاصر بين الواقع الرقمي، الوجود الفيزيائي، والوعي الكوني. فهل في بنية الرواية – تشظي الحكاية وموت السرد الخطّي؟ أم تأرجحت البنية بين الواقعية الذاتية الحادة والتخييل الفلسفي الكوني؟

يُعتبر العنوان نفسه مفتاحًا تأويليًا دقيقًا للرواية. "ترانيم" تشير إلى طقس، إلى إنشاد روحي أو غنائي. لكنها ليست ترانيم كنائسية، بل ترانيم تتغنى بما هو على الحافة: "التخوم". وهذا ما تنقله الرواية حرفيًا؛ فكل شيء فيها يقع في الفاصل بين الحالات، بين الحلم واليقظة، بين الموت والحياة، بين الوعي الفردي والجمعي، بين الذكرى والحنين، بين الرغبة والقمع. إن "التخوم" هنا ليست مجرد حدود فيزيائية، بل هي بنية سردية ومنهج للكتابة نفسها. الكاتب لا يسكن مشهدًا واحدًا، بل يتنقّل، يتحوّل، ينساب كما وعيه الطيفي، الذي يذوب بين العوالم.

تنقسم الرواية إلى محاكيات سردية مختلفة من حيث الزمن، النبرة، والمرجعية، لكنها تتكامل كأجزاء من فسيفساء كبرى، تمثل عالمًا يتداعى. في المحاكاة الأولى، نتابع وعياً كونياً مجرداً – كيان لا مادي، لا مكاني، لا زماني – يعبّر عن قلقه الوجودي من كونه ربما مجرد "حكاية داخل حكاية". هذه المقدمة الميتافيزيقية تقرّ منذ البداية بأننا أمام عمل يتحدى الواقع بوصفه "يقينًا" أو مفهوم الرواية المفتوحة أو الرواية الشبكية، التي لا تعتمد على خط سردي واحد، بل على تعدد الأصوات والعوالم والرؤى ما يمنحك حرية تجريبية وشاعرية عالية.

ثم تنزلق الرواية إلى سرد معاصر؛ نتابع فيه حياة كاتب مهاجر، منهك، معزول في غرفة صغيرة بألمانيا، عالق بين بيروقراطية النشر، وتراكم الإحباطات اليومية، وغربة اللغة والذاكرة. هنا، الواقعية لا تقدم نفسها كحقيقة موضوعية، بل كطبقة أخرى من "المحاكاة"، هي في حد ذاتها سرد متشظٍ، فاقد للإيمان بجدواه، ومفتون بمراقبة عبثية العالم الخارجي (الإعلام، التواصل الاجتماعي، الأخبار).

أما المحاكاة الثانية، فتأخذنا إلى عالم غرائبي، خرافي، تقطنه كائنات متشيطنة: الغيلان، السعالى، الأبالسة، الدهالب، القطارب... إنها حكاية من أعماق اللاوعي الجمعي، من أساطير ما قبل التاريخ وما بعد الحقيقة، تُروى بلغة ذات كثافة شعرية، واستيهام بصري، تتجاوز المنطق وتتحدى الزمن. هذه المحاكاة ليست مجرد خيال، بل مجاز للخراب النفسي والكوني.

تتوسل الرواية بلغة مزدوجة: في المشاهد الواقعية لغة يومية دقيقة، ذات إيقاع بطيء يعكس الرتابة. في المقابل، نجد في المحاكاة الفلسفية والأسطورية لغة كثيفة، مجازية، عالية النبرة، تحتشد بالمحسنات والتكرار القصدي والانعكاسات الصوتية، كأنها تستحضر تقاليد السرد الشفاهي والأساطير الدينية، من ألف ليلة وليلة إلى الملاحم الطقسية.

