ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 12:56
المحور:
الادب والفن
رواية الصحوة للكاتب لوران غونيل
ضحى عبدالرؤوف المل
يمرّر الكاتب لوران غونيل الكثير من الأفكارالمجردة من خلال تجربة فردية، تُصبح بمثابةعدسة لتأمل الواقع العام .إذ يستعرض في روايته أو كتابه الصحوة الصادر عن دار هاشيت أنطوان بداية الحملة " الحرب على الموت" أو كوفيد ثم يتقدم تدريجياً عبر سرديات الإعلام، والتأثير الشخصي على الراوي، ثم يتفرغ نحو صديقه كريستوس، الذي يُقدم البعد التحليلي والفلسفي.فالجملة مشحونة بالتناقض والغرابة "أعلن الرئيس الحرب...حرباً على الموت " الموت ليس عدواً سياسياً ولا كياناً يمكن استهدافه هو خصم دولة بل خصم أكبر. فغونيل يثير زوبعة من الأسئلة التي لا تنتهي في ذهن القارىء هل يمكن للدولة أن تُطبع الخوف، وتوظّف الرغبة الإنسانية في الخلود، لتحويله إلى مشروع سياسي تمارس من خلاله المزيد من التحكم ؟ وهل الحرب على الموت فكرة عبثية أم مشروع نبيل؟ وهل الحرب على الموت هي في حقيقتها دفاع عن الحياة؟ أم أنها مجرّد آلية جديدة لبسط السيطرة وترويض المجتمعات بالخوف؟
في الصحوة بنية سردية شبه روائية ، فهو أشبه بدراسة إثنوغرافية عن دولة معاصرة تُجيّش مخاوف شعبها، وتُحوّل فكرة "الحماية" إلى أداة للتطويع. ففي المجتمعات الحديثة، الموت لم يعد مجرّد حدث بيولوجي. لقد صار، كما يرى فوكو، موضوعاً للسيطرة السياسية، متى نعيش، وكيف نموت، وبأي وتيرة يموت الناس، كلّها مسائل تدخل في صلب إدارة الدولة الحديثة. لكن الجديد في هذه الصحوة أن الدولة لم تكتف بإدارة الموت... بل أعلنت الحرب عليه. هذا التوسع المفاهيمي يُشبه ما أسماه عالم الاجتماع أولريش بيك بـ"مجتمع المخاطر"، حيث تُنتَج الأخطار وتُروَّج إعلامياً لتبرير القرارات الكبرى. فالخطر لا يكون خارجاً عن النظام، بل صنيعة داخله. " لم يكن أمد الحياة الذي رُصد فعلاً يتجاوز الـ80... فأوقد الخبر في النفوس أملاً عظيما." الرغبة في الحياة الطويلة، أو حتى الخلود، تصبح هنا مدخلاً لشرعنة مشروع السيطرة. فإذا كانت الدولة تحارب الموت، فهل يحق لأحد أن يعارضها؟
يلعب الإعلام دور البطولة غير المعلَنة في هذه الصحوة. فمنذ اللحظة التي تُطلَق فيها الحملة، يُغدَق الناس بسيل من التقارير المصورة، المشاهد الدامية، الشهادات العاطفية، والأرقام المهولة "ما إن شغلنا الراديو، التلفاز أو تصفّحنا جريدةً حتى اصطدمنا بهذه الأخبار الوحشية العنيفة المروّعة." ليست هذه مجرد "حملة توعوية". إنها هندسة عاطفية تهدف إلى جعل الخوف من الموت إدماناً يومياً. وبقدر ما يزداد تعرّض الناس لهذه الصور، يصبح الخوف جزءاً من نسيجهم الوجداني. والمفاجىء تُطرح المفارقة الفجّة بأن الموت يُقدّم للناس باسم الحياة، والخوف يُباع باسم الأمان.ومعضلة رودريك الثلاثية ابتكرها داني رودريك الاقتصادي المعروف ليؤكد أن العالم اختار العولمة والسيادة، وضحّى تدريجياً بالديمقراطية لتأخذ سترة القيد الذهبية شكلاً رمزياً يرؤّج لها كحل منطقي وعقلاني، حتى يطلب الناس بأنفسهم القيود. هذه آلية الطغيان الناعم فالعبارة الجوهرية هي " الخوف أفضل وسيلة تجعل الناس يتخلون عن حرياتهم" فهل كريستوس هو رمز للضمير الحي في زمن الطغيان الناعم؟ وهل سترة القيد الذهبية هي رمز للخضوع الاختياري باسم الأمان؟
يصف الراوي سيارته وهي قابعة في العتمة، تحولت في عينه من وسيلة تنقل إلى مفترس " لمحت سيّارتي قابعة في الغيهب مثل عدوّ يتربّص." هنا تتجسّد قوة السرد الإعلامي، الذي يعيد تشكيل علاقتنا بأبسط أدوات الحياة. فالخوف لم يعد مجرد شعور... بل بات إدراكاً حسياً يغيّر نظرتنا للأشياء.فالسيارات – التي كانت ترمز للحرية والتقدم ، تحوّلت إلى "DNA قاتل"، ومشهد المرور اليومي صار يشبه حقل ألغام.هذه النتيجة ليست طبيعية، بل ناتجة عن هندسة ثقافية مكثفة.
