أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - -عقد ونصف العقد- لجمانة حداد بين نصل الحبر ومِداد التجربة















المزيد.....

-عقد ونصف العقد- لجمانة حداد بين نصل الحبر ومِداد التجربة


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 14:07
المحور: الادب والفن
    


في كتابها "وصايا شهرزاد الأخيرة"، تعود جمانة حداد بعد خمسة عشر عامًا من صدور عملها النسوي الصادم "هكذا قتلتُ شهرزاد"، لا لتقدم مراجعة لتجربتها فقط، بل لتؤرّخ لجيل بأكمله من النساء في مجتمعات عربية لا تزال مثقلة بإرث أبويّ، ومكبّلة بقيود العار والشرف، ومأسورة بنصائح مفخّخة تُحاك للمرأة منذ الطفولة باسم الحب، والنجاح، والأنوثة. هذا الكتاب ليس فقط وثيقة شخصية، بل هو بيان نسوي، اعترافي، وجداني، وفكري، يضع القارئ أمام مرآة الزمن ومرآة الذات في الآن ذاته. فهل التحرر من التقاليد الموروثة التي تكبل الوعي يمكن أن يُفهم خطأ إذا غاب عنه وعي المسؤولية والحدود الاجتماعية؟ وهل قد يُفسر كتحرر مطلق بلا ضوابط، ما يؤدي إلى فوضى أو تراجع في القيم التي تحمي المجتمع؟

تميّزت حداد منذ بداياتها بجسارة لغتها، لكنها في هذا النص تتجاوز اللغة الثائرة إلى لغة أكثر نضجًا وتأملاً، لغة امرأة خاضت تجارب شتى، وخرجت منها لا بأجوبة بل بوعي حاد. فالكتاب الذي بين يدينا لا يلتزم حدودًا جنسية (genre) واضحة، بل ينهل من المقال الشخصي، والسيرة الذاتية، والبيان النسوي، والمقال النقدي. نحن إزاء كتاب يشبه صاحبة قلمه متمرد، مثقف، متمرّس في الحفر داخل اللغة والمعنى، ومصرّ على انتزاع الاعتراف بالحقيقة. فهل الجندر كأداة تحليلية هو سلاح مقاومة؟ وهل تتحول الحرية إلى أداة تؤذي بدلًا من أن تحرر؟

تستند حداد في تحليلها للظلم إلى عدسة جندرية واضحة؛ فالنظام البطريركي، في رأيها، لا يقتصر على الرجال، بل يتلبّس النساء أيضًا. النسوة اللواتي يروّجن لـ"التمنّع"، ولأساليب "الصيد" العاطفي، إنما يقمن بدور الحارس الأمين لأسوار الذكورية. تقولها بوضوح: الذكورية ليست خصيصة بيولوجية بل ثقافية؛ إنها سلوك وقناعة ومنظومة. هذا الوعي هو ما يجعل خطاب حداد أكثر عمقًا من مجرد رفض سطحي لأشكال القهر؛ إنها تحفر في الجذور النفسية، التربوية، والاجتماعية لهذا القهر. ولكن هل المجتمع الحالي أو حتى العالمي يستطيع فهم هذا التوازن بين الحرية والحدود بشكل جيد؟ أترك هنا السؤال: كيف يمكن أن نعلم الأجيال التحرر الواعي الذي يحترم النفس والآخرين في نفس الوقت؟