هنا، اللغة لا تصف العالم، بل تصنعه. وكل تحول لغوي يعكس تحولًا في الإدراك: حين نتحدث عن كائن مشقوق بالطول، أو دهلب نصفه آدمي ونصفه نعامة، فنحن لا نصف مخلوقًا خرافيًا، بل نرسم صورة وجودية عن "الإنسان المشوّه"، "الهوية المنقسمة"، أو "الذات في لحظة انهيار".
الرواية تحكي، في العمق، عن تجربة الاغتراب الوجودي. الكاتب الذي لا يعرف اليوم ولا الشهر، والذي يعيش في عزلة، هو صورة معاصرة للإنسان السائل كما يسميه زيغمونت باومان: كائن متشظٍ، لا يحمل قناعات ثابتة، ولا ينتمي إلى مكان أو زمن محدد. فهل من اغتراب مكاني؟ وهل العيش في مدينة ألمانية دون اندماج فعلي يؤدي إلى اغتراب لغوي؟ أم أن الكتابة بالعربية والبحث عن نشر بالألمانية، بين لغتين لا تلتقيان، هي اغتراب فعلي؟ وماذا عن التفاعل الافتراضي مع أبناء، أصدقاء، وأشباح إلكترونية؟

شعور دائم بأن الذات نفسها مجرد "محاكاة"، ربما يحلم بها آخر في واقع آخر، وربما القارئ يقع في دوامة المحاكاة. فالرواية كمنصة فلسفية للتشكيك بالواقع، والرواية أيضًا "محاكاة متعددة" تنتمي إلى ما يمكن تسميته بـ"الخيال الميتافيزيقي". هنا، لا تكتفي الرواية بالسؤال "ماذا يحدث؟"، بل تسأل "من الذي يروي؟ ولماذا؟ وهل ما يُروى هو حقيقي؟". إنها تقارب مفاهيم من فلسفة ما بعد الحداثة أولاً: الواقع كتمثيل (بودريار): حيث الواقع يُستبدل بمحاكاة الواقع.ثانيًا الوعي كبرمجية محتملة (نظرية المحاكاة): وهي أطروحة علمية وفلسفية تفترض أن الكون قد يكون محاكاة رقمية.ثالثًا النص كفضاء لا نهائي (بارت، دريدا): حيث لا توجد حقيقة نهائية، بل تأويلات متشظية تتناسل إلى ما لا نهاية.

المثير في الرواية أن البطل كاتب... لكنه كاتب فاشل. لا ينشر. لا يُقرأ. لا يُردّ عليه. وكأن الكتابة هنا ليست وسيلة للخلود، بل مرآة أخرى للخيبة. في مفارقة لاذعة، يتلقى الكاتب رسائل جنسية مزيفة، ووعودًا بمنح مالية وهمية، بينما ترفض دور النشر أعماله. هنا، تفقد الكتابة قدسيتها القديمة، وتتحول إلى مجرد أثر طيفي – محاولة بائسة لالتقاط العالم قبل أن يغرق نهائيًا في الضجيج الرقمي. فهل الرواية ضد التصنيف، مع الحرية؟

وماذا عن "آساف" و"نائلة" بين الأسطورة والعزلة الحديثة التي تعكس تطورات الفكر الإنساني وتفاعلاته مع محيطه؟ وهل المحاكاة الرابعة هي نموذج مثير للجدل والجمال الأدبي؟
هذه المحاكاة يتداخل فيها الطابع الأسطوري مع التفكك العصري، والخيال الجمالي مع الوحدة النفسية في رحلة الإنسان المعاصر بحثًا عن معاني الجنس، والحب، والتواصل، والوجود. يقدم هذا النص ازدواجية غنية بين الرمزية الأسطورية والواقع الافتراضي العصري. من منظورين أساسيين: الرمزية الأسطورية التي تتجسد في العلاقة بين "آساف" و"نائلة"، وتأثير العصر الرقمي على العلاقات الإنسانية.

