|  | 
                        
                        
                        
                            
                            
                                
                             
                                
                                    حين تتحوّل الحكاية إلى لوحة في قصة جدتي ل -بيار فاضل-
                                
                            
                               
                                    
                               
                                
                                
                                   
                                     
 
                                        ضحى عبدالرؤوف المل
 
       الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 12:10
 المحور:
                                            الادب والفن
 
 
 
 
 
                                   
                                        
                                            
                                              تُعدّ قصة «جدتي » للكاتب "بيار فاضل "واحدة من النماذج الراقية في أدب الأطفال العربي الحديث، لما تحمله من أبعاد إنسانية وتربوية وجمالية عميقة، ولقدرتها على معالجة موضوع بالغ الحساسية كفقدان الذاكرة والشيخوخة من منظور طفل صغير، بأسلوب يجمع بين البساطة والعمق، وبين الواقع والرمز، وبين الألم والأمل. إن هذه القصة لا تكتفي بأن تحكي عن جدة تنسى أسماء الأشياء وأفراد عائلتها، بل تتجاوز ذلك لتغدو تأملًا في ماهية التواصل الإنساني، وفي قدرة الحب على تجاوز اللغة، وفي معنى أن نُبقي روابطنا حيّة حتى حين يبهت الوعي وينطفئ الكلام.تبدأ القصة بصورة منزلية حميمة مع الجدة سميحة التي  تعيش مع أسرة حفيدها منذ ثلاث سنوات بعد زواج ابنتها كي لا تبقى وحيدة. سرعان ما تظهر العلامات الأولى للأزهايمرمثل نسيان الكلمات، التوقف عن الكلام، والسلوك الغريب الذي ينذر بتقدّم المرض. من هنا يبدأ التحوّل الدرامي في حياة العائلة. فالمرض الذي يُفقد الإنسان ذاكرته يبدو في البداية مأساة عائلية، لكنه يتحول شيئًا فشيئًا إلى فرصة لاكتشاف معانٍ جديدة للحب والرعاية. حين يخبر الطبيب الأسرة بأن الجدة قد تنسى الجميع، يُعلن الأب أنهم سيعتنون بها أكثر وسيدخلون إلى عالمها الجديد، ليبدأ التحول الرمزي في القصة. الانتقال من اللغة اللفظية إلى لغات المشاعر.
 من هذه النقطة تتّخذ القصة منحى فلسفيًا وإنسانيًا عميقًا. الراوي الطفل يفكر في كيفية إخبار جدته بحبه دون لغة، فيتذكر قول معلمته في المدرسة إن الموسيقى لغة عالمية، فيقرر أن يجعل الموسيقى لغته معها. أخته مايا تختار الرقص لغة للتعبير، والأب لغة العينين، والأم لغة اللمس، والأخ الأكبر لغة الورد. هكذا يصبح البيت لوحة متكاملة من الألوان الحسية والرموز الجمالية، تُعيد للجدة ما سُلب منها بالكلمات.
 القصة في جوهرها درس في الذكاء العاطفي، إذ تعلم الطفل أن الحب لا يُقاس بالمقدرة على النطق أو التذكر، بل بالقدرة على الشعور والمشاركة. إنها تعيد تعريف التواصل الإنساني بوصفه فعلًا داخليًا قبل أن يكون تبادلًا لغويًا. فحين تغيب اللغة، لا ينتهي التواصل، بل يتحول إلى موسيقى، إلى رقص، إلى ورد، إلى لمسة عين. وهنا يكمن سرّ جمال القصة  إذ لا يكتفي "بيار فاضل" بتصوير المأساة، بل يحوّلها إلى مشروع إنساني جمالي.
 من الناحية الفنية، يعتمد السرد على صوت الراوي الطفل، وهو اختيار موفق يمنح القصة براءة وصدقًا. فالأحداث تُروى من وجهة نظر طفل لا يملك المعرفة العلمية بالمرض، لكنه يمتلك حسًّا فطريًا بالتعاطف والدهشة. هذا المنظور الطفولي يتيح للقارئ الصغير أن يتماهى مع السارد بسهولة، وأن يتلقى القصة كخبرة وجدانية قريبة لا كدرس أخلاقي جاف. اللغة بسيطة لكنها مشحونة بالصور، جُملها قصيرة متلاحقة تتناغم مع إيقاع تفكير الطفل. في الوقت نفسه، تظلّ محمولة على شحنة شعرية واضحة تجعل النص أقرب إلى الحكاية الشاعرية منه إلى السرد الواقعي.
 الزمان في القصة يمتد من الماضي القريب إلى الحاضر، ولا يتخلله تعقيد زمني أو تقنيات فلاش باك، مما يسهل على الطفل تتبّع التسلسل الطبيعي للأحداث. المكان هو البيت، لكنه ليس مجرد فضاء مادي، بل يصبح رمزًا للحضن الأسري والذاكرة المشتركة. إن المطبخ وغرفة الجلوس ومائدة الطعام كلها تتحول إلى رموز للألفة، وكأن القصة تقول إن الدفء العائلي هو الحصن الأخير في مواجهة النسيان.
 