قد يفاجئ البعض كلامي، لكن ما جاء في كتابها يتماشى مع رؤيتها التي تجمع بين التحرر والوعي، بحيث لا تكون الحرية مفرطة بلا فهم، ولا قيدًا بلا مبرر. إذ تتخذ حداد من الحب ساحةً للمقاومة، حيث ترفض فكرة "اللعبة" بين الجنسين، وتدعو إلى حبّ عارٍ من الأقنعة، صادق في ضعفه وقوته، تلقائي في عطائه، حرّ في اختياره. وترى أن وصفات الحب السائدة ليست إلا وصفات ذكورية تخفي وراءها عقد النقص الجماعية، والمازوخية النفسية، والعلاقات المختلّة التي تُبنى على فقدان الأمان الذاتي. تصف هذه العلاقات بـ"التخلّف العلاقاتي" – تعبير بليغ يلخّص حال مجتمعات لم تبلغ سنّ الرشد العاطفي بعد. من الجوانب اللافتة في النصّ هو تأمّل حداد في التربية، لا كفعل تعليمي، بل كفعل أيديولوجي. تطرح سؤالًا مفخخًا: هل تُربّى المرأة على الثقة بنفسها؟ أم تُبرمج منذ نعومة أظافرها على أنها ناقصة، لا تستحق، يجب أن "تجذب" لا أن تُحبّ؟ تُظهر الكاتبة كيف أن التنشئة الأولى هي مختبر الذكورية الأهم، حيث تنشأ الطفلة على مراقبة نفسها، وتعلّم إخفاء حقيقتها، لتناسب نموذجًا تمّ رسمه لها مسبقًا. فهل الصدق هو أخطر أشكال الأدب؟

الأسلوب الأدبي مباشر، صادم أحيانًا، لكنه مفعم بالصدق والتجربة الشخصية. تسرد جمانة حداد بصيغة اعترافية، مما يمنح الكتاب قوة وتأثيرًا وجدانياً ومعرفياً، وهذه الإعترافات – إن صح القول – ليست فقط عن الجنس، بل عن الهوية، الحرية، الجسد، الثقافة، والألم الشخصي والجمعي. فقوة هذا الكلام ليست فقط في أفكاره، بل في صراحته. تعترف حداد بما تخلّت عنه، بما فشلت فيه، وبما لم تنجح بعد في فهمه. إنها لا تدّعي النقاء، ولا الكمال، بل تمارس فضيلة الوعي النقدي تجاه الذات. وهذا، في رأيي، أعلى مراتب الكتابة النسوية: أن تُعرّي المرأة نفسها من دون خوف، وتصرخ في وجه العالم لا مطالبة بالشفقة، بل بالعدالة. فهل هذا خطاب نسوي بامتياز؟ وهل يتجاوز النوع والجندر ليخاطب كل من يسعى إلى التحرر من قيود الجهل والخوف والتقاليد؟

في زمن تُسلّع فيه الحركات النسوية، وتُستَثمر لصالح "النسوية النيوليبرالية" التي تحصر تمكين المرأة في الاستهلاك والمظهر والنجاح الفردي، يأتي كتاب "عقد ونصف العقد" ليعيد النقاش إلى جذوره: العدالة، المساواة، تفكيك النظام الأبوي من الداخل. لا تسعى حداد إلى بناء أيقونة جديدة، بل إلى كسر أصنام قديمة: المرأة التي يجب أن تُعجِب، الرجل الذي يجب أن يصطاد، العلاقة التي يجب أن "تنجح" بكل ثمن.

"يا لصفاقة هذا العمر"، تقول حداد، وهي محقة. فالعمر يمر، والأنظمة تظلّ، والظلم يُعيد اختراع أدواته. لكن الكلمة باقية. وحداد تكتب لا لتقول الحقيقة فقط، بل لتصنع منها سلاحًا، لعلّه يفتح نافذة في جدار العتمة. "عقد ونصف العقد" ليس مجرد كتاب جديد، بل هو تمرين على التذكّر، وممارسة في التمرّد، ودرس في كيفية أن نحمل جراحنا بفخر، ونحوّلها إلى نوافذ. هذا الكتاب ليس لكل قارئ. إنه كتاب للقارئ الشجاع، الذي لا يخشى أن يرى الحقيقة في مرآة الأدب. فماذا لو قارنت بين جمانة حداد ونانسي ميتفورد والحب بين الهشاشة والعمق؟

حين تتأمل تعريف جمانة حداد للحب في "عقد ونصف العقد"، تجده حادًا، صريحًا، عاطفيًا، وأحيانًا هشًّا أمام واقعية العصر. تقول حداد: "الحب هو صدق، تلقائية، حرية، وجرأة في منح الذات من دون قناع أو لعبة." هذا تصور مثالي، شديد الرغبة في المطلق، لكنه في ذات الوقت مهدد دومًا بالتلاشي أمام سرعة الزمن، وتقلّب العلاقات، ووعي الفردانية الحديثة.

