أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - صوفيا رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب















المزيد.....

صوفيا رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8369 - 2025 / 6 / 10 - 16:12
المحور: الادب والفن
    


يتدفق السرد في رواية صوفيا للروائي محمد حسن علوان كتيار وعي، ينتقل من صورة إلى صورة دون فواصل محددة ، مما يعطي إحساسا بالتيه والتمدد الزمني، وكأن الموت ذاته حالة ليست نهاية، بل امتداد، فالرواية أشبه برحلة داخل عقلٍ مثقل بالأسى، وجسدٍ أنهكته المعاني قبل المرض، وتأملٍ نادر في موتٍ لا يُرى عادةً، لأنه لا يقع في أجساد الناس، بل في الملائكة، وفي من يشبههم من البشر.إذ يلامس علوان أقصى درجات التعبير الشعري والتأمل الوجودي، ويمزج بين تجريدٍ لاهوتي رفيع وتأمل حسي مؤلم. تتجلى فيه اللغة ككائنٍ حي، مشبّع بالمجاز، مُفرط بالحنين، ويقف على حافة الفلسفة والهلوسة الروحية. كأن علوان لا يكتب، بل ينزف كلمات ويختار نمط "تيار الوعي" أو إن شئنا "تيار القلق"؛ حيث الراوي لا يسلّمنا حكايةً متماسكة، بل يجرّنا داخل تساؤلاته، شُكوكه، صراعه الداخلي مع الحقيقة والكذب، ومع ذاته أولاً. “لا أدري، وحتى الآن لا أكاد أشعر بضرورة أن أدري..."بهذه العبارة المفتاحية، يُعلن انتماءه إلى اللايقين الوجودي، لا كحالة مؤقتة، بل كمذهب سردي. صوفيا لا تُروى، بل تُشَكّك، حضورها دائم التهديد بالتزييف أو التهويم أو الفقد. والراوي، الذي يبدو شديد الوعي بألعاب السرد، لا يتورع عن كشف لعبة الأكاذيب، بل عن المشاركة فيها، حدّ التورّط اللذيذ.ويجعل القارئ يترنّح معه بين المعنى والانهيار، بين جسد "صوفيا" الذي يذبل، وروح الملاك التي تتفكك في ضوءٍ خافت.إذ تُشكل رواية صوفيا تجربة سردية غنية تتماهى فيها التأملات الفلسفية مع الوصف الشعري والحالة الإنسانية العميقة لينسج لوحة فريدة عن الموت والحياة والوجود الملائكي الذي يكتنف عالمنا المادي. فهل صوفيا مرآة الحكمة الناعمة التي تخفي في عمقها صراعًا داخلياً متقن التمويه ؟ وهل هذا النوع من التأملات الحية والمكثفة حول الحب، الموت،الوحدة،المرض، والعلاقات العابرة أو القدرية هي مكاشفات ذاتية وتفجير عاطفي أم محاولات لفهم العالم من خلال إنسان يحتضر ؟

الروائي محمد حسن علوان لا يتحدث عن موت كائن نوراني، بل عن موت معناه فقدان الذاكرة القديمة ،والتحول إلى هيئة لا تتذكر نفسها . هذه استعارة بالغة العمق عن الإنسان في انتقاله من مرحلة إلى أخرى :من الحياة إلى الموت ، من العافية إلى المرض، من اللامبالاة إلى الحب، ومن الرتابة إلى الانفجار الداخلي " ملاك يموت في سقوط ثمرة، وآخر في دمعة تنزل بقدر" هكذا ، نحن نشارك في تشييع الملائكة كل يوم، دون أن ندري ، لأن الموت ليس حدثًا بيولوجيًا فقط، بل تجربة جمالية وعاطفية وفلسفية متكررة . فهل المرض والحب في هذه الرواية شكلان للتماهي مع الغريب؟
المرض هنا ليس علة جسدية، بل هو العلامة الصارخة على الغربة التي كان يبحث عنها معتز طوال حياته، حتى أغرقته . وصوفيا ليست أنثى بل تجسيد لأكثر مشاعر العالم هشاشة ، وقوة في الوقت ذاته. " لم تكن ملاكًا ، لكنها تموت بالطريقة نفسها ." فمعتز لم يحب صوفيا لأنها كاملة، بل لأنه رأى فيها الموت يتهيأ للقدوم، وفهم أخيرًا معنى النقص الكلي ، وسحره.إنها حالة من حالات الرغبة في تجربة " الكمال في النقص " كأنه يشهد الجمال وهو يموت، لا وهو يزدهر .وليس بوصفه نهاية بقد ما يُعرض كتحول، كفقد للذاكرة، كمراسم نورانية يتشاركها الملاك والانسان.