 أما الشخصيات، فلكل منها وظيفة رمزية دقيقة. الجدة سميحة تمثل الذاكرة الجماعية للأسرة، وعندما تفقد ذاكرتها، يُختبر مدى عمق روابطهم الحقيقية بها. اسمها نفسه «سميحة» يوحي بالتسامح والطيبة والعطاء، وهي قيم تذكّرنا بأن الكبار مهما ضعُفوا يظلون مصدر بركة وحنان. الحفيد الراوي يجسد الطفل المفكر المبدع، ومايا تمثل الفرح الطفولي والقدرة على تحويل الألم إلى حركة، بينما الأب والأم يعكسان الحكمة والرعاية الناضجة، والأخ الأكبر رواد يجسد الحس الجمالي عبر لغة الورد. إن توزيع هذه اللغات بين أفراد الأسرة يخلق وحدة فنية متكاملة تشبه مقطوعة موسيقية تتناغم فيها الأصوات رغم اختلافها، ليصبح الحب سيمفونية جماعية لا تنتهي حتى حين يتوقف الكلام.
 الرموز في القصة غنية ودقيقة. فالموسيقى تمثل التواصل الروحي، والرقص رمز للحياة، والورد إشارة إلى الجمال العاطفي والذاكرة الحسية، والعينان واليدان تجسدان لغة الجسد الصامتة. أما الأغنية التي ترددها الجدة في النهاية «شوف الزهور وتعلم» فهي المفتاح الرمزي الأكبر للقصة، لأنها تجمع بين الجمال الطبيعي والتواصل الإنساني، وتدل على أن ما يبقى من الإنسان هو حبه للجمال وقدرته على الفرح.
 من حيث البنية النفسية، تقدم القصة نموذجًا لما يمكن تسميته بالأدب العلاجي، إذ تساعد الطفل على مواجهة فكرة الشيخوخة والفقد دون خوف. فالمرض لا يُعرض هنا ككارثة، بل كمرحلة تحتاج إلى صبر وحنان. وهذا التناول الإيجابي يعزز لدى القارئ الصغير الشعور بالأمان وبأن الحياة، رغم تغيرها، لا تفقد معناها. كما تُنمّي القصة في الطفل مهارة التقمص العاطفي، فيتعلّم قراءة مشاعر الآخرين وتفهّم سلوكهم حتى حين يبدو غريبًا أو غير منطقي.
 من الناحية التربوية، تتجلى أهمية القصة في كونها لا تلقّن القيم مباشرة، بل تُجسّدها من خلال الفعل والسلوك. فالأسرة لا تعظ الطفل عن احترام الكبار، بل تريه ذلك عمليًا في طريقة تعاملها مع الجدة. ولا تتحدث عن الإبداع نظريًا، بل تجسده في اختراع لغات جديدة. هذا النوع من السرد غير المباشر أكثر تأثيرًا في نفس الطفل، لأنه يدعوه إلى المشاركة في الاستنتاج والتفكير بدلاً من التلقي السلبي.
 كما تبرز القصة أهمية الفن في التربية، فهي تُعلّم الطفل أن الفن ليس ترفًا، بل وسيلة للفهم والتعبير والشفاء. فحين يعزف الحفيد الموسيقى لجَدته، أو ترقص مايا أمامها، أو يهديها رواد وردة، يتحول الفن إلى لغة حبّ. وبهذا المعنى، فإن القصة تزرع في الطفل بذور الذائقة الجمالية منذ الصغر، وتجعله يربط الجمال بالخير والحنان.
