ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 14:18
المحور:
الادب والفن
لم تعد الكتابة مجرّد فعلٍ فردي، بل تحوّلت إلى عملية اجتماعية، تجارية أحياناً، دعائية أحياناً أخرى، مما ألقى بثقله على الكُتّاب أنفسهم في عالمٍ مشبعٍ بالمنصات والمواقع والضجيج الرقمي، باتت الكتابة معرضاً مفتوحاً، والكاتب تائهاً بين ما يجب أن يقال، وما يُنتظر منه أن يُقال، وبين أين يُقال.فهل تساوي قيمة الكاتب مكانَ نشره؟ وهل الموقع أو المنصة أو عدد المتابعين مؤشّر على جودة الفكرة؟
إن الكاتب الجيد لا يُقاس بمكان نشره، بل بثبات صوته، وعمق فكرته، وذكاء اختياره لمساره. فهذه ليست عبارة شاعرية، بل مبدأ يعيد للكتابة معناها الأول بمعنى أن تكون صوتاً ينبع من الداخل، لا صدى لما هو مطلوب. أن تكون رسالة، لا وظيفة.فهل يمكن للكاتب أن يحافظ على صدقه وهو محاط بهذه الضغوط الرقمية؟ وهل المنصة لا تصنع الكاتب، بل تُعرّيه؟
من الخطأ أن نظن أن المنصة، سواء كانت شهيرة أو هامشية، قادرة على "صناعة" كاتب. فالمنصة لا تخلق فكرة، ولا تزرع رؤية، بل تكشف ما هو موجود بالفعل فيمكن أن تعريه، تضعه تحت الضوء، وتواجهه بجمهور. "فهل الكاتب يُقاس بمكان نشره، أم بثبات صوته وعمق فكرته وذكاء اختياره لمساره؟
لقد منحتنا الثورة الرقمية أدوات نشر لم تكن متاحة في أي عصر مضى. لم يعد الكاتب بحاجة إلى دار نشر، أو صحيفة كبرى، أو مجلة نُخبوية. صفحته الشخصية، مدونته، حسابه على مواقع التواصل، كلها يمكن أن تكون منبرًا. وهنا يظهر الفارق بين من يملك صوتًا، ومن يملك فقط وسيلة للصراخ. فالمنصة قد توصل صوتك، نعم، لكنها لا تمنحه المعنى. يمكن لمنصة صغيرة أن تنقل نصاً عظيماً إلى خمسة قراء، لكن أحدهم قد يغيّر فكره أو يشعر بأنه لم يعد وحده. بينما منصة ضخمة قد ترفع نصاً فارغاً أمام آلاف المتابعين، دون أن يترك فيهم شيئًا.في هذا المعنى، تتحول المنصة من "مكافأة" إلى "اختبار".فإذا كنت كاتباً حقيقيًاً، فإن المنصة ستُظهر ذلك.وإن كنت تلاحق الأضواء بلا مضمون، فإنها ستفضح ذلك. فهل يمكن للمنصة أن تخفي ضعف الصوت أو تضخم من لا يستحق؟ وكيف يمكن للكاتب أن يتجاوز ذلك؟ وكيف ندرك هوية الكاتب في زمن التشويش؟
في زمن تتعدد فيه الأصوات وتتزاحم فيه الخطابات، يصبح "ثبات الصوت" هو العلامة الفارقة بين كاتب يُتابع، وكاتب يُسْمَع. بين كاتب يكرر، وكاتب يُبادر.لكن، ما المقصود بثبات الصوت؟ أهو العناد؟ الجمود؟ الانغلاق؟
أبدًا.ثبات الصوت لا يعني أن يظل الكاتب يكرر نفسه، بل يعني أن يكون وفيًا لجذوره الفكرية، لنبضه الداخلي، لبوصلته الأخلاقية والفكرية، حتى حين يتغير العالم من حوله.الكاتب الذي يتغير فقط لأن الجمهور تغيّر، أو لأن الخوارزميات طلبت ذلك، أو لأن السوق فرض موضوعًا ما — هو كاتبٌ سلّم زمام قلمه لغيره.أما الكاتب الذي يسمع داخله أولًا، ويكتب مما يعانيه، ويعالج ما يراه لا ما يُملى عليه، فهو الكاتب الذي يصمد.ففي عالم تتغير فيه الأذواق كل لحظة، الثبات ليس سكونًا، بل مقاومة.
