ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 18:48
المحور:
الادب والفن
تبرز في رواية" قلب ضعيف" للروائي" فيودور دويستويفسكي " بنية روائية مشحونة بالتوترات النفسية والوجدانية، حيث تتقاطع أسئلة الحب والصداقة، الفقر والكرامة، المسؤولية والاغتراب في لحظة وجودية تتخذ من مناسبة الزواج خلفية درامية لا تُسعف في التخفيف من ثقل الداخل. فهل تيار الوعي كنافذة على الذات المتشظية تدفعنا إلى حالة من التداخل بين عالم السرد وعالم التأمل الذاتي؟ أم أن الراوي لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يتدخل ليُعلّق، يُنبه، يُبرر، وحتى يُحرج نفسه. "فدوستويفسكي سمح لنفسه بأن يدخل في الأحداث رأسًا... وهذا يدل في نظر بعض الناس على أنانية مفرطة. هنا نلمح نبرة ما وراء السرد التي تتجاوز البناء الكلاسيكي للحكاية. الكاتب يُسائل نفسه ويُفكك سلطته، وكأنما يعتذر عن كونه يروي أصلًا. هذه التقنية تزرع حالة من الحميمية والتوتر معًا، لأنها تُقرب القارئ من ذات السارد، لكنها تكشف هشاشة البناء القصصي أيضًا.
الانفعالات تتسرب دون ترتيب منطقي، وهو ما يحاكي تمامًا تقنية تيار الوعي التي تجعل الرواية ساحة مفتوحة لتدفق الداخل على شكل كتل شعورية متراصفة، متراكبة، ومتداخلة. إذ يقف فاسيه بوصفه مركز التوتر والحدث. المفترض أنه مقبل على خطوة كبرى في حياته: الزواج. غير أن مشاعره لا تنضوي تحت التصنيف التقليدي للسعادة، بل هي خليط من الذهول، التردد، الانفعال، والتشظي. "أنه لا يكاد يستطيع الاستقرار في مكانه... كان منفعلًا انفعالًا شديدًا... واضح أن نبأ الزواج قد أقلقه كثيرًا." الزواج هنا ليس حدثًا مفرحًا، بل نقطة تصعيد درامي تكشف هشاشة البطل. يبدو وكأنه يسير باتجاه ما لا يفهمه، أو لا يريده، لكنه عاجز عن التراجع عنه. حتى الفتاة، تلك التي "تحبه"، تظهر بصوت خافت، يرتجف بالخوف لا بالحب، وتقول: " أنا فتاة فقط، فلا تضحك علي." بهذه الجملة، تُلغى كل رومانسية ممكنة، ويُوضع الحب في خانة الخديعة المحتملة، حيث الفارق بين الجنسين يصبح عبئًا اجتماعيًا أكثر من كونه نداءً شعوريًا.
في مقابل هذا الارتباك العاطفي، تقف شخصية أركادي (أركاشا) كمرآة تعكس تعقيد علاقة الصداقة في ظل غياب السند العاطفي الحقيقي. أركادي يحب، يعاتب، يغار، ويخشى فقدان صديقه، لكنه أيضًا لا يمتلك أدوات المواجهة العاطفية الواضحة.هنا تصبح الصداقة ليست دعمًا فقط، بل مرآة للخذلان المتبادل، وللمعاني المؤجلة. أركادي لا يقول إنه يحب فاسيه، لكنه ينهار عند فكرة أنه قد يفقده. أما فاسيه، فهو لا يثق تمامًا بأي حب... لا من الفتاة ولا من صديقه. كل شيء مشكوك فيه. كل شعور محتمل، لكنه غير محسوم.
وسط هذا الغليان العاطفي، يظهر مشهد صغير لكنه عميق الدلالة: قبعة، دمعتان، وهدية لا تُقدَّر إلا حين تُمنَح في صمت. " إن هاتين الدمعتين لم تتساقطا من أجل القبعة وحدها... ليس هذا هو الأمر في نظري." القبعة تتحول إلى رمز لعالم مادي هش، تُحمّل فيه الأشياء الصغيرة كل ما لم يُقَل من مشاعر، وخوف، وعتاب، وامتنان. دمعتا الفتاة، في صمتهما الخفيف، تكشفان ما لم تُفصِح عنه الجمل. وكأن العاطفة الحقيقية لا يمكن التعبير عنها إلا عبر الهامش. إ يتناوب فاسيه وأركادي على الإفصاح والتهرب، ولا شيء يُحسم. " عاجزًا عن إكمال جملته... يحرك شفتيه كأنه يريد أن يكمل ما لم يستطع صاحبه أن يكمله." هذه العبارة تختصر فلسفة الرواية . في عالم تتكاثر فيه المشاعر، لا أحد يملك لغةً كافية. الحب يُختنق في الحلق. الصداقة تُهدَّد بالصمت. والوجود كله يُروى عبر جمل ناقصة، ومشاعر معلّقة.