في العمق ، صوفيا تمشي على خيط رفيع بين العقلانية والحنين ، بين الصمت النضج والغليان المكتوم ، لا تدخل مكانا فتملؤه بالضجيج، بل بالصمت المدروس . كل حركة منها كأنها محسوبة لا لأنها باردة ، بل لأنها تدرك وقع التفاصيل تعرف كثيراً، تفهم بسرعة، لكنها لا تحتاج أن تثبت شيئا. ذكاؤها مثل ظل شجرة كبيرة لا يرى لكنه يُشعر به . قد تيتسم بلطف وهي تنزف من الداخل. لا تبوح بسهولة، لكن من يكسب ثقتها يرى فيها كائنا هشًا في العمق، هشاشة من عرف الحياة جيدا، أحيانا تتهم أنها غامضة أو باردة ، لكن الحقيقة أنها تحب بعمق لا يُرى، وتخشى أن يؤخذ صدقها على محمل خفيف صوفيا ليست للعبور السريع هي للذين يملكون صبر الاكتشاف كالحكمة تماما . البيت الذي تسكنه صوفيا، والمنطقة المكشوفة التي تتحوّل إلى ساحة قنص، ليست مجرّد تفاصيل جغرافية، بل رمز لمفهوم الجسد المكشوف في الحرب، والمرأة ككيان هش يتوسط العنف الذكوري والعنف الإلهي.صوفيا التي تحمل ملامح بيروت الشرقية، والمبنى الذي انهارت واجهته الزجاجية، وعبور الأب بين النصفين بباب خزانة—كلها إشارات واضحة إلى هشاشة الحدود بين الحياة والموت، بين الخاص والعام، بين الذات والآخر.إن موت الأب، وانتحار الأم، ثم غياب الأخ، وتحلل الحكايات، كلّها تقودنا إلى مركزية الثقب الوجودي الذي يُطل منه الراوي، والذي يجعل كل قصة قابلة للتصديق والكفر في آن.. فهل تشبه الكتب التي لا تُقرأ إلا حين نكون مستعدين لفهمها ؟

صوفيا أكثر عناصر هذه الرواية دهشة وغرابة. امرأة في نهاية عمرها، تهزم الموت بالجمال، بالأمل المؤقت، وبالحب الذي لا ينتظر عوائد. وجود صوفيا في التفاصيل ليس رومانتيكياً، بل هو صدمة جمالية ـ وجودية. في غرفتها، نعيش موتاً لذيذاً، وتحوّلاً ناعماً من الرغبة إلى الخلاص. هي ليست عشيقة معتز فقط، بل الرمز الأنثوي الأخير الذي لم يفسده التكرار بعد.إنها أنثى تعرف أنها تموت، فتقرر أن تمارس الحياة بأقصى ما فيها من خفة، لا تهاب التقديس، ولا تقدّس شيئاً. حتى الموت معها يصبح حدثاً رقيقاً، مؤجلاً، كأنه عرض أخير في مسرح العالم. من يقرأ صوفيا لا يمكنه أن ينساها، ليس لأنها جميلة، بل لأنها صادقة في لحظة الاحتضار، بينما العالم من حولها يزوّر الحياة ويؤجل الأسئلة. نصبح أمام لحظة احتضار لا تحدث جسدياً، بل تأملياً. صوفيا تغادر العالم تدريجياً، بنظراتها، بشهيقها، وتبدأ بالبث إلى الله، "إشارات" مبهمة: " عين تؤمن وعين تكفر... كأن الله يحولها إلى أنبوب..."هنا تتحوّل صوفيا إلى وسيط كوني، ترانزيت للمعنى، منصة بث للوجود. لم تعد امرأة فقط، بل كائن ماورائي، يمر عبره الخلق والفناء. وتحمل هذا المعنى في جسدها المنهك، مثل تابوت شفاف. فهل صوفيا حالة ميتافيزيقية ؟

رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب ، ثم بثقل بشري على تفاصيل الجسد المريض ، عبر سرد ينحو نحو الأسطورة والواقعية في آن. كما أنها لا تخضع لبنية روائية تقليدية، ولا تنضبط بقواعد فلسفية، بل هو سرد متشظٍ، يلتقط التجربة من زوايا عدة، ثم يعيد خياطتها بخيط الوعي المشتعل بالحساسية الوجودية. فالموضوع الأساسي: الموت، لا بوصفه نهاية، بل كتحول هائل للوجود. كيف تموت الملائكة؟ وكيف يختار البعض من البشر أن يموتوا كما يموت الملائكة؟ هذا هو سؤال رواية صوفيا العميق. ف"صوفيا" ليست مجرد امرأة مريضة بالسرطان، بل كائن ملائكي يذوي بصمت، وتتخذ قرارها الكامل في أن تموت بكرامة وجمال. إمرأة قوية رغم هشاشتها تبحث عن خاتمة ذات معنى لحياتها . تحمل روحا متمردة لكنها صريحة، تسعى لخلق ذكرى، ربما طفل،كاستمرار لها. تحاول أن تمضي أيامها المتبقية بشىء من البهجة والدفء ، رغم علمها بالنهاية. والراوي ليس فقط عاشقاً، بل شاهداً متورطاً في تجربة التحوّل الكبرى، رغم أنه جاء من دوافع أقل نبلاً، مدفوعة بالملل والتمرد. وهولا يبحث بالضرورة عن الحب، بل عن شىء يغير رتابة الحياة. يتسم بالحساسية الزائدة والنزعة الفلسفية والقدرة العالية على التأمل في التفاصيل. يعاني من تردد داخلي كبير، وتضارب بين مسؤولية العاطفة والرغبة في الخلاص. وهذا يُعد في جوهره بياناً وجودياً ساخطاً ضد الرتابة. نقرأ فيه اعترافات شخص لا يحتمل التكرار، يرى في الحياة لعبة متقلبة، لا تستحق أن تُعاش إلا كجولة دائمة من التقمص، العبث، التجريب، والانسلاخ عن كل قيد. فمعتز ليس مضطرباً نفسياً كما يقول لنفسه، لكنه أيضًا لا يدّعي السلام الداخلي. هو مؤمن بأن "الملل" ليس شعوراً عارضاً، بل هو لعنة فلسفية، دين داخلي يحثه على الحركة الدائمة، على تدمير كل شيء بمجرد أن يعتاد عليه. هذا النوع من القلق الوجودي النيتشوي، يجعل منه بطلاً معذّباً لا يهادن الزمن ولا العادة ولا الحب ولا حتى الموت. ترنيمة طويلة عن الغربة في الذات، عن العطش الذي لا يروى، عن تجربة العيش داخل سؤال واحد: هل أستطيع أن أغير كل شيء إلى الأبد؟