الضجيج الرقمي، تدفق المحتوى، مقاييس الشهرة السريعة… كلها عوامل تشوّش على الصوت الحقيقي، تجعله يبدو باهتاً، متأخراً أو حتى "خارج السياق".لكن التجارب أثبتت أن هذا النوع من الكتابة هو الأصدق، والأكثر بقاءً. الكاتب الذي يثبت صوته، هو من يخلق سياقه، لا من ينتظر أن تتهيأ له الظروف. كيف يمكن للكاتب أن يحمي ثبات صوته وسط هذه الضغوط؟ وهل ثبات الصوت يعني بالضرورة الجمود؟
ليست كل الكلمات التي تُنشر تُعد كتابةً بالمعنى الحقيقي. الكتابة الحقيقية تبدأ من سؤال عميق، أو دهشة، أو معاناة، أو قلق وجودي. من رغبة في الفهم، أو مشاركة شيء أصيل.كل ما عدا ذلك: شرح، تكرار، تغليف. والفكرة العميقة لا تعني الفكرة "الصعبة" أو "المبهمة"، بل تعني تلك التي تنطلق من تأمل طويل، من صراع داخلي، من فهم للتعقيد لا رغبة في تبسيطه المخل.الكاتب الممتاز لا يكتب ليملأ فراغًا، بل لأنه يحمل ضرورة داخلية لأن يقول ما لم يُقل بعد — أو يقوله بطريقة جديدة، تُضيءه لا تُطمسه.ومن هنا، فإن عمق الفكرة لا علاقة له بمكان النشر.
الفكرة العميقة قد تظهر في مدونة مجهولة، أو على ورقة عابرة، أو حتى في تغريدة واحدة، لكنها تحمل من القوة ما يكفي لتتجاوز الجدران والمنصات والمجاملات. الكاتب الحقيقي لا يكتب ليُدهشك ببلاغته، بل ليوقظك من الداخل.كيف يمكن للكاتب أن يغوص في عمق فكرته وسط إغراءات السطحية والتكرار؟ وهل الفكرة العميقة تحتاج لمنصة معينة لتصل؟
قد يظن البعض أن الكاتب الحقيقي لا يهتم بمساره الكتابي، وأنه يكتب ما يشاء، وقتما يشاء، وكيفما يشاء.لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. الكاتب الممتاز لا يفرّط بصوته ولا يفقد عمقه، لكنه في الوقت نفسه يدرك قواعد اللعبة دون أن يتحوّل إلى قطعة منها.وهنا يأتي ما يمكن أن نسميه: "ذكاء المسار".الذكاء في مسار الكاتب لا يعني الانتهازية، بل يعني: معرفة متى يكون الوقت مناسبًا للكلام، ومتى يكون الصمت أبلغ. واختيار أين يضع نصّه، وما الجمهور الذي يخاطبه، وما الرسالة التي يحملها. وفهم لماذا يكتب هذا النص الآن، لا لاحقاً ولا قبل ذلك.في زمن التسابق المحموم على النشر، تصبح القدرة على الانتظار فضيلة.وفي زمن التهافت على المنصات، يصبح الاكتفاء بمكان صغير، لكن نزيه، موقفًا فكريًا.والكاتب الذكي لا يُغريه الوهج المؤقت، بل يبحث عن المسار الطويل الذي يشبهه، حتى لو سار فيه وحده في البداية.وما أكثر الذين لمعوا في سماء الإعلام، ثم اختفوا لأنهم لم يحملوا عمقاً حقيقياً .وما أكثر الذين كتبوا في الظل لسنوات، ثم صاروا مراجع وأصواتاً مؤثرة، لأنهم بنوا كتابتهم على مشروع، لا على مناسبة. و ليس كل من نُشر اسمه في مكان مرموق هو كاتب ممتاز، وليس من نشر في مدونته المتواضعة أقل قيمة، إن كانت فكرته صادقة ومساره واعياً.
الذكاء لا يعني السعي للشهرة، بل إدراك أن كل نص يُنشر، هو لبنة في بناء الهوية الفكرية والأدبية للكاتب. وهذا ما يجعل بعض الكتّاب "مشروعًا"، وبعضهم "مجرد حضور عابر".كيف يستطيع الكاتب أن يوازن بين حاجته للتعبير ورغبته في الوