أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - بارتلبي ورفض عالم هيرمان ميلفل الحديث والكئيب















المزيد.....

بارتلبي ورفض عالم هيرمان ميلفل الحديث والكئيب


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 15:55
المحور: الادب والفن
    


ضحى عبد الرؤوف المل

في رواية بارتلبي النسّاخ للروائي هيرمان ميلفل، تشكّل جملة "أفضّل ألاّ أفعل" ذات التأثير القوي، معنى مستبطنًا بتعبير يحمل تمردًا داخليًا غير صاخب، لكنه قاطع. إنه يعبر عن الرفض الكلي للحياة كما هي مفروضة. إذ إن بارتلبي لا يحتج، لا يثور، لا يقدم تفسيرات، بل ينسحب تدريجيًا من كل مظاهر الحياة؛ فالمكتب هو العالم الحديث، وهو النافذة التي تطل على قرميد أسود، تمثل انسداد الأفق. والمكتب نفسه عالم مغلق، رتيب، آلي. فهل يقصد ميلفل أن المجتمع المنظَّم، الهادئ، والعملي هو مكان خانق بلا معنى روحي أو إنساني؟ أم أنه يرمز إلى الحداثة الكئيبة؟ وهل بارتلبي يخطط لانسحابه من خلال رفض مهامه البسيطة، وبالتوقف عن النسخ، والنوم في مكان عمله؟ وهل يصبح الصمت موقفًا وجوديًا، والرفض هو الشكل الوحيد للمقاومة؟

لغة الرواي قانونية منضبطة ، لكن هناك انزياحات نفسية تظهر كل حين ، تدل على توتر باطني وفضول دفين تجاه العبث .إذ يتصف الراوي بعقلانية وهدوء، ويتأثر بشدة بأفعال بارتلبي لدرجة الهروب منه، عبر نقل مكتبه إلى مكان آخر فقط ليبتعد عنه. لكن بارتلبي يرفض المغادرة، ويُسجن، ثم يموت. وما بين الرمز والمعنى، يكتشف القارئ أن الجدار القرميدي بمعناه هو العزلة وانسداد الأفق وواقع الحياة الرتيب.

فبارتلبي يمثل الإنسان المعاصر الذي يرفض الرأسمالية الآلية. هو ليس عديم الطموح فقط، بل عديم الانفعال. يعتقد أن "السكينة خير"، ويفتخر بأنه لم يترافع في قضية قط، لكنه ينصّب نفسه راصدًا ومقيّمًا للبشر. الراوي هنا مرآة الإنسان العصري الذي يظن نفسه خارج العبث لأنه منظَّم، والحقيقة أن التنظيم هنا هو خدعة كبرى تغطي على خواء داخلي.ثم يظهر بارتلبي لاحقًا، فنكتشف أن الراوي نفسه يقف عاجزًا عن الفهم، عن التفسير، بل عن ردّ الفعل. هو ليس "ناجيًا"، بل غافل عن تحلله البطيء.فماذا عن الشخصيات؟
تيركي هو الرجل الذي يشتعل بعد الظهر، وجهه يحمرّ، يغضب، يلطّخ الأوراق، يختلّ تمامًا مع الساعة الثانية عشرة. إنه شخص لا يتحكم في ذاته، ولكنه لا يخرج عن النظام. هو مثال لشيخوخة فقدت العقلانية، لا بسبب اختلال عقلي، بل لأنها لم تجد من يحتفي بها، فقررت الانفجار في اللحظة الخطأ.فهو الهادىء في الصباح والمندفع الفوضوي بعد الظهر.
في تيركي Turkey، نرى ما يسميه الطبيب النفسي يونغ "الظل الاجتماعي": الغضب الذي يكمن فينا جميعًا من رتابة الأدوار، لكنه يُسمح له بالظهور فقط في ساعات لا تؤثر كثيرًا في النظام. وهنا تظهر براعة ميلفل حتى الاختلال في هذا العالم يحدث بتوقيت منتظم.
أما نيبرُزNippers، فأصغر، مهووس بالوضعية الصحيحة للطاولة، دائم التذمّر، يجرّب الورق، الرقاقات، الحيل الصغيرة، لكنه لا يكتب براحة. عذابه جسدي ونفسي. الطاولة تمثل السلطة، البيروقراطية، النظام الذي لا يمكن تعديله، بل يجب التكيّف معه مهما كان ثقيلًا. يرينا نيبرُز أن العالم الحديث يُنتج أشخاصًا يحاولون تصحيح الأدوات بدل تغيير النظام. وهذا فشل مزدوج لا هم غيّروا الطاولة، ولا كتبوا بسلام.
جنجر نت Ginger Nutهو الطفل الذي يُهيّأ للعطب، ليس مجرد صبي. إنه جنين الإنسان المعاصر، الذي ينشأ في مكتب، يُلقَّن القانون قبل الفطرة، يُستَعبد في طفولته ليكون آلة راشدة لاحقًا. اسمه يأتي من كعكة، ووظيفته الأساسية إطعام الآخرين. فميلفل يضعه ببراعة كأثر اجتماعي لتجربة بيئية خانقة، وكأن المكتب آلة توليد متكررة للجيل نفسه: جيل لا يعي ذاته إلا عبر تقديم الخدمة في النظام.