آساف ونائلة، اللذان يعكسان علاقة معقدة ومشحونة بالتوتر بين الأرض والسماء، الخصوبة والدمار، يُمثلان رموزًا أسطورية ترتكز في قلب العلاقة بين الرجل والمرأة. تصبح هذه العلاقة هنا محاكاة للطبيعة نفسها، حيث يغرق السارد في رحلة حسية تُعيد الحياة للأرض، وتُخصبها كما خصب العلاقة بين "آساف" و"نائلة". من خلال هذا التزاوج بين الاثنين، يظهر تأثيرهما المباشر على الطبيعة، مما يطرح مفهومًا جديدًا للجنس كفعل مقدس، يتجاوز مجرد اللقاء الجسدي ليصبح مصدرًا للقوة الإبداعية، والأمل، والحياة. الخصوبة هنا ليست مجرد عنصر طبيعي أو جنسي، بل هي رمز للتحوّل والخلق المتواصل. يتم ربطه بظاهرة أسطورية حيث ينتقل الجنس من كونه مجرد تجربة حسية إلى فعل ميتافيزيقي يتداخل مع معالم الوجود نفسه، وهو أمر يتناسب تمامًا مع فكرة أن الطبيعة والحياة البشرية متداخلتين بشكل لا يمكن فصلهما. أما نائلة، التي تعتبر امتدادًا لهذه القوة الإبداعية، تُبرز صورة المرأة كمُنبع خصوبة روحي وجسدي على حد سواء. فماذا عن التأملات الذاتية والعزلة في العالم الرقمي؟

ثم ينقلنا مازن عرفة من أفق الأسطورة، ليُفاجئنا في قسمه الثاني بنقلة إلى عالم آخر تمامًا. هنا، نكتشف حياة شخص وحيد في ألمانيا، عابرًا للحظات تفككه الداخلي. هذا التحول يظهر من خلال سرد بسيط لكنه عميق. يعيش السارد في عزلة قاتلة، محاطًا بتكنولوجيا حديثة تحاول تعويض نقص التواصل الإنساني التقليدي. وهنا يظهر التضارب بين رغباته في الانغماس في محيطه الافتراضي وبين عزلته العميقة. حيث لا يُعتبر الجنس مجرد فعل فسيولوجي، بل يتحول إلى فعل افتراضي، حيث يبدأ السارد في تأملاته عن العلاقات عبر الإنترنت التي تعوض غياب التواصل الجسدي. المعاناة من الوحدة والانفصال الاجتماعي تُحاكي أسئلة عميقة في العصر الحديث عن الفجوة بين الحياة الحقيقية والافتراضية، بين الحضور المادي والتواجد الرقمي. هذه الديناميكية تجعلنا نتساءل عن قيمة التواصل في عصر يُهيمن فيه على العالم الصور الرقمية والتفاعلات الافتراضية. فماذا عن النسيج بين هاتين الوجودين، الأسطوري الرقمي والعزلة البشرية؟
يُظهر الراوي للقراء كيف أن الإنسان المعاصر غارق في تكنولوجيا تتسارع تطوراتها بينما يتفاقم شعوره بالوحدة، متسائلًا: هل تستطيع العلاقات الرقمية أن تعوض فقدان الإحساس بالوجود الفعلي؟ وهل سيظل الجنس والحب مفهومين مرتبطين بالواقع المحسوس أم سيتغيران في العالم الذي تهيمن عليه التكنولوجيا؟
كما يضع القارئ أمام تساؤلات حيوية عن معنى الوجود، الجنس، والعلاقات في العصر الرقمي. بتوظيفه للرمزية الأسطورية جنبًا إلى جنب مع النقد الثقافي للعزلة التكنولوجية، تُبرزالرواية فوضى العصر الحديث الذي يعاني من الانفصال الداخلي بينما يسعى لحلول خارجية في شكل التواصل الافتراضي. الرواية بشكل عام تدعو القارئ إلى التأمل في ما إذا كانت تكنولوجيا المعلومات، على الرغم من غزارتها، قد عوضت حقًا عن الفراغات العاطفية والنفسية التي نشعر بها كأفراد في هذا العصر المتسارع. لكن يبقى السؤال المركزي في المحاكاة الرابعة: هل يمكن أن يعيد الجنس المعاصر، المعبر عنه في وسائل تكنولوجية وواقعية، بناء الجسور المفقودة بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ذاته؟