 الأسلوب الفني في القصة يتسم بتوازن بين الواقعية والرمزية. فالأحداث واقعية مأخوذة من الحياة اليومية، لكن" بيار فاضل" يضفي عليها بعدًا رمزيًا يجعلها تتجاوز حدود الموقف الخاص إلى التأمل في القيم الإنسانية الكبرى. كذلك يمتاز النص بالاقتصاد في الوصف والتركيز على الفعل الشعوري أكثر من الحدث الخارجي. إن الجمل الحوارية القليلة تختصر الموقف وتكثف المعنى، مما يمنح النص إيقاعًا داخليًا يشبه موسيقى خافتة تسري في السطور.
 من الجانب الجمالي، يُلاحظ توظيف الإيقاع والتكرار بشكل متقن. فالمقطع الغنائي الذي تردده الجدة يتكرر في نهاية القصة، ليغلق الدائرة السردية ويمنح القصة موسيقاها الخاصة. هذا التكرار لا يُقصد به التزيين، بل يحمل دلالة نفسية، إذ يعكس كيف يتمسك المريض بشذرات من الذاكرة ويعيدها بلا وعي، فيتحول الصوت إلى جسر بين الحاضر والماضي.
 القصة أيضًا تقدّم نموذجًا مثاليًا للأسرة المتماسكة، حيث يشارك الجميع في الرعاية دون تحميل فرد واحد العبء. هذه الصورة الجماعية تعزز في ذهن الطفل قيمة التعاون والمشاركة، وتقدّم نموذجًا مغايرًا للفردية السائدة. كما أنّ وجود الأب والأم في أدوار إيجابية متكافئة يصحّح كثيرًا من الصور النمطية في الأدب، ويؤكد على أن العائلة هي الخلية الأولى للتعاطف والتربية الوجدانية.
 من الزاوية الثقافية، تنتمي القصة إلى بيئة عربية واضحة، يظهر ذلك في مفردات مثل «تيتا» و«يما» وفي حضور الأغنية الشعبية، لكن "بيار فاضل " يقدّم هذه البيئة بعين منفتحة على الإنسانية العامة. فهي قصة يمكن لأي طفل في العالم أن يتفاعل معها، لأنها تعبّر عن تجربة إنسانية مشتركة في مواجهة النسيان بالمحبة. وهذا التوازن بين المحلي والعالمي هو ما يمنح القصة طابعها المميز، إذ تحقق الخصوصية والانفتاح في آن.
 القيمة الفكرية للقصة تتجاوز المستوى التربوي إلى مستوى فلسفي رفيع، فهي تسائل علاقة الذاكرة بالهوية، وتطرح فكرة أن الإنسان لا يُختزل في قدرته على التذكر، بل في قدرته على المحبة. حين تفقد الجدة ذاكرتها، لا تفقد قيمتها الإنسانية، بل تزداد احتياجًا للحنان، فتتحول من رمز المعرفة إلى رمز البراءة. بهذا المعنى، تنقلب المعادلة بأن الطفل يصبح المعلّم، والمسنّ يعود طفلًا يحتاج إلى رعاية. هذه الفكرة تفتح أمام القارئ الصغير أفقًا جديدًا لفهم دورة الحياة وتعاقب الأجيال.
 