لغة شاعرية عالية، مكتظة بالصور والمجازات والاستعارات التي تعكس القلق والتوق والتغيير باستمرار وكثافتها " دفتر الكون" " "رئة لا تلتقط الهواء" "الليل الفاشل" مقشة الذنوب "، لكنها تحمل في كل مرة حقيقة جديدة." ملاك يموت في سقوط ثمرة" ، "أجسادهم تعيد تركيب نفسها " ، " كان الملل بثورا في جلدي" وهي مجازات مكثفة تحمل شحنات رمزية وعاطفية كبيرة.مفعمة بالصور البصرية والرمزية. الكاتب يتقن فن المراوحة بين الاعترافات الداخلية والمشاهد الخارجية، بين السرد الشعري والتقريري. لغته مثقلة بالصور المركّبة، لا تخجل من الزينة اللفظية، لكنها تُخضع الزخرف إلى خدمة المضمون. أحياناً تطغى البلاغة على اللحظة، لكنّنا نغفر له ذلك، لأن الاعتراف الذي يقدمه معتز ليس عابراً، بل شهادة مكتوبة من داخل قبو الذات.لغة روائية تقترب من الشعر أكثر مما تقترب من النثر. لغتها تنهار وتتقوى تتكسر وتتشظى،لكنها تظل مشدودة إلى نبض عميق ليس من الضرورة أن لغتها منطقية أو خطابيتها مقنعة .هي صادقة وهذا وحده يكفي فاللغة في الرواية مزيج من الشعر النثري والمناجاة، والتقارير،والمونولوج المسرحي . كل جملة فيه تمارس موتًا ما لمعناها السابق ، وتُبعث بمعنى جديد ، وهذا يتناسب تماما مع الفكرة الجوهرية للرواية أن الثبات هو عدو الوجود.