محاكاة متعددة في رواية ليست سهلة، ولا تسعى لأن تكون كذلك. إنها رواية تفكك اللغة، وتفضح الأوهام، وتجرّب كل شيء. تضع القارئ أمام مرآة عارية، وتدعوه للتساؤل: هل نعيش في واقع أم في حكاية؟ هل نكتب نحن الرواية أم تُكتب بنا؟ هل ثمة خلاص في الكتابة؟ أم أن الخلاص مجرد محاكاة أخرى؟
الرواية تطرح فكرة مثيرة أن النوستالجيا قد تكون نافذة لفهم الكون. في هذا الإطار، نجد أن الكاتب يستخدم صور الطفولة البسيطة، مثل مشهد الطفل على سطح المنزل الريفي تحت السماء المرصعة بالنجوم، كرمز للبحث عن المعنى. هذه اللحظات التي يراها الكاتب مفعمة بالدفء الأسري والبراءة، تصبح نقطة انطلاق للتأمل في الأسئلة الوجودية الكبرى. هنا، لا تعتبر الطفولة مرحلة زمنية فقط، بل بوابة لرؤية العالم من منظور يتجاوز الواقع المادي، إلى محاولة فهم الحركة الكونية والوجود الإنساني في ذلك الفضاء اللامتناهي. الخيال العلمي في الرواية هو جسر فلسفي؟
أما عن سؤال هل الخيال العلمي في الرواية هو جسر فلسفي؟ فالإجابة هي نعم، إذ يتبنى الكاتب تقنيات الخيال العلمي كوسيلة لاستكشاف مفاهيم فلسفية معقدة مثل الزمن، الوعي، والمجالات الكونية. والخيال العلمي هنا لا يهدف إلى التسلية أو المغامرة المستقبلية، بل يعكس أداة فكرية تتيح للكاتب أن يطرح تساؤلات حول وجوده ووجود العالم من حوله. إذ تنشأ كائنات من أبعاد كونية عليا، وتطرح صور وحضارات تتجاوز فهم الإنسان، كل ذلك في سياق فهمه الخاص للزمن والوجود.

الزمن في هذه الرواية لا يعد مجرد بُعد فيزيائي، بل هو خصم وجودي مستمر. يرتبط الزمن هنا بفكرة العود الأبدي (Nietzsche) التي تشير إلى تكرار دورات الزمن والعجز عن الخروج منها. إن الأشخاص في هذا العالم يعيشون في دوامة زمنية لا يمكن الخروج منها، تمامًا كما في المسلسل "دارك"، حيث تتكرر الأفعال
والأحداث بشكل متسلسل ومؤلم، دون القدرة على تغيير المصير.

وفي ذروة الأزمة الوجودية في الرواية، يتحول العالم إلى صور متكررة، وتصبح الحياة مشهداً سينمائيًا يتكرر بلا نهاية. وتظهر فكرة "الكون المحاكى"، المستمدة من فرضيات علمية حقيقية، والتي تشكك في الواقع الذي نعيشه. هنا، يبدأ الكاتب في التساؤل حول حقيقة وجوده وحقيقة ذكرياته، حيث تصبح الذات نفسها، كما الأفراد والذكريات، مجرد انعكاسات أو صور هولوغرافية. وهذا يشير إلى حالة من الجنون الوجودي، حيث يتم مسح الفواصل بين الخيال والواقع.

الرواية تنتقد أيضًا العنف الذي يُعرض في الأفلام الهوليودية، ويربط هذا العنف بما شهده الكاتب في بلاده من عنف حقيقي، ما يعكس العلاقة بين الترفيه والإجهاد النفسي والعاطفي في عالم يعاني من الحروب والدمار. فكرة العنف السينمائي تتحول إلى نقد اجتماعي وثقافي، ويعكس التوتر بين الواقع المتخيل والواقع الفعلي. إذ تعكس انفتاحًا على الحياة الحديثة وتوجهاتها الاجتماعية، مع التركيز على التغيرات الجسدية، التوجهات الجنسية، والعلاقات متعددة الأبعاد. كما تبرز التزامًا قويًا بالقيم البيئية والأخلاقية التي تدعم التنوع واحترام خيارات الآخرين. في الوقت نفسه، تحتوي على تأملات حول التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، مثل مسألة الدين، والحدود الاجتماعية، والضغط على الأفراد. كما أن القسم الثاني الذي يحتوي على رسائل نافذة للتعرف على أفكار شخص ينتمي إلى جيل شاب يتبنى أفكارًا غير تقليدية عن الحياة، الحب، السياسة، والدين. الرسائل الأخرى، التي تمزج بين التجربة الشخصية والتأملات الفلسفية، تقدم رؤية عن الحياة المعاصرة من خلال عدسة الشخص الذي ينظر إلى العالم من مكان ما في قلب أوروبا، حيث يختلط التقدير للحرية الفردية مع الأسئلة الكبرى عن الأخلاق والجماعية والبيئة من عدة جوانب: الفلسفية، الاجتماعية، السياسية، والدينية، وتقيم مدى تأثير هذه القيم في فهم الإنسان لعلاقاته الذاتية والعالمية. فماذا عن الانفتاح على الأبعاد الشخصية والتوجهات الجنسية؟