في المقابل، تقف نانسي ميتفورد في The Pursuit of Love، متخذة موقفًا ساخرًا، واقعيًا، ورومانسيًا بأسلوب فاتر الوجدان. الحب عند ميتفورد لا يُقدّم كحالة مثالية، بل كجزء من نسيج اجتماعي مليء بالتناقضات، التوقعات، والكثير من العبث. بطلتا الرواية، ليندا وفاني، تجسدان السعي وراء الحب لكنه سعي تراجيدي-كوميدي، حيث العلاقات تُبنى وتُهدم ضمن بنية طبقية، وزمن سريع التحوّل، تمامًا كزمننا هذا. فأين يكمن الاختلاف الجوهري؟

حداد تؤمن بقدرة الحب على التحرير، رغم هشاشته. إنها تريد استرداده من نظام العلاقات المعلّبة والمشروطة، وتحلم بعلاقة لا يفسدها الخوف، ولا تقودها الخدع، بينما ميتفورد، على النقيض، ترى الحب كمغامرة مشوّشة، لا تنجو من العبث الإنساني، واللامنطق، والخذلان. شخصياتها تبحث عن "المطلق"، لكنها تصطدم دومًا بـ"العابر".

هشاشة حداد ليست ضعفًا، بل موقف. هي تعترف بأن الحب، في زمن تحوّل إلى "ماراثون فردي"، لم يعد سهلاً، لكنه يستحق السعي. أما ميتفورد، فهي تشكّك أصلاً في جدوى هذا السعي، وتلجأ إلى السخرية لتفكيك المثاليات. فحداد تكتب الحب بلغة الحلم الجريح، فيما تصفه ميتفورد بلغة العقل المرِح. كلاهما، في الحقيقة، تكشفان عن هشاشة هذا المفهوم في زمن لا يملك ترف الانتظار، لكن حداد لا تزال تؤمن بأن الحب ممكن، شرط أن يولد من عمق الحرية. أما ميتفورد، فتبتسم وتهمس: "ربما... لكن لا تراهن عليه كثيرًا."