يمكننا القول إن ما يفعله ميلفل هنا شبيه بما فعله بيكيت في في انتظار غودو، أو كافكا في المسخ وهو تقديم واقع شديد التنظيم، لكنه دون تعقيد غير هادف. كل حركة فيه تؤدي إلى نتيجة، لكن لا أحد يعرف لماذا. كل شخصية تساهم في سير المكتب، لكن أياً منها لا تعرف جدوى العمل أو قيمته. هذا ما يجعل ظهور بارتلبي لاحقًا حدثًا وجوديًا، لا أدبيًا فقط. فعندما يرفض بارتلبي أن يفعل شيئًا، فهو ينهار دون أن يصرخ. رفضه سلبي، لكنه يهدم بنية النظام من الداخل. وهو ما بدأ ميلفل بإعداده بعناية جمالية مدهشة.

في هذه القصة، يجعلنا هيرمان أمام وصف لمكتب قانوني، بل أمام تشريح لكيفية صناعة الإنسان المنضبط والمنكسر في آنٍ واحد. ميلفل، بإحساس فلسفي ونفسي عميق، يبني عالمًا متوازنًا كي يُرينا كيف يمكن لحركة واحدة خارجة عن المألوف أن تفكك بنيانه كله.

لقد قال كامو: "العبث يبدأ حين لا يجد الإنسان تفسيرًا للاستمرار". وبارتلبي هو هذا الإنسان. لكن الصدمة في النهاية لا تقل عن كونها سؤالًا ميتافيزيقيًا كبيرًا: لماذا لا نفضّل أن "لا نفعل"؟

ما الذي يجعل قصة مثل بارتلبي الناسخ لهرمان ميلفل تستحق التأمل العميق، بل الغوص فيها كما يُغاص في نصوص الفلسفة الوجودية؟ إنها قصة تبدو للوهلة الأولى عن موظفين، عن ناسخ وثائق في مكتب محاماة في منطقة تبدو حديثة جدا ، لكنها في جوهرها كتابة عن اللاجدوى، والرفض السلبي، والعبث المهيب في حضارة تتكئ بالكامل على آلية التكرار، القبول، والانصياع.فميلفل يكتب بذكاء حاد دون أن يصرخ. يقدم شخصيات كاريكاتورية،لكنها مأساوية في الوقت نفسه.

سياسيًا، يقدّم بارتلبي نوعًا جديدًا من العصيان المدني غير المسجَّل: لا يثور، لا يتظاهر، لا يرفع شعارات. كل ما يفعله أنه يرفض الطاعة بنبرة مهذبة. وهذا هو مربط الخطر فالنظام البيروقراطي الحديث لا يعرف كيف يتعامل مع "الرفض السلبي"، مع من لا يريد شيئًا، ولا يعارض شيئًا، بل ينسحب فقط. لقد عطّل بارتلبي النظام، لا لأنه هاجمه، بل لأنه توقّف عن اللعب ضمن قواعده.فهل بارتلبي اللاشىء اللامفهوم؟
القصة ليست فقط نقدًا للبنية القانونية، بل للفكر الليبرالي نفسه، الذي يفترض أن كل الأفراد سيختارون الانخراط في المؤسسة لأنهم عقلاء ومنطقيون. بارتلبي يفجّر هذا الافتراض بالانسحاب، فيُسقط النظام من الداخل دون عنف.