في قلب الروايات ذات البنية المركّبة، غالبًا ما تظهر الرسائل لا كوسيلة تواصل فحسب، بل كنافذة كاشفة على الذات والآخر، وكأداة سردية تقاوم النسيان والعجز عن التعبير العلني. وفي قسم الرسائل من الرواية، تتجلّى هذه الوظيفة الأدبية بعمق نفسي وجمالي ملفت، حيث تتحوّل الرسائل من مجرد خطاب شخصي إلى قطعة نثرية ذات بنية روائية داخل الرواية الأم، تحمل مشاعر معقدة، وتعيد تشكيل العلاقة بين الكاتب والمتلقي، وتؤسس لخطاب وجداني يتجاوز الزمان والمكان. تبدأ رسالة من الرسائل بلغة شخصية، وشيجة، ولكنها مشحونة بتوتر داخلي واضح، حيث يطلّ السارد (مرسل الرسالة) من خلف سطور مترددة، مشوّشة، تشي بالحذر والمرارة والحنين في آن. يقول مثلاً: "لا تسألي عن الوقت الذي استغرقته حتى قررت الكتابة إليك، ولا تلومي قلبي الذي أخذك إلى زاوية ما في وجدانه ثم أغلق عليك الباب." هذه الجملة وحدها كفيلة بتقديم صورة بانورامية عن علاقة انقطعت أو تغيرت أو تراكم فوقها الصمت. السارد هنا ليس فقط يكتب لمن يحب، بل يكتب ليعيد تشكيل معنى الحضور، ليقول ما لم يستطع قوله أثناء التماس المباشر. إنّه يعترف، يبرر، يحاور نفسه قبل أن يخاطب الآخر. وهذه خاصية فريدة في السرد الرسائلي، حيث يتقاطع الاعتراف الداخلي مع الخطاب الخارجي في لغة واحدة متوترة ومليئة بالتناقض.
من الناحية الفنية، تتعامل الرواية مع الرسائل باعتبارها سردًا قائمًا بذاته، إذ لا تكتفي الرسالة بملء فراغ بين فصلين أو شرح حدث ماضٍ، بل تصبح حلبة يعيد فيها السارد بناء العلاقة بينه وبين المتلقي من جهة، وبينه وبين نفسه من جهة أخرى. هذه التقنية تتيح إمكانيات متعددة: توسيع المنظور السردي: إذ تنتقل زاوية الرؤية من راوٍ عليم إلى صوت شخصي ذاتي. التوتر الزمني: لأن كتابة الرسالة تعني غالبًا التفاعل مع حدث مضى، من موقع زمني لاحق، ما يخلق تباينًا دراميًا. اللغة الحميمة: حيث تتحرر الرسالة من مقتضيات اللغة الروائية الرسمية، لتكشف عن صوت شخصي خالص، يعكس حالته النفسية، واختياراته الأسلوبية. ما يلفت الانتباه في الرسالة المرفقة، هو التداخل بين خطاب الحب والعتب، وبين الحنين والتخلي. يقول السارد: "حاولت أن أكرهك أكثر من مرة... لكني كنت أعود لك كما يعود الطفل لدفء أمه بعد عاصفة خوف." هنا تتحول الرواية إلى مسرح داخلي، تتصارع فيه المشاعر المتضادة. الكراهية، الحب، الحنين، الألم، كلها مشاعر تتجسد بصيغ بلاغية دافئة، لكنها لا تُخفي هشاشتها. هذه اللحظات الشعورية هي جوهر الرسالة، إذ تتحول الرسالة إلى مونولوج داخلي معلّق، موجّه للآخر لكنه موجّه أكثر للذات التي تبحث عن خلاص عاطفي عبر الكتابة. فهل بلاغة التردد والانكسار من السمات الأسلوبية البارزة في هذه الرسالة كثافة الأفعال المرتبطة بالتردد والشك والانكسار، مثل: "أردت"، "حاولت"، "لم أستطع"، "خشيت". هذا الحشد اللغوي يعكس مأزق الذات المحبة: بين الحاجة للبوح والخوف من العواقب، بين الغياب والرغبة في الترميم. الرسالة هنا ليست إعلان حب، بل تأبين له، محاولة أخيرة لإنقاذ ما تبقّى من صورة الآخر.
إن قسم الرسائل في الرواية لا يعمل كحشو أو استطراد، بل هو قلبها النابض، لُبّها الوجداني، وعينها التي تبكي وتضحك وتغضب. الرسالة ليست مجرد وثيقة تشرح ما حدث، بل تجربة شعورية كاملة، مكتوبة بحبر الألم والحنين، مشبعة بالمجازات والتردد والصدق العاري. وبذلك، فإن هذا القسم يعيد الاعتبار للكتابة كوسيلة خلاص، ويمنح الرواية بعدها الأعمق، الأكثر إنسانية وصدقًا. فهل من انهيارات وجودية والتشويش الذهني ما بين المحاكاة والرسائل؟