الموت ليس انطفاء، بل تبدّل، وهو عند الملائكة "نقل نوبة" من العمل الروحي، وعند صوفيا، اختيار صارم لأن تموت بكامل أناقتها، وكرامتها، وجمالها. كل لحظة عظيمة في الحياة تخفي موت ملاك ما، من سقوط ثمرة، إلى التقاء شفاه، إلى سهو طفل، إلى فجر جديد. فهل المرض ليس فقط فناء الجسد، بل تصاعد الروح نحو منطقة معرفية أعلى، تتجاوز اللغة، كما يحدث لصوفيا في لحظاتها الأخيرة. فالموت يتكرر كنغمة أساسية لكن ليس كحدث مأساوي ،بل كطقس من طقوس التحول،والتجدد،والتماهي مع الطبيعة. الملائكة تموت على الأرض ، في لحظات عابرة لا يلاحظها الإنسان، وهذا تأطير جميل لفكرة أن اللحظات اليومية التي تبدو بسيطة قد تكون نهاية لشىء مقدس .. فعلوان يفتح لنا نافذة على عالم ما بعد الوجود، حيث الذاكرة تذوب وتتناثر الأرواح كالنجوم التي تضيء الكون بوميضها الأزرق الحزين. تشبه لغة ذلك الغروب الأول، الذي يحمل دهشة المخلوقات التي لم تعرف الظلام بعد، فيمحو الفكرة المسبقة عن الموت كفناء نهائي.لكن في نهاية الرواية نُصعق من سؤال كبير " هل انقطاعنا الأبدي عن الرحلين صعودا هو من رحمة الله ، أم من قسوته؟ أم أنه مجرد جزء من برنامج حكمه .." وهذا السؤال لا يطرحه قلب إلا عندما يتشقق من الداخل. عندما لا يعود الموت مجرد نهاية، بل لغزا مؤلما يحيل كل ما قبله إلى تساؤل،وكل ما بعده صمت طويل. كما أن الملل ليس عارضًا نفسيًا أو مجرد شعور، بل هو عدو وجودي، كأنه الكائن الثالث في العلاقة بينه وبين صوفيا . الملل هو ما قاده إليها، والملل هو ما يهدد كل التجارب التي خاضها سابقا . " كل شىء يثير الملل يستحق أن يُلعن كثيرًا، حتى الناس والأشياء" وبالتالي يبدو المرض والموت وكأنهما علاج مزدوج لملل متضخم ، انفجار عاطفي يعيد للشخصية شعورها بالجدارة ،والخطر، والحياة الحقيقية. فهو يتوجس الثبات، ويطمح إلى التحول الدائم حتى في المشاعر في اللهجات، في الحب، في الموت" لا شىء يجب أن يتكرر، حتى رقعة الشطرنج لا يجب أن تأتي بلونين.""تخيلت لو أن زوجتي تحمل، وأراقب بطنها يتغير تدريجيا..كم أتمنى أن أحمل أنا." فهذه الجمل تعبر عن رغبة " ما بعد وجودية " تقريبا ، رغبة في تحطيم القواعد الطبيعية للزمن والجسد والحب.
لعبت بيروت في الرواية دورا حاسما، لا كمكان محايد ،بل كأنثى ثالثة في علاقة مثلثة مع الرواي وصوفيا التي تقول " المدن الشرقية مثل الفضة، تتسخ ،ولا تصدأ."وهذا وصف شاعري وعميق لبيروت :مدينة الجراح،لكنها لا تموت، لا تصدأ، بل تتستر في نُبلها المخفي.فالمفارقة بيت بيروت والمدن الأوربية يتجلى عندما يسألها :" لماذا لم تختاري باريس أو فيينا للموت ؟"تجيب بأن بيروت "عاشت فيها عمرها كله " فبيروت تصبح هنا بيتا للروح،وليس فقط مدينة. هي المكان الذي تصح فيه المأساة،وتليق به النهاية. تقول صوفيا :" موت بيروت مختلف ،لا توجد ملائكة تؤدي أعمالها مثل ملائكة بيروت !"فهل لبيروت رمزية دينية مع صوفيا التي تتحدث عن الملائكة في بيروت، عن الموت بشكل جميل عن الله الذي " يعرفنا كما نحن "فبيروت تصبح نقطة التقاء الميتافيزيقي واليومي، والرباني والإنساني. فهل شرفة صوفيا تختصر بيروت كلها؟ وهل كل هذا يحول بيروت إلى تجربة شعورية داخلية أكثر منها مكانا فعليا؟
تتجلى بيروت كأكثر من مجرد مدينة، بل ككائن حي يتنفس التحول والموت، ويستوعب التناقضات البشرية ، فهي تمثل النقيض الكامل للرتابة التي يهرب منها البطل،مدينة لا تموت رغم تشوهاتها ، كما لا يصدأ المعدن النفيس . بيروت في الرواية فضاء رمزي لآخر محطة، ملاذ للرحيل النبيل ومسرح للوداع الجمالي لا الفجائعي إن وصف صوفيا لبيروت ،وإصرارها على الموت فيها ، يعطي المدينة بعدا روحيا لا يتوفر في المدن الأخرى،ويؤسس لرؤية فلسفية غميقة عن علاقة الإنسان بالمكان،حيث لا يتحقق الموت الكامل إلا في المكان الذي عشنا فيه. فالمدينة التي ترحب وتلفظ ، التي تبتسم وتتجهم ، والتي تصبح مرآة لحالة الكاتب النفسية. كان يبحث فيها عن عزاء، عن فكرة بديلة لصوفيا ، لكنه يعود منها أكثر تشووشا. المدينة لم تحتضنه، بل عاملته كسائح .إنها المدينة التي تعرف كيف تكافىء الأبناء فقط، لا الزائرين المذبذبين . بيروت في الرواية ليست مدينة، بل منصة عبور نحو الخلاص. والشقة ليست مكاناً للحياة بل ضريحاً مفتوحاً يتعطر ويُفرش ويُهيأ لاستقبال الموت بكرامة. بيروت هنا هي امرأة تحتضر، مثل صوفيا، مثل كل المدن التي لم تعرف الاستقرار يوماً.فبيروت حاضرة بشدة كخلفية للقاء، لكنها أيضا ترمز إلى الشىء النبيل الحزين المتجدد المنكسر مثل صوفيا نفسها. فبيروت ليست مدينة فقط، بل تجربة وجودية .كما أنها تظهر كرمز للتحول والتناقض، كما هو حال البطل :متغير ،ملول، يميل للدهشة، وينفر من الثبات ." من المطار إلى صوفيا طريق أقصر من نقطتين، لأن صوفيا وبيروت كانتا نقطة واحدة" وهذا يمزج المرأة والمكان، فبيروت تُختصر في امرأة والمرأة تتحول إلى مدينة- مصير كما الشقة التي تقيم فيها صوفيا تمثل ضريحا معلقا بين الحياة والموت.كل شىء فيها معد لاستقبال الموت بكرامة: الأرضيات المفروشة، الشموع ،الموسيقى ، الشرفة، العطور.بيروت هنا ليست خلفية، بل خشبة مسرح أخير لبطلة تحتضر، ولبطل يبحث عن معنى حتى في الموت.فهل بيروت مدينة غير قابلة للصدأ ؟