في عالمٍ تتنازع فيه القوى الاجتماعية والدينية والاقتصادية على جسد المرأة وروحها، تبرز النسوية كصرخة تحرر، لا من أجل النساء فحسب، بل من أجل الإنسان كلّه. وفي قلب هذا التحرر تقع العلاقة بين الحب والجنس والكرامة. تلك العلاقة التي لم تُصفَّ يومًا من رواسب السلطة الأبوية والتنشئة الخانقة والمفاهيم المزدوجة. كتاب كهذا لا يمكن أن يُقرأ قراءة سطحية. إنه شهادة ذاتية، صادقة وموجعة، تتقاطع فيها التجربة الشخصية مع النقد الثقافي والاجتماعي والسياسي، في مقاربة جريئة لمفاهيم يُخشى تداولها، ويُستنكر الخوض فيها، خصوصًا عندما تأتي من امرأة، وبصوت عالٍ. جمانة حداد لا تكتب عن "الجنس النسوي" كترف فكري أو تكرار شعارات، بل كحاجة وجودية، كتجربة جسدية ونفسية ومعرفية تتطلب مصالحة الذات مع الجسد، وفك الاشتباك بين اللذة والشعور بالذنب. هي تفضح إرثًا ثقافيًا ضخمًا يربط العفّة بالشرف، ويجعل من غشاء البكارة معيارًا للأخلاق، ومن خضوع المرأة فضيلة، ومن سكوتها رضا. (لكن هذا لا يعني الانفلات الأخلاقي). فهل حداد تقدّم فهمًا مختلفًا للجنس والحب، ليس كخطيئة أصلية، بل كحق إنساني لا يُخضع للرقابة إلا بمقدار ما تفرضه الحرية والوعي والرضى؟ الجنس النسوي، كما تطرحه، لا يعني أن تلبس الرغبة قناع الأيديولوجيا، ولا أن تتأنق الشهوة بلباس "الصواب السياسي"، بل أن تكون حقيقية، متجذّرة في الإدراك، نابعة من إرادة الطرفين لا من واجب اجتماعي أو صفقة زوجية.
الرواية تفتح أبوابًا للنقاش المؤجل: هل يمكن للمرأة أن تكون نسوية وسادية أو مازوشية في آن واحد؟ هل تتنافى النسوية مع بعض الرغبات الجنسية الموصومة؟ وهل يحق للمجتمع أن يحاكم رغباتنا التي تتكوّن بعيدًا عن سلطته، ما دامت لا تؤذي أحدًا؟ الجواب، بكل وضوح، هو: لا. الكاتبة تنجح في تفكيك الأسطورة المتكررة بأن النسوية "تكره الرجال". تؤكد أن ما ترفضه هو الظلم، لا الذكر، وأن ما تقاتله هو التمييز، لا الحب. هي لا تدعو إلى صراع، بل إلى شراكة، لا إلى تقويض الحب، بل إلى تطهيره من الهيمنة والتوقعات الجندرية المفخخة.
هذه شهادة تُعرّي ليس فقط البنية الذكورية التي تحكم العلاقات العاطفية والجنسية، بل أيضًا التشوّهات النفسية التي ترافق المرأة طوال حياتها: جلد الذات، الشعور بالذنب، الازدواجية بين الرغبة والمبدأ. وهي تُعلن أن الخلاص لا يكون بإنكار هذه المشاعر أو قمعها، بل بوعيها، وبالاعتراف بأنّ التحرر لا يعني الكمال، بل الصدق. (الوعي بحد ذاته يصقل المفاهيم عند الجنسين)
نحن أمام مفهوم جدلي بقدر ما هو وجودي، تربوي بقدر ما هو شهواني. كلام يُعيد تعريف الحب لا كمصادفة رومانسية، بل كفعل حرّ وناضج، لا يتحقق إلا حين تكون المرأة (والرجل) حرة في أن تقول "نعم" عن رغبة، و"لا" عن قناعة. فهل هناك جنس نسوي؟
نعم، إنه الجنس الذي نريده نحن، لا الذي يُراد لنا. وهل هناك حبّ نسوي؟ نعم، هو الحب الذي لا يعرف هيمنة، ولا يرتهن لصورة مسبقة.
يُعتبر اعتراف جومانا حداد شهادة حية على صراع الذات مع الهويات المتداخلة في عالم ينهار فيه القديم، ويُفتش عن الجديد، خاصة في مسألة النسوية والهوية الجندرية. عبر طرح سؤال مركزي حول وجود "الرجل النسوي"، يتناول النص أبعادًا حساسة تتعلق بتداخل الثقافي والاجتماعي والنفسي في بناء المواقف تجاه قضايا المرأة والرجل في زمن التحولات الاجتماعية العميقة. هل يوجد «رجل نسوي»؟ تطرح حداد تساؤلًا جوهريًا: «هل هناك كائن اسمه ‘رجل نسوي’، أم هو محض فبركة... كائن أسطوري؟» هذا السؤال لا يعكس شكوكًا سطحية، بل يشير إلى حالة من التشكيك العميق في مفاهيم يتم تداولها في الخطاب النسوي والرجالي المعاصر. بوضوح، تقول الكاتبة إن «الرجل النسوي حقيقة بالتأكيد، واقع مثبت وليس وهماً ولا خيالاً ولا اختراعًا»، لكنها تذكر أيضًا «ازدواجية» الكثيرين الذين يتبنون هذا اللقب من باب المظاهر لا الجوهر، ما يطرح قلقًا حول صدقية الخطاب النسوي لدى الرجال. هذا التمييز مهم لأنه ينفي الخلط الشائع بين الرجل النسوي والرجل الأنثوي، حيث توضح: «الرجل الأنثوي يمكن أن يكون نسويًا، أو ألّا يكون نسويًّا، والعكس بالعكس»، ما يؤكد ضرورة إعادة تعريف المصطلحات بوعي دقيق بعيدًا عن الصور النمطية. فهل النساء الذكوريّات ضحية أم جلادة؟