يقف كريستوس، الصديق الفيلسوف، كنقيض فكري للراوي.هو لا يعيش تحت سطوة الإعلام، بل يُحلّله، يشكك فيه، ويستحضِر تجربة تشومسكي، ناقد الإعلام الأشهر، الذي يرى أن الصحافة لا تنقل الواقع، بل ما يُراد للناس أن يروه. "لا يا سيدي، عندما تقرأ الجريدة، فأنت تتابع ما كُتب في الجريدة، لا ما حدث في العالم."كريستوس يعبّر عن صوت الضمير الفلسفي في المجتمع. وهو يُعيدنا إلى لبّ المسألة. حين تُضخّ عاطفة الخوف بلا انقطاع، فلا بد أن وراءها مصلحة خفية.هو لا يدعو إلى إنكار حوادث السير، بل إلى رفض توظيفها وسيلة للتهويل وتوجيه الرأي العام.
غونيل لا يكتفي بالتحليل الآني، بل يعود إلى مثال تاريخي مركزي " لجنة المعلومات العامة" التي أنشأها الرئيس الأميركي ويلسون في 1917، والتي غيّرت موقف الرأي العام من معارضة الحرب إلى تبنيها عبر الدعاية العاطفية. فاستحضار تجربة بيرنيز (مؤسس البروباغندا الحديثة) يُذكّرنا أن التلاعب ليس جديداً، بل أصبح الآن أكثر نعومة واحترافاً صورة الطفل البلجيكي المقتول أمس، تقابلها اليوم صورة وجه مهشّم في حادث سير... والفكرة واحدة استثارة الغضب والخوف لإعادة تشكيل القناعات.
نحن اليوم في زمن لا يُدار فيه الإنسان بالقمع الصريح، بل بالصور، بالعناوين، بالإحصاءات، بالمحتوى. الصحوة وهي بين أيدينا نقرأها تكشف كيف يمكن للحكومات أن تُحوّل أكثر الرغبات الإنسانية نبلاً الحفاظ على الحياة إلى ذريعة لخلق مجتمع خائف، منزوع الثقة، قابل للتطويع. فالحرب على الموت ليست مشروعاً بيولوجياً، بل مشروع سيطرة رمزية، يخترق الأعماق النفسية للأفراد، ليحوّل الخوف إلى بنية تحكم سلوكهم.وهكذا، فإن السؤال الحقيقي ليس كيف نموت؟ بل: لماذا نُخيف الناس من الموت؟ ومن المستفيد من هذا الخوف؟
لا نحيا فحسب بين جدران مادية، بل نقبع في أقفاص ذهنية صُمّمت بعناية لتُرَوّض غرائزنا، وتقود اختياراتنا، وتُعيد تشكيل وعينا… من غير أن ننتبه. منذ أن أعلن إدوارد بيرنيزوهوالأب المؤسس للعلاقات العامة بأن التلاعب الواعي بالعقل الجمعي ضرورة في الديمقراطية الحديثة، بدأت صناعة "الرأي العام" تتحول من وسيلة للتنوير إلى أداة للتحكم. استخدمت الشركات الكبرى هذه التقنيات لتوجيه الأذواق، والرغبات، وحتى القيم الأخلاقية.فما عادت النساء تدخنّ بدافع "التحرر"، بل لأن حملة دعائية زوّرت لهن ذلك الإحساس. وما عادت الديمقراطيات تقرر وفق إرادة الشعوب، بل وفق ما يُصنع لتريده الشعوب على الشاشات. الأمر لا يقتصر على بيع المنتجات، بل يشمل بيع الأوهام والهويات. حتى وقت قريب، كانت الحكومات (رغم تحفظاتنا عليها) تضع شيئاً من الاعتبار للثقافة والوعي العام. كان التلفاز الرسمي يقدّم برامج فكرية، تُناقش الأفلام، وتُحاور المفكرين، وتشجع على التأمل. أما الآن، فقد بيعت الترددات، وبِيع معها الضمير الثقافي للمجتمعات. أصبحت القنوات الخاصة تتسابق على الإثارة لا على الأفكار. وهكذا تحوّل الإعلام من حامل رسالة إلى ساحر مدفوع الأجر يُرَوّج للجريمة والجنس والتفاهة، ويُخدّر الجمهور بدراية. من هنا نفهم: الجهل لم يعد نتيجة، بل مشروعاً