الأسلوب سردي تأملي، ينضح بالبلاغة، يتسم بالإيقاع الشعري، يكاد يكون قصائد نثرية داخل رواية ويزخر بالصور الاستعارية التي تستدعي من القارئ نوعاً من السمو العقلي، بلغة تعانق الفلسفة والروحانية. استخدام تكرار تعبيرات مثل “كانت...”، “رأيت...”، “تموت...” يعطي للنص إيقاعاً موسيقياً داخلياً، يشبه ترنيمة وداع أو ترنيمة عبادة روحية. فالسرد تشعر أنه شخصي جدا، تأملي يميل إلى التدفق الحر للوعي فعلوان يستخدم أسلوب الاستبطان حيث نرى العالم من خلال نظرة الرواي فقط، وهذا يخلق إحساسا بالحميمية والاقتراب الشديد من مشاعره . والأجمل من ذلك كله كثافة الصور البلاغية والاستعارات مثل " التعب خمر الله في الدنيا" ، " صخرة الروشة مقبض حقيبة يحمل الله بها الأرض" ، كل ذلك يشير إلى قدرة لغوية عالية،وأسلوب رومانتيكي وجودي في الكتابة .
النص الروائي يتعمّد التكرار، والتشظي، والتموّج في الزمان والمكان، ليحاكي ارتباك الوعي عند مواجهة الفقد. وهو مليء بمفارقات مؤلمة، مثل أن الراوي سعى إلى التجربة بدافع الملل، ولكنه انتهى محطماً أمام عظمة ما رآه. الملل قاتل... لكن الحياة الكاملة التي يشتهيها لا تأتي إلا عند مقربة الموت. حتى المرض كمنهج تغيير ليس طارئا أو مفاجئا، بل هو تحول وجودي تدريجي. صوفيا لا تمرض فقط، بل تتحول شيئًا فشيئًا إلى "غياب" إلى حالة إلى "فكرة"أصبحت الأنابيب التي كانت موقتة دائمة الاتصال بعروقها" " الجسد ينطفىء عضوا تلو آخر" المرض هنا ليس "تمهيدا للموت " فقط ، بل " نصف موت مستمر" يجعل الحياة نوعًا من الانتظار البطىء والمنهك.