 ومن حيث الأثر النفسي في المتلقي، فإن القصة تترك انطباعًا من الطمأنينة رغم مسحة الحزن التي تغلفها. الطفل لا يخرج من القصة خائفًا من الشيخوخة، بل متعاطفًا مع كبار السن. إنه يتعلم أن البكاء لا يعني الحزن بالضرورة، وأن الدموع قد تكون وسيلة للتعبير عن الفرح، كما قال السارد عن جدته. بهذا توجّه القصة الطفل نحو فهم أعمق للمشاعر المعقدة، وتحرره من ثنائية الفرح والحزن المبسطة التي تهيمن على كثير من نصوص الأطفال.
 
 من الناحية النقدية، يمكن القول إن بعض المقاطع تحتاج إلى ضبط إيقاعي من حيث تتابع الأحداث، فالانتقال من مشهد إلى آخر سريع أحيانًا، لكن هذا لا يضعف وحدة النص القصصي ولا جماله. كما أن بعض المفردات قد تبدو صعبة للأطفال الأصغر سنًا، إلا أن ذلك يمكن تجاوزه بتكييف اللغة بحسب الفئة العمرية. المهم أن القصة تظلّ نموذجًا يُحتذى في قدرتها على الموازنة بين اللغة الأدبية الراقية وسهولة الفهم.
 
 إن القيمة الكبرى لقصة «جدتي» تكمن في كونها تعيد تعريف أدب الأطفال بوصفه أدبًا للحياة كلها، لا مرحلة عمرية محددة. فهي تُذكّر الكبار قبل الصغار بأن التواصل الحقيقي لا يقوم على الذاكرة بل على الإحساس، وأن الإنسان يمكن أن يكون حاضرًا بحبه حتى لو غاب وعيه. وفي هذا المعنى، تنتمي القصة إلى تيار إنساني عالمي يرى في الفنّ وسيلة للشفاء والتصالح مع ضعفنا الإنساني.
 
 وحين تنتهي القصة بصوت الجدة وهي تغني «شوف الزهور وتعلم بين الحبايب تتكلم»، نجد أنفسنا أمام لحظة رمزية عالية الدلالة، فالأغنية ليست مجرد بقايا ذاكرة، بل وصية جمالية للأجيال وهي أن نتعلم من الزهور كيف نتحدث بلغة الجمال، وأن نجعل من الحب طريقًا للفهم، ومن العطاء وسيلة للذكرى. في تلك اللحظة يختفي الفارق بين الجدة والطفل، بين الذاكرة والنسيان، بين الكلام والصمت، فالجميع يصبحون جزءًا من سيمفونية واحدة هي سيمفونية الحياة.
 
 إن قصة «جدتي » ليست مجرد قصة عن جدة مصابة بالزهايمر، بل هي درس بليغ في الإنسانية، واحتفاء باللغة حين تصمت، وبالموسيقى حين تتكلم القلوب. إنها نصّ يعلّم الأطفال والكبار معًا كيف نرى في الضعف جمالًا، وفي النسيان فرصة للتذكّر بطرق جديدة. إنها قصة تجعلنا نوقن أن الحبّ لا يحتاج إلى ذاكرة كي يكون حيًّا، وأن الزهور فعلًا تستطيع أن تتكلم حين نصغي إليها بقلوبنا. لكن يبقى السؤال الأهم بعد كل هذا ، وهوهل تبسيط القصة بالرسوم هي وسيلة لفهم أعمق؟
 
 يشكّل أدب الأطفال واحدًا من أهم المسارات التربوية الحديثة في بناء شخصية الطفل وتنمية وعيه الجمالي والوجداني. فالقصة، بوصفها الشكل الأدبي الأقرب إلى روح الطفولة، تُعدّ وسيلة لتعليم القيم والمعاني عبر الخيال، ولتشكيل الذائقة الفنية بعيدًا عن التلقين المباشر. غير أن طبيعة التلقي لدى الأطفال تختلف باختلاف العمر والنضج العقلي واللغوي، ما يفرض على المبدع والناشر والمعلم إيجاد طرائق متعددة لتقريب النصوص إليهم. ومن بين أهم هذه الطرائق ما يُعرف بـ"تبسيط القصة بالرسوم"، أي تحويل القصة المكتوبة بلغة أدبية إلى حكاية مصوّرة تترجم الأحداث والأفكار إلى صور بصرية يستطيع الطفل فهمها واستيعاب رموزها بسهولة.
 
 تُعدّ قصة «جدتي » نموذجًا مثاليًا لدراسة هذا المفهوم. فهي قصة ذات عمق إنساني وفلسفي، تتناول فقدان الذاكرة عند الجدة وكيفية تعامل الأسرة معها، وهي فكرة قد تبدو معقدة للأطفال الصغار من حيث البعد الطبي والنفسي. لكن ما يجعلها قابلة للتبسيط هو أنها في جوهرها تتحدث عن الحبّ والتواصل واللغة الإنسانية التي تتجاوز الكلمات، وهي مفاهيم يمكن التعبير عنها بسهولة من خلال الصورة واللون والحركة. لذا يصبح تبسيطها بالرسوم ليس مجرد تزيين بصري، بل وسيلة معرفية وتربوية عميقة لتقريب المعنى للطفل.
 