ينتقل النص إلى محور آخر يثير إشكالًا معقدًا، وهو دور بعض النساء في إعادة إنتاج التمييز والظلم، خاصة عبر ممارسات ذكورية داخلية. تُبرز الكاتبة أن «المصيبة الذكورية واحدة»، وتشير إلى نساء يكرهنّ أنفسهنّ ونساء أخريات، ويلعبن دورًا في ترسيخ أدوار متحيزة، سواء بالتحالف مع الرجال أو من خلال تأدية دور الضحية بطريقة تجعل من النساء أخريات أعداء. هنا، يطرح النص سؤالًا عميقًا: «هل ينبغي أن نسامح النساء الذكوريّات ونتغاضى عن أفعالهنّ بحجة أنّهنّ ‘ضحايا’؟» وتجيب بنفي قاطع، داعية إلى عدم إيجاد أعذار قد تضر النضال النسوي.
يرتبط هذا الخطاب النظري بالتجربة الشخصية، إذ تسرد جومانا مواقفها في بيئة عمل مسيطرة فيها نساء ذكوريّات بقوة على الموظفات الأخريات. تصف مديرة العمل بأنها «امرأة قاسية، متسلطة سادية»، تحكم بقسوة وإذلال. هذه التجربة تسلط الضوء على تعقيدات السلطة بين النساء وكيف يمكن أن تتقاطع مع الأدوار الجندرية لتنتج ظواهر من الظلم الداخلي. في ذات الوقت، تعترف الكاتبة بحاجتها الإنسانية إلى الإعجاب والاعتراف، قائلة: «أثمن الإطراءات على مظهري بقدر ما أثمن تعبيرات التقدير حيال كتبي أو أفكاري أو ثقافتي»، معلنة بفخر أنها «إنسانة مقولبة» لكنها «صادقة وواعية وشغوفة». هذا المزيج من الوعي والقبول الذاتي يشكل نقطة تحررية مهمة في الكتاب.
الكتاب يختتم بتأكيد على أن الحرية ليست حالة نهائية، بل «رحلة مستمرة بلا نقطة وصول»، مؤكدًا على التحدي المستمر في مواجهة القولبات الاجتماعية والثقافية، حيث تقول الكاتبة: «استيعاب القولبة هو في معنى ما خيار. نحن أو بعضنا نتوخّى الحرية ونصبو إليها، لكنّنا نعرف أنّها تحدّ أكثر منها تحقّقًا». فالكتاب هو دعوة صادقة لقراءة الواقع النسوي والرجالي بمنظار مركب، بعيدًا عن القطاعات المسبقة أو الأحكام الجاهزة. عبر التساؤل حول وجود "رجل نسوي" وتحديد أدوار النساء في منظومة القوة والتسلط، يثري النص النقاش حول النسوية المعاصرة ويضع أمامنا تحديات التمييز المركب داخل الجنسين. كما أنه يشدد على أن التحرر الفردي والجماعي عملية مستمرة، تتطلب الصراحة مع الذات والآخرين، والابتعاد عن الصور النمطية والازدواجيات الزائفة. في عالم مليء بالتناقضات، يصبح الوعي بهذه التعقيدات هو الأساس لبناء حركة نسوية أكثر نضجًا وواقعية.

في النهاية أقول إنني، وبعد أن أنهيت كتاب وصايا شهرزاد الأخيرة، اتجهت نحو نانسي ميتفورد التي تطرقت لقضايا النساء والعلاقات الاجتماعية، إلا أن تناولها كان غالبًا من منظور فكاهي ونقد اجتماعي غير مباشر، وليس من موقع نقد نسوي أو تحليلي عميق للهوية الجندرية.