يخبرنا غونيل أنّ الطفل، الذي لم يبلغ العاشرة بعد، قد يكون قد شاهد مئات المشاهد العنيفة، بل مارس القتل الافتراضي في ألعاب الفيديو. هذه المشاهد لا تمرّ دون أثر. لا حاجة للمبالغة الأخلاقية، فالأرقام تقول كل شيء: نسب العنف المدرسي، التحرش، الانتحار، وحتى اضطرابات الهوية، كلها في ارتفاع مستمر.ومع ذلك، لا يتوقف أحد. فالوزراء يعبّرون عن "صدمتهم" على الشاشات، ثم يعودون لتوقيع اتفاقيات مع ذات الشركات التي تسوّق لتلك الجرائم الناعمة.
ثم نتابع "كريستوس"، وهو يذوب يوماً بعد يوم في رتابة الحياة المعزولة، لا أصدقاء، لا شوارع، لا صدفة إنسانية، لا ضحكة غير محسوبة. حتى الترفيه يُنقل له في جرعات باردة عبر الشاشة. إنه نموذج المواطن المعاصر، يعمل من البيت، يأكل في البيت، يُسلي نفسه في البيت… ويموت داخلياً في البيت.القرارات السياسية المفاجئة ، مثل منع السيارات ليست سوى ذريعة أخرى لتكثيف العزلة، وقطع أوصال التضامن البشري. لم يعد المرء يحتاج إلى سجن ليُسجن. فالوحدة اليوم تفرض نفسها كـ"نظام عالمي" خفي.
الإنسان المعاصر يعبد "الراحة"، و"الكفاءة"، و"التكنولوجيا". لقد أصبح الاستهلاك طقساً دينياً، تُمليه علينا الشركات كما تُملَى علينا الصلوات. لكنها صلاة لا توصل إلى الروح، بل إلى القاع. ما يعرضه غونيل بذكاء، هو أن العالم الحديث خلق نظاماً متكاملًا لتفريغ الإنسان من إنسانيته، من تأمله، من إيمانه، من قدرته على الحب، من سعيه إلى المعنى… مقابل وعد كاذب بـ"الحياة الأفضل".
إن كان هناك من خلاص، فلن يأتي من الخارج. لن تجلبه السيارات الذاتية القيادة، ولا الخطابات السياسية، ولا حتى الإنترنت السريع. الخلاص كما يعرضه غونيل هو في الاجتهاد على النفس. أن يعي الإنسان حجم التلاعب الواقع عليه، ويبدأ طريقه نحو وعي أعلى، يتحرر فيه من الخوف، والغريزة، ومن الإملاءات الخفية. إما أن نظل مستهلكين بلا وعي، وإما أن نصير مواطنين أحراراً في الروح والفكر.إنه صراع بين الآلة والضمير، بين السوق والذات، بين الفراغ والوعي. فأيّ طرف تختار؟
يقدم غونيل في الجزءالتاسع من كتاب الصحوة نقداً ثقافيا واقتصادياً يبدأ من لحظة البريكست في حزيران 2016، مصوّراً كيف أثار ذهولًا عالمياً، لا سيّما في أوساط الشركات متعددة الجنسيات الأميركية، التي لم تتوقع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إذ يقدّم السرد تحليلاً ضمنياً يرى أن الاتحاد الأوروبي نفسه مشروع أميركي الهوى في الأصل، بدعم استخباراتي ورأسمالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في إطار الحرب الباردة ومجابهة الشيوعية السوفييتية. إذ يشرح كيف كان هذا المشروع مفيداً للشركات الأميركية لتوحيد السوق الأوروبية، ما سهّل تغلغلها التجاري والثقافي، مستفيداً من خطط مثل مارشال ومنظمات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