 إن الطفل في المرحلة العمرية من ست إلى تسع سنوات يتعامل مع العالم من خلال الصورة أكثر من الكلمة. فاللغة البصرية لديه أكثر قدرة على الاستحواذ على انتباهه وتحريك خياله. لذلك فإن تحويل  قصة «جدتي » إلى قصة مصوّرة يمكّن الطفل من إدراك العلاقة بين الجدة وأفراد الأسرة، ومن فهم مفهوم "النسيان" دون الحاجة إلى شروح لغوية أو مصطلحات طبية. فالرسوم تستطيع أن تترجم ما لا يمكن للكلمات أن تشرحه، كدهشة الجدة حين تنسى، أو دمعتها حين تتلقى وردة، أو دفء اللمسة حين تمسك الأم بيدها.
 
 إن تبسيط القصة بالرسوم لا يعني اختزالها أو إفراغها من عمقها، بل هو عملية إعادة صياغة فنية تراعي قدرات الطفل الإدراكية. لذلك تُختصر الجمل الطويلة إلى عبارات قصيرة ذات إيقاع موسيقي، وتُستبدل المصطلحات الصعبة بعبارات مألوفة. فعوضًا عن قول “أصيبت الجدة بالزهايمر” يمكن أن يقال “صارت تيتا تنسى كثيرًا”، وعوضًا عن “تدهورت حالتها” نقول “أحيانًا تنسى من نحن، لكن قلبها يعرفنا دائمًا”. هذا التبسيط اللغوي ترافقه صور تعبّر عن المعنى العاطفي للفقد دون أن تثير الخوف أو الشفقة.
 القصة المصوّرة المشتقة من «جدتي» يمكن أن تبنى على نظام صفحات قصيرة متتابعة، بحيث تمثل كل صفحة مشهدًا دلاليًا قائمًا بذاته: تيتا في البيت وسط الزهور، نسيانها اسم الجبنة، إنقاذها من الماء الساخن، اجتماع الأسرة حولها، ثم مشاهد التواصل الجديدة عبر الموسيقى والرقص والورد. في كل لوحة من هذه اللوحات يمكن للرسام أن يستخدم الألوان كرموز نفسية مثل الأزرق والأبيض للهدوء والحنين، الأصفر للدفء والذكريات، الأحمر للورد والحب. وبذلك يتحول اللون إلى لغة سردية موازية للنص، تسهم في بناء المعنى العاطفي للقصة.
 
 من الناحية التربوية، يساعد هذا النوع من التبسيط على تدريب الطفل على قراءة الصورة وتحليلها، وهو ما يُعرف في التربية الفنية بـ"القراءة البصرية". فالطفل حين يتأمل وجه الجدة في الرسوم — بين الحيرة والابتسامة والدمعة — يتعلّم أن يفسّر المشاعر دون كلمات، وأن يربط بين التعبير البصري والمعنى الداخلي. هذه المهارة ضرورية لتنمية الذكاء العاطفي، إذ يصبح الطفل قادرًا على فهم الآخرين والتعاطف معهم. ومن هنا يتجاوز الكتاب المصوّر دوره في الترفيه إلى دور بنائي في التربية الوجدانية.
 
 يُضاف إلى ذلك أن تبسيط القصة بالرسوم يجعلها أكثر شمولًا من الناحية الثقافية. فالصور لغة عالمية يتلقاها الأطفال مهما اختلفت لغاتهم أو بيئاتهم. وعندما تُرسم «تيتا سميحة» بألوان مشرقة وخطوط واضحة، يمكن لأي طفل من ثقافات أخرى أن يفهمها دون ترجمة، لأنها تتحدث عن مشاعر إنسانية مشتركة، كالحب، الحنان، العائلة، الذاكرة. بهذا الشكل تتحول القصة من نص عربي محلي إلى خطاب عالمي عن العلاقات الإنسانية.
 