في هذه الرواية لا نجد حبكة بالمعنى التقليدي، بل نجد مرآة للإنسان حين يضعه القدر أمام منعطف وجودي لا مفر منه. باستخدام أدوات السرد النفسي، وتيار الوعي، والمفارقات العاطفية، يقدم ديستوفسكي صورة شفافة، موجعة، ومكثفة عن صراع الإنسان الحديث مع ذاته وعلاقاته.هو سرد عن لحظة حرجة بين "ما كان" و"ما سيكون"، لحظة لا يمكن فهمها إلا إذا عشناها. "يا صاحبي، لا أحب أن أكون قاتلك، لا أستطيع أن أسكت بعد الآن…"في هذه الجملة وحدها، تختزل المأساة. ليست مأساة فرد، بل مأساة وجود مهدد، عقل يوشك أن يتحطم تحت ثقل الواجب، في مجتمع لا يرى من الإنسان إلا إنتاجه، ولا يسمع من صراخه إلا ما يمكن قياسه أو أرشفته.دويستويفسكي يقدّم حالة إنسانية خام، مخلخلة، نازفة. لا نحتاج أن نعرف متى أو أين وقعت هذه الحكاية. المهم أن نعرف أنها تحدث كل يوم، في دواخل كثيرين منّا.
فاسيا شخصية مضطربة داخليا، يعيش صراعا بين الواجب والرغبة ، بين ما يُنتظر منه اجتماعيا وما يشعر به فعليا. فخبر الزواج يُفترض أن يكون مفرحًا ، لكنه هنا يثير التوتر والانفعال والحزن . هذا يشير إلى أن القرار ليس نابعا من قناعة داخلية، بل ربما نتيجة ضغط اجتماعي أو اقتصادي فانفعالاته شديدة، تصل إلى البكاء،وهو يعاني من حساسية مفرطة تجاه التفاصيل العاطفية.أما أركادي أو أركاشا يمثل الصديق المثالي الذي يحاول دائما أن يحتضن انفعالات الآخر ويحتويه لكنه شخصية مسطحة، بل يغار أحيانا، ويتألم أحيانا، ويعجز عن الفهم أحيانا، لكنه يظل صادقا في انتمائه لصديقه . يتجسد فيه نوع من الحب العاطفي النقي الذي قد لا يكون جنسيا لكنه ملىء بالولاء والتعلق أما الفتاة فتظهر أركادي: الصداقة كآخر معقل للإنسانية
لو لم يكن في الرواية إلا أركادي، لكان كافيًا لجعل الرواية درسًا في الوفاء. أركادي ليس منقذًا خارقًا، بل مجرد صديق يحاول أن يُبقي روح باسيه معلّقة بالحياة، ولو بخيط من العناية.إنه يحلم نيابة عن صديقه، يحمله حين ينهار، ويواجه السلطة حين يصمت الجميع. لكنه – ككل البشر – عاجز أمام آلة لا تُبالي، وعالم يُقنّن الحزن، ويهندس الجنون، ويعامل الفشل كجريمة. فما الرمزية الموجعة في الرواية ؟
خصلة الشعر السوداء التي يحملها باسيه، تمثل ما تبقّى له من حنان وحب ودفء إنساني. إنها التذكار الأخير من حياة لم تُكتب له الصفحات البيضاء التي يكتب عليها دون حبر، هي صورة صارخة للفراغ، وللعمل الذي لا يُثمر، للكلمات التي لا تُسمع، وللوجود الذي لا يُعترف به. إن أقسى ما في هذاه الرواية أنه لا يقدّم خصمًا واضحًا لباسيه. العدو هنا ليس شخصًا، بل نظامًا، عقلية، حالة وجودية. البيروقراطية تُحوّل الإخلاص إلى عبء. و الإنتاجية تُحوّل الإنسان إلى آلة.و العجز عن الفرح يُحوّل الحب إلى ذكرى باهتة، لا ملاذًا. وبينما الجميع "يتفهم"، لا أحد يتدخل حتى يفوت الأوان.
حين يُقاد باسيه في النهاية نحو "مصيره"، لا يبقى سوى العناق الأخير، نظرات الحسرة، وخصلة الشعر التي تُلوّح في الهواء كراية هزيمة. لا محاكمة. لا مقاومة. لا حتى صراخ.فقط الفراغ، ذلك الذي يصبح بطل القصة في النهاية، بينما العالم يستمر كأن شيئًا لم يحدث.ما أهمية القلب الضعيف هذا لأنه لا يحكي عن باسيه وحده، بل عن كل من ينهار في صمت خلف أبواب مغلقة، تحت ضوء شاشة، أو على طاولة عمل لا تنتهي.لأنه يذكّرنا أن اللطف قد ينقذ حياة، وأن التجاهل قد يقتل.لأنه يعيدنا إلى سؤال بسيط ومرّ: كم باسيه عرفنا في حياتنا؟ وكم مرة كنا أركادي ولم يسمعنا أحد؟
هذه الرواية ليست مجرد حكاية، بل صفعة أدبية أخلاقية، تشبه ما كتبه نيكولاي غوغول، حين أراد أن يُرينا كم يمكن للحياة أن تكون ظالمة حين تُحكم بالعقل البارد.ربما لا نستطيع إنقاذ باسيه...لكن ربما، إذا استمعنا جيدًا، نستطيع أن ننقذ التالي. فصديق يصوّر انهيار الإنسان تحت وطأة الضغط النفسي والبيروقراطية القاسية، وكيف أن المجتمع يتجاهل صراخه حتى فوات الآوان .كما يشيد بقوة الصداقة، ويطرح تساؤلات عميقة عن الكرامة، والعزلة،والحب،والمعنى في الحياة مما يثير التساؤل ما قيمة الإنسان حين يُترك ليحترق في صمت؟
الإثنين 16 حزيران الساعة الرابعة والنصف عصرا 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