إنها رواية تشبه العبور بين الأكوان، بين الوعي واللاوعي، وبين الحدود الهشة للواقع وظلاله. ينقسم النص في بنيته العميقة إلى شقين متكاملين: الأول يُبنى على سرد حلمي مكثف، قريب من المحاكاة الميتافيزيقية، والثاني يُفكك عبر رسائل، أو رؤى ذاتية/شخصية، يحاول من خلالها الراوي القبض على ذاته الممزقة في المنفى، والمنشطرة بين الذاكرة والاغتراب.

رغم تلك الانهيارات الوجودية والتشويش الذهني ما بين المحاكاة والرسائل، يظل هناك خيط رفيع يربط الكاتب بالمعنى: الكتابة نفسها. الكتابة تصبح وسيلة للتمسك بالذات، ووسيلة للإمساك بما لا يمكن الإمساك به: الوعي، الوجود، وربما الخلاص. في هذه الرواية، نجد أن الأدب المعاصر في جوهره هو التأمل في الذات الإنسانية، في صراعها مع الزمن، المكان، والوجود، في محاولة لإيجاد معنى في عالم متناقض مليء بالصور والذكريات المتكررة. كما أن الأسلوب الرمزي والمجازي الذي يعتمد عليه قد يصعب فهمه لبعض القراء، ويحتاج إلى قراءة متأنية لفك طلاسم المعاني العميقة التي يعبر عنها. في حين أن هذا قد يضيف طبقات غنية للمعنى، فإنه في ذات الوقت قد يجعل الرواية أقل قابلية للفهم بالنسبة لجمهور أوسع.


بالرغم من ذلك، يقدم مازن عرفة تجربة عقلية وفكرية مثيرة، تدعو القارئ للتفكير في معنى الحياة، الوعي، والوجود. العود الأبدي لا يقدم إجابات بقدر ما يطرح أسئلة تُغذي العقل وتشعل الخيال. رواية عن المحاكاة، عن الألم المستمر، وعن الوجود في دوامة لا نهائية، تجعل من البطل شخصية محاصرة في رحلة متواصلة نحو فهم ذاته والمحيط حوله. وفي النهاية، تظل الرواية مفتوحة على الكثير من الأسئلة، مما يضمن لها مكانًا في قائمة الأدب المعاصر الذي يثير الجدل والنقاش.

إن هذه الرواية، بكل ما تحمله من عمق فكري وفلسفي، تقدم لنا رؤية معقدة للإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم مليء بالتناقضات: عالم يتنقل بين الخيال والواقع، بين الحلم والذكريات، وبين الأبعاد الكونية والأبعاد الشخصية. فالرواية كصرخة جمالية ضد التكرار، وضد التنميط، ومع الحكاية التي تحكي نفسها بنفسها – حكاية مفتوحة، تتغير كلما أعيدت قراءتها. دعوة لفهم التعقيدات التي تواجه الأفراد في بيئات متعددة، حيث تتقاطع الهويات الثقافية، الدينية، والاجتماعية.

هذا التوجه الروائي متعدد المحاكاة يفتح إمكانيات سردية خصبة، ويجعلك تتعامل مع الواقع بوصفه نسيجًا هشًا قابلًا لإعادة التشكيل. وعلى مستويات متداخلة: أولاً محاكاة فلسفية/ميتافيزيقية (وعي كوني، سؤال الوجود والمحاكاة). ثانيًا محاكاة واقعية/معاصرة (كاتب منفصل عن العالم، بين العزلة والمنفى، والنشر والرفض). ثالثًا محاكاة غرائبية/أسطورية (كائنات ما بعد الحكاية، رموز تمثل الاضطراب، والانفلات من منطق الزمن والعقل).

يمكننا القول إن هذه الرواية هي تجسيد لصراع دائم لا يتوقف، ولكنه ليس صراعًا مُدمّرًا، بل هو صراع يُفضي إلى إضاءة جوانب متعددة للذات الإنسانية. يبقى السؤال: هل نعيش فعلاً في محاكاة؟ وهل يمكن للخيال العلمي والنوستالجيا أن يكونا مفتاحًا لفهم الوجود؟ كيف نعيش في عالم يتغير بسرعة، وكيف يمكننا أن نحافظ على هويتنا في عالم لا يعترف بسهولة بالجذور؟ وهل نحن أمام تحول في شكل الرواية العربية المعاصرة؟ أم أمام هذيان عبقري يُخفي نبوءة أدبية قادمة؟
طرابلس-لبنان الخميس في 8 أيار عام 2025الساعة الرابعة عصرا



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -وادي الفراشات- لكل من فقد شيئًا في حياته ولم يجده بعد
- الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ
- الحياة في ظل قناع رجل
- في حضرة العشق الطاهر
- الذاكرة المظلمة
- الشعر بين التقليد والحداثة قراءة في رؤية نزار دندش للأدب
- تبقى الديمقراطية هي الفاعلة
- حين تصير الموسيقى امتدادًا للروح
- الدراما السياسية في سيرة معاوية بن أبي سفيان بين التاريخ الم ...
- -البطل- معركة الإنسان مع نفسه في زمن الفوضى
- لام شمسية- وآثاره في مواجهة قضايا التحرش بالأطفال عبر الدرام ...
- الدماء التي لا تنسى -فهد البطل- وجوهر الصراع الأخوي
- أم هاشم وحقل الشوفان
- حديقة -الامريكان في بيتي- وشجرة الالوان
- خط النجمة البيضاء في رواية الشوك يزهر للروائي هاري مارتينسون ...
- هل الرواي اداة وظيفية دالة..؟
- صلاة لبداية الصقيع
- زمن ما قبل الذاكرة – قراءة في رواية ساق البامبو
- المشرقي القادم من شريط حدودي محتل
- شاعرات من الدول العربية في اليوم العالمي للمرأة والشعر


المزيد.....




- -الصليب الملتوي-: الرواية المفقودة التي وجّهت تحذيراً من أهو ...
- بعد 80 عامًا من وفاة موسوليني ماذا نتعلم من صعود الفاشية؟
- مطربة سورية روسية تحتفل بأغنية في عيد النصر
- مركز السينما العربية يكشف برنامجه خلال مهرجان كان والنجمان ي ...
- فيلم وثائقي يكشف من قتل شيرين ابو عاقلة
- بعد 21 يوما من وفاته.. تحديد موعد دفن الإعلامي عطري صبحي
- مصر.. رفض دعاوى إعلامية شهيرة زعمت زواجها من الفنان محمود عب ...
- أضواء مليانة”: تظاهرة سينمائية تحتفي بالذاكرة
- إقبال على الكتاب الفلسطيني في المعرض الدولي للكتاب بالرباط
- قضية اتهام جديدة لحسين الجسمي في مصر


المزيد.....

- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-