يتوسع أكثر ليُظهر كيف أن العولمة التجارية والثقافية قد أضعفت الهويات المحلية الأوروبية. من الأطعمة التقليدية إلى القصص الشعبية، كلها بدأت تُستبدل بثقافة استهلاكية أميركية النكهة (الهامبرغر، ديزني، ستاربكس، أمازون...) لكنه طرح سؤالًا جوهرياً على لسان الراوي (كريستوس). هل هذا المسار يخدم الشعوب الأوروبية؟ أم يجرّدهم من سيادتهم وثقافتهم؟
يُبرز وجود لوبيات ضخمة في بروكسل تؤثّر في قرارات الاتحاد الأوروبي لخدمة الشركات الكبرى، في مشهد من تضارب المصالح وتقويض الديمقراطية من خلال قصة مصنع العائلة اليوناني، يعرض غونيل كيف أن الشركات الكبرى، التي تستغل العمال في آسيا وتنتج بتكلفة منخفضة، تُدمّر الصناعات المحلية في أوروبا التي تلتزم بالقوانين والعدالة الاجتماعية. يشير إلى أن هذه المنافسة غير المتكافئة تؤدي إلى تهشيم الاقتصاد المحلي باسم "حرية السوق". يُظهر تصاعد الحس السيادي في أوروبا كرد فعل على العولمة النيوليبرالية، وعودة الاهتمام بالاقتصاد المحلي والسيادة الوطنية، حتى من قبل الأحزاب المتطرفة. يرى الراوي أن مشروع الاتحاد الأوروبي كان يمكن أن ينجح لو بُني على احترام الإنسان والثقافات المحلية، لا على أولوية التجارة ومصلحة الشركات. ثم ينتقل فجأة إلى قضية السكر والصحة العامة، حيث نُقل الاهتمام الجماهيري من القضايا السياسية الكبرى إلى قضايا صحية، عبر تقنية حديثة: رقاقة قابلة للزرع تراقب السكّر وتحذّر من الأخطار. يطرح الراوي نقداً مبطّناً لهذا التطور، الذي يبدو "مثالياً" ومفيدًا صحياً، لكنه يفتح الباب لمخاوف حول الخصوصية، جمع البيانات، سيطرة الشركات، والرقابة الرقمية الخفية. يظهر كيف تم قمع الأصوات المعترضة إعلامياً عبر حذفها من المنصات، بحجّة حماية "الصحة العامة" ومنع "نشر المعلومات الكاذبة". فهل يُستخدم الخوف الصحي كأداة لإعادة تشكيل المجتمعات وفق نماذج مراقبة رقمية؟ وكم يمكن أن نُفرّط في حرياتنا مقابل الشعور بالأمان؟
الصحوة ليس مجرد سرد لأحداث، بل هو نقد وجودي عميق للعولمة وتحوّل المجتمعات الحديثة. يظهر فيه القلق من التلاعب بالإرادة الجماعية عبر الإعلام، التكنولوجيا، الاقتصاد والسياسة، حتى باتت قرارات الشعوب تُتخذ على أساس الخوف، لا المعرفة. وهي نقد قوي وذكي لتطورات تكنولوجية واجتماعية مستقبلية تحمل في طياتها تهديدات جمة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، من خلال رصد دقيق لعواقب الرقابة المفرطة، وكيفية تعامل المجتمعات مع التكنولوجيا والتقدم، وإلى رفض الاستسلام للسيطرة والاستبداد، وإلى ضرورة السعي نحوبناء نظام اجتماعي واقتصادي عادل يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه . في النهاية تتركنا الصحوة في زوبعات كثيرة من تساؤلات لا تنتهي منها إلى أي مدى يمكن أن نثق بالتقنية حين تصبح أعيناً تراقبنا بدلاً من أدوات تخدمنا؟أين تقف مسؤولية الفرد في مقاومة هذا التوغل الرقابي ؟ وهل الوعي كاف وحده لإحداث التغيير ؟ ما الدور الذي يجب أن يلعبه المثقف أو الكاتب اليوم في عصر تهيمن عليه الخوارزميات والمراقبة الرقمية ؟
طرابلس- لبنان الأحد في 13 تموز 2025 الساعة العاشرة والنصف صباجا ً
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