الإفصاح في نهاية الرواية عن ماضي بارتلبي في "مكتب الرسائل الميتة" يضيف طبقة قاتمة من الرمزية. فبارتلبي، الذي عاش لسنوات يفرز رسائل لا تصل، قد غرق في قاع الصمت البشري، وشهد فشل اللغة والتواصل والعاطفة. عمله هناك قتل فيه الثقة في أن أحدًا يصغي أو يستجيب، ولذلك عندما عاد إلى العالم، اختار أن "يفضّل ألّا يكون". وموته في السجن لم يكن هزيمة شخصية، بل إعلان إفلاس حضاري. لقد وضع النظام في مأزق وجودي . ماذا تفعل الدولة مع من لا يطالب بشيء؟ من لا يريد شيئًا؟ من ينسحب بصمت؟ الجواب كان لا شيء. تركوه يموت.

لا يقدّم لنا هيرمان ميلفل مجرد حكاية عن كاتب نسخ غريب الأطوار، بل يبني عمارة سردية ثقيلة المعنى، تتخللها شقوق الكينونة، وتخترقها أسئلة السياسة، والهوية، والاغتراب، والحداثة الجافة ، والتنظيم الرتيب. بارتلبي، بجملته الهادئة القاطعة: "أفضل ألا أفعل"، لم يكن فقط يمتنع عن نسخ الوثائق، بل كان ينسخ امتناعه على جسد اللغة، وعلى روح الراوي نفسه. فهل فجيعة موت بارتلبي هي فجيعة في الإنسان ذاته؟
السبت 21 حزيران الساعة الواحدة ظهرا 2025



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تيار الوعي بين الحب والصداقة والعالم الهش في رواية قلب ضعيف ...
- صوفيا رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب
- سردية القهر والانتحار في هلوسات ترشيش للروائي حسونة المصباحي
- بنية القلب الواعي في هندسة العلاقة الإنسانية
- الطيار الذي أسقطه الزمن ق في رواية -لا لون هناك-لمحسن الغمري
- نسمات أيلول- كوميديا اجتماعية تسلط الضوء على تقلبات الحياة ا ...
- رواية -عزازيل و الانتقال بين العوالم المادية والروحية
- -عقد ونصف العقد- لجمانة حداد بين نصل الحبر ومِداد التجربة
- الغيرة الناعمة في الفضاء الثقافي
- هل يمكن للمرأة أن تكون حرّة حقًا في مجتمعٍ لا يتقبل إلا ما ي ...
- هل عالم الصيحات هو عالم التآكل الأنساني؟
- الجرس الأخير وصراع الذات والحب في عالم مشوش
- وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-
- -وادي الفراشات- لكل من فقد شيئًا في حياته ولم يجده بعد
- الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ
- الحياة في ظل قناع رجل
- في حضرة العشق الطاهر
- الذاكرة المظلمة
- الشعر بين التقليد والحداثة قراءة في رؤية نزار دندش للأدب
- تبقى الديمقراطية هي الفاعلة


المزيد.....




- ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل ...
- لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟ ...
- ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة ...
- مركز الاتصال الحكومي: وزارة الثقافة تُعزّز الهوية الوطنية وت ...
- التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
- يتصدر عمليات البحث الأولى! .. فيلم مشروع أكس وأعلى الإيردات ...
- المخرج علي ريسان يؤفلم سيرة الروائي الشهيد حسن مطلك وثائقياً ...
- فنانون سوريون ينعون ضحايا تفجير كنيسة مار إلياس
- المفكر الإيراني حميد دباشي.. التصورات الغربية عن الهوية الإي ...
- فيلم -باليرينا-.. درس جديد في تصميم الأكشن على طريقة -جون وي ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - بارتلبي ورفض عالم هيرمان ميلفل الحديث والكئيب