 ومن الزاوية الجمالية، يمنح الرسم الحياة للمجردات. فحين يخرج من آلة الحفيد نوتات موسيقية تتطاير كفراشات حول الجدة، يفهم الطفل أن الموسيقى صارت لغة تواصل. وحين تدور مايا بثوبها الملون أمام تيتا، يدرك أن الرقص هنا ليس لهوًا بل حوارًا جسديًا جميلًا. وعندما تلتقط الجدة وردة وتدمع عيناها، يكتشف الطفل أن البكاء ليس دائمًا حزنًا، بل يمكن أن يكون فرحًا. هذه المشاهد البصرية تُدخل الطفل إلى عمق المعاني دون وعظ، وتجعله يتذوق الجمال قبل أن يفهمه نظريًا.
 من الناحية الفنية البحتة، يتطلب تبسيط القصة تعاونًا بين الكاتب والرسام والمحرر التربوي. فالرسام هنا ليس مزيّنًا للقصة، بل شريك في إنتاج المعنى. عليه أن يوازن بين الواقعية والرمزية، فلا يرسم المرض أو الشيخوخة بطريقة تُثير الخوف، ولا يُغرق في التجميل الزائد الذي يلغي واقعية الحدث. بل المطلوب هو أسلوب وسطي دافئ يجعل الجدة قريبة من القلب، بملامح حنونة وعيون كبيرة تعبّر عن الحب. أما الخلفيات فيُفضّل أن تكون مألوفة للطفل كما هي الحال في رسومات هذه القصة غرفة بسيطة، حديقة، مائدة طعام، لتُبقي القصة في فضائها اليومي الآمن.
 
 ومن أهم ميزات التبسيط بالرسوم أنه يسمح بدمج الطفل في عملية القراءة النشطة. فحين يرى الطفل في الصفحات أدوات موسيقية أو زهورًا أو رقصات، يمكن للمعلم أو الوالد أن يسأله: “ما اللغة التي تستخدمها أنت لو كنت مكان الحفيد؟” أو “ما لون الورد الذي تهديه لتيتا؟”. بهذه الطريقة يصبح الطفل مشاركًا في إعادة إنتاج القصة، فيتحول من متلقٍ سلبي إلى خالق صغير للمعنى. هذا التفاعل يعمّق الفهم ويُرسّخ القيم التربوية في ذهنه.
 كذلك، يسهم الكتاب المصوّر في تعزيز العلاقة بين الطفل والقراءة من خلال الدمج بين المتعة البصرية والوجدانية. فالقصة هنا لا تعتمد على النص وحده، بل على الحكاية المرسومة التي تدعوه إلى تتبع الصور لمعرفة ماذا سيحدث. هذه الديناميكية البصرية تُنمي حب القراءة في مرحلة ما قبل التعلّم الكامل للكتابة، وتُعدّ تمهيدًا للانتقال لاحقًا إلى القراءة النصية الخالصة.
 ولا بد من الإشارة إلى أن تبسيط هذه القصة بالرسوم لا يفقدها بعدها القيمي أو الرمزي. بل على العكس، فإن الرموز تزداد وضوحًا من خلال الصورة. فالنوتة الموسيقية قد تُرسم على شكل يتطاير، والوردة قد تُظهر في بتلاتها بألوان مشرقة ، والعينان اللامعتان قد تحيلان إلى التواصل بين الأرواح. هذه الرموز البسيطة تزرع في الطفل القدرة على القراءة الرمزية منذ الصغر، وهو ما يطوّر حسه الفني والنقدي لاحقًا.
 
 إن قصة «جدتي » في نسختها المصوّرة تصبح في جوهرها درسًا في الجمال الإنساني. فهي تعلّم الطفل أن النسيان لا يلغي الحب، وأننا نستطيع أن نفهم من نحبهم بطرق كثيرة إن  باللون، بالصوت، باللمسة. كما تُشجعه على استخدام الفن وسيلة للتعبير عن مشاعره، فالموسيقى والرقص والرسم ليست أنشطة ترفيهية فقط، بل لغات للتواصل والشفاء. هذا المفهوم العميق يجعل من القصة تجربة تعليمية متكاملة تُغذي الحس الجمالي والعاطفي في آن.
 