الرواية نوع من الرثاء غير مباشر لكل ما نموت فيه ونحن أحياء: علاقات تنطفىء، أجساد تتعب، رغبات تنهار، شخصيات تتفتت تحت الملل.وهو أيضا صلاة طويلة . الرواية عبارة عن رحلة فكرية وعاطفية متقنة، تأملية في ظاهرة الموت من منظور روحي وفلسفي مختلف. يحول الموت من نهاية إلى بداية، ومن ألم إلى تحول مستمر، ويجمع بين الأسطورة والواقع في نسيج أدبي متماسك. هو نص يتحدى القارئ، يدعوه للتفكير في معاني الوجود، وفي كيفية تعايشنا مع الخوف من النهاية، وعن الحضور المتجدد للحياة في كل وداع.كما أن السرد يمشي على حافة الحب والموت،ويتحرك مثل مشهد سينمائي طويل ،كل لحظة فيها مثقلة بالحس والتفكير والمجاز.إنه أشبه باعتراف طويل، شحنته الشعورية، والطريقة التي يعزي فيها النفس البشررية دون مكياج. لا أبطال هنا ،بل بشر منهكون يقاومون بأقصى ما لديهم من رمق، في محاولة بائسة لصنع شىء جميل من حياة قررت أن تكون قصيرة . صوفيا ليست مجرد اسم، إنها استعارة حية لكثيرين نحبهم، ولا نعرف كيف نبقى من أجلهم .إنهم الذكرى التي لا تموت ، لأنها ببساطة لم تكتمل . وما بين صوفيا الجسد ، وصوفيا الرمز، وما بين بيروت-الموت، والحب -الذنب،وما بين الراوي الذي يكتب ليحيا ويقرأ ليبكي، نجد أنفسنا أمام عمل أدبي مدهش ليس لأنه يقدم أجوبة، بل لأنه يتفن السؤال. فهل الرواية مثل محراب تجبر القارىء على الركوع أمام وجع لا فرار منه ، بل اعترافا به؟
بيروت - الثلاثاء 10 حزيران 2025 الساعة الثانية بعد الظهر



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سردية القهر والانتحار في هلوسات ترشيش للروائي حسونة المصباحي
- بنية القلب الواعي في هندسة العلاقة الإنسانية
- الطيار الذي أسقطه الزمن ق في رواية -لا لون هناك-لمحسن الغمري
- نسمات أيلول- كوميديا اجتماعية تسلط الضوء على تقلبات الحياة ا ...
- رواية -عزازيل و الانتقال بين العوالم المادية والروحية
- -عقد ونصف العقد- لجمانة حداد بين نصل الحبر ومِداد التجربة
- الغيرة الناعمة في الفضاء الثقافي
- هل يمكن للمرأة أن تكون حرّة حقًا في مجتمعٍ لا يتقبل إلا ما ي ...
- هل عالم الصيحات هو عالم التآكل الأنساني؟
- الجرس الأخير وصراع الذات والحب في عالم مشوش
- وهم الواقع وواقع الوهم في رواية -ترانيم التخوم-
- -وادي الفراشات- لكل من فقد شيئًا في حياته ولم يجده بعد
- الطانفا ... رواية الذات في مرايا التاريخ
- الحياة في ظل قناع رجل
- في حضرة العشق الطاهر
- الذاكرة المظلمة
- الشعر بين التقليد والحداثة قراءة في رؤية نزار دندش للأدب
- تبقى الديمقراطية هي الفاعلة
- حين تصير الموسيقى امتدادًا للروح
- الدراما السياسية في سيرة معاوية بن أبي سفيان بين التاريخ الم ...


المزيد.....




- مصر.. ظهور مؤثر للممثل يوسف فوزي إثر غياب طويل عن الأضواء بس ...
- كيف ننتج ملخصات الأخبار باستخدام الذكاء الاصطناعي؟
- -الألكسو- تختار الفنان المصري يحيى الفخراني شخصية العام الثق ...
- بعد 5 أعوام في السجن.. الفنان الروسي ميخائيل يفريموف يعود لل ...
- -مجرد ضعف-.. حاكم كاليفورنيا يوجه انتقادات لاذعة لترامب بسبب ...
- فنان عالمي شهير يقوم بتغيير اسمه للمرة الثانية
- ما الأسباب الفنية لتأهل العراق والسعودية وعمان للملحق المؤهل ...
- رحيل الفنانة غزوة الخالدي بعد مسيرة حافلة على خشبة المسرح
- تدمر السورية.. ندبات على جبين التاريخ
- تردد قناة ميكي 2025 على النايل سات.. قناة الأطفال المفضلة ال ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - صوفيا رواية حرة تُحلق بنا فوق سماء الغيب