جومانا حداد في كتابها هذا تبدو أحيانًا صارمة وحازمة لدرجة أن بعض المواقف أو الانتقادات قد تُشعر بأنها قاسية أو حتى «ذكورية» في طريقة تناولها، خصوصًا لما تتحدث عن النساء الذكوريّات أو حتى في حدة نقدها للأدوار والأنماط الاجتماعية. هذا الأسلوب الحاد ربما ينبع من عمق معاناتها، ومن حاجة لإحداث تغيير جذري في بيئة ثقافية صعبة، حيث الحوار الهادئ قد لا يكون كافيًا.

أما نانسي ميتفورد، ففعلاً، تعطي إحساسًا بـنسوية رقيقة، تتنقل بين السخرية واللطافة، تنتقد دون أن تجرح بشكل مباشر، بل تحاول تزيح الغطاء عن الواقع عبر الفكاهة والذكاء. هذا النوع من النقد الهادئ يسمح للناس بالتأمل والتفكير دون شعور بالمواجهة الشديدة.

هما في النهاية انعكاسان مختلفان لأساليب النضال والتعبير عن القضايا النسوية: حداد تمثل صوت الثورة الصارمة والوعي الحاد في مواجهة الظلم، وميتفورد تمثل صوت التنوير الرقيق والسخرية الذكية.

بالنهاية، أترك هذا التساؤل للقراء: إلى أي مدى يؤثر السياق الثقافي والاجتماعي على أسلوب الخطاب النسوي لدى جومانا حداد ونانسي ميتفورد؟ وهل يمكن أن يُعتبر اختلاف الأسلوب بينهما انعكاسًا لخصوصيات بيئتهما أكثر من اختلافات أيديولوجية حقيقية؟
بيروت - يوم السبت 24 أيار 2025 الساعة 12 ظهرا



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الغيرة الناعمة في الفضاء الثقافي
- هل يمكن للمرأة أن تكون حرّة حقًا في مجتمعٍ لا يتقبل إلا ما ي ...
- هل عالم الصيحات هو عالم التآكل الأنساني؟
- الجرس الأخير وصراع الذات والحب في عالم مشوش
- وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-
- -وادي الفراشات- لكل من فقد شيئًا في حياته ولم يجده بعد
- الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ
- الحياة في ظل قناع رجل
- في حضرة العشق الطاهر
- الذاكرة المظلمة
- الشعر بين التقليد والحداثة قراءة في رؤية نزار دندش للأدب
- تبقى الديمقراطية هي الفاعلة
- حين تصير الموسيقى امتدادًا للروح
- الدراما السياسية في سيرة معاوية بن أبي سفيان بين التاريخ الم ...
- -البطل- معركة الإنسان مع نفسه في زمن الفوضى
- لام شمسية- وآثاره في مواجهة قضايا التحرش بالأطفال عبر الدرام ...
- الدماء التي لا تنسى -فهد البطل- وجوهر الصراع الأخوي
- أم هاشم وحقل الشوفان
- حديقة -الامريكان في بيتي- وشجرة الالوان
- خط النجمة البيضاء في رواية الشوك يزهر للروائي هاري مارتينسون ...


المزيد.....




- “متوفر الآن” رابط الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ج ...
- ألف مبرووك.. موعد ظهور نتائج الدبلومات الفنية 2025 ورابط الإ ...
- حرب غزة و-شبيه نتنياهو-.. فيلم -سوبرمان- الجديد يثير الجدل
- موقع التعليم الفني.. الاستعلام علي نتائج الدبلومات الفنية 20 ...
- عمرو دياب.. كلمات مكررة وموسيقى متجددة ونجاح مضمون
- نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس والاسم عبر بوابة الت ...
- الأماكن الأردنية وحماية الذاكرة من التزوير والسرقة في قصص -ا ...
- الشيخة مهرة.. ظهور ابنة حاكم دبي مع مغني الراب الأمريكي فرنش ...
- شيرين عبد الوهاب.. هل مُنعت الفنانة المصرية من لقاء فضل شاكر ...
- محمد ياسين صالح.. انتقادات لوزير الثقافة السوري بعد حديثه عن ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - -عقد ونصف العقد- لجمانة حداد بين نصل الحبر ومِداد التجربة