 ومن الناحية التطبيقية، يمكن للمدرسة أو الأسرة أن توظف النسخة المصوّرة من القصة في أنشطة تربوية متعددة. مثلًا: بعد القراءة، يُطلب من الأطفال رسم مشهدهم المفضل مع تيتا، أو ابتكار لغة جديدة للتواصل مع أحد الكبار في عائلتهم. كما يمكن إدخال عناصر الأداء، فيؤدي بعض الأطفال دور الجدة أو الحفيد، أو يعزفون لحن الأغنية “شوف الزهور وتعلم”. بهذه الأنشطة يتحول الأدب إلى ممارسة حياتية، ويغدو الفن أداة للتربية القيمية.
 
 إن تبسيط القصة بالرسوم يحمل أيضًا بعدًا ثقافيًا مهمًا، إذ يسهم في الحفاظ على الهوية البصرية العربية ضمن أدب الأطفال. فعندما تُرسم الجدة بملامح عربية، والبيت بديكور شرقي بسيط، والأغنية بلسان عربي مألوف، فإن الطفل يرى ذاته وثقافته في الكتاب. وهكذا لا يشعر بالاغتراب عن قصصه، بل يتعلّق بها بوصفها جزءًا من ذاكرته الجمعية. وفي الوقت نفسه، يمكن للرسوم أن تنفتح على الجمال العالمي في الألوان والتقنيات، مما يخلق توازنًا بين المحلية والإنسانية.
 
 من الزاوية النقدية، يمكن القول إن تبسيط القصص الواقعية بالرسوم يواجه تحديين أساسيين: الأول هو خطر التبسيط المفرط الذي قد يفقد القصة عمقها، والثاني هو الميل إلى الزخرفة البصرية التي تلهي الطفل عن الفكرة. والنجاح الحقيقي يكمن في الحفاظ على جوهر القصة، وتقديمها بلغة بصرية صادقة تعبر عن العاطفة من دون مبالغة أو وعظ. وفي حالة «جدتي»، يظلّ التحدي الأكبر هو ترجمة الألم إلى جمال، والحزن إلى أمل، وهذا ما يمكن تحقيقه فقط بتكامل النص والرسوم في رؤية واحدة.
 
 في النهاية يمكنني القول إن تبسيط قصة « جدتي » بالرسوم ليس إجراءً شكليًا أو تسويقيًا، بل خطوة تربوية فنية تعيد تعريف كيفية تلقّي الطفل للأدب. فالقصة المصوّرة قادرة على جعل المفاهيم الإنسانية الكبرى — كالذاكرة، والحب، والعطاء — مفهومة بلغة الصورة واللون. وهي بذلك تفتح أمام الطفل أفقًا رحبًا للخيال والتفكير الجمالي، وتزرع فيه منذ الصغر الإيمان بأن الجمال يمكن أن يكون وسيلة للفهم والتواصل، وأن الزهور فعلًا تتكلم حين ننظر إليها بعيون القلب.بهذه الرؤية، نجح "بيار فاضل "مع  رسومات "غلشاه ألتشن أزك "بتبسيط القصة بالرسوم ليس تبسيطًا للفكر، بل تعميقًا للفهم، وامتدادًا حقيقيًا لرسالة أدب الأطفال في بناء إنسانٍ محبٍّ، متذوّقٍ للجمال، قادرٍ على التعبير عن مشاعره بألوان الحياة كلها.
 بيروت -لبنان -الجمعة في 31 تشرين الأول 2025 الساعة الثامنة صباحًا
 
 
 #ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
       
 
 ترجم الموضوع 
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other 
languages
 
 
 
الحوار المتمدن مشروع 
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم 
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. 
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في 
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة 
في دعم هذا المشروع.
 
       
 
 
 
 
			
			كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية 
			على الانترنت؟
    
 
 
 
                        
                            | رأيكم مهم للجميع
                                - شارك في الحوار
                                والتعليق على الموضوع للاطلاع وإضافة
                                التعليقات من خلال
                                الموقع نرجو النقر
                                على - تعليقات الحوار
                                المتمدن -
 |  
                            
                            
                            |  |  | 
                        نسخة  قابلة  للطباعة
  | 
                        ارسل هذا الموضوع الى صديق  | 
                        حفظ - ورد   | 
                        حفظ
  |
                    
                        بحث  |  إضافة إلى المفضلة
                    |  للاتصال بالكاتب-ة عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
 
 | - 
                    
                     
                        
                    معادلة الميتا-كود والديجا فو (Déjà Vu) والإنسان كمنتَج خوارز
                        ... - 
                    
                     
                        
                    هل الأسطورة والمعنى تمثل بناء النظام الرمزي للعالم؟
 - 
                    
                     
                        
                    هل تساوي قيمة الكاتب مكانَ نشره؟
 - 
                    
                     
                        
                    هل يمكن للمانغا أن تولد من رحم اللغة العربية؟
 - 
                    
                     
                        
                    الخوف من الحياة في شعرية المقاومة لدى إدريس سالم
 - 
                    
                     
                        
                    الهوية الكردية كخيط ناظم في رواية كريستال أفريقي
 - 
                    
                     
                        
                    الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط
 - 
                    
                     
                        
                    هل ما بين الكراهية والإعتراف عقدة نقص ؟
 - 
                    
                     
                        
                    ميغيل ميهورا في مجموعة قصصية بعنوان رجل واحد
 - 
                    
                     
                        
                    فن الطبخ في مسلسل -هنيبعل-: الجمال الملوث بالدم
 - 
                    
                     
                        
                    فلسفة هنيبعل وتفسير النفس البشرية
 - 
                    
                     
                        
                    هل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
 - 
                    
                     
                        
                    جدلية الشفاء والعجز في لقاء نيتشه وبروير في فيلم حين بكى نيت
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    سردية التيه والوعي في هامش العالم العربي
 - 
                    
                     
                        
                    رحلة في عمق الحب والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي
 - 
                    
                     
                        
                    الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.
 - 
                    
                     
                        
                    التطور القادم من التخابر
 - 
                    
                     
                        
                    السرد الرمزي العربي في رواية- الولد الذي حمل الجبل فوق ظهره 
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    هل التحليل الجيومتري الديناميكي في لوحة جبران طرزي يعزز الإي
                        ...
 - 
                    
                     
                        
                    مأزق الكاتبة في مجتمع متصلب
 
 
 المزيد.....
 
 
 
 
 - 
                    
                     
                      
                        
                    طبيبة نرويجية: ما شاهدته في غزة أفظع من أفلام الرعب
 - 
                    
                     
                      
                        
                    -ذي إيكونومست- تفسر -وصفة- فنلندا لبناء أمة مستعدة لقتال بوت
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    لن تتوقع الإجابة.. تفسير صادم من شركة أمازون عن سبب تسريح نح
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    حزب الوحدة ينعى الكاتب والشاعر اسكندر جبران حبش
 - 
                    
                     
                      
                        
                    مسلسلات وأفلام -سطت-على مجوهرات متحف اللوفر..قبل اللصوص
 - 
                    
                     
                      
                        
                    كيف أصبح الهالوين جزءًا من الثقافة السويسرية؟
 - 
                    
                     
                      
                        
                    كيف يُستخدم علم النفس -الاحتيالي- كسلاح لقمع الإنسان وتبرير 
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    لندن تحتضن معرضاً لكنوز السعودية البصرية لعام 1938.. وأحفاد 
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    -يوميات بوت اتربى في مصر- لمحمد جلال مصطفى... كيف يرانا الذك
                        ...
 - 
                    
                     
                      
                        
                    كيف كشفت سرقة متحف اللوفر إرث الاستعمار ونهب الموارد الثقافي
                        ...
 
 
 المزيد.....
 
 - 
                    
                     
                        
                    إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
                        ...
                    
                     / عبدالرؤوف بطيخ
 - 
                    
                     
                        
                    المرجان في سلة خوص كتاب كامل
                     / كاظم حسن سعيد
 - 
                    
                     
                        
                    بيبي  أمّ الجواريب الطويلة
                     / استريد ليندجرين- ترجمة  حميد كشكولي
 - 
                    
                     
                        
                    قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
                     / كارين بوي
 - 
                    
                     
                        
                    ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
                     / د. خالد زغريت
 - 
                    
                     
                        
                    الممالك السبع
                     / محمد عبد المرضي منصور
 - 
                    
                     
                        
                    الذين لا يحتفلون كتاب كامل
                     / كاظم حسن سعيد
 - 
                    
                     
                        
                    شهريار
                     / كمال التاغوتي
 - 
                    
                     
                        
                    مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
                     / حسين جداونه
 - 
                    
                     
                        
                    شهريار
                     / كمال التاغوتي
 
 
 المزيد.....
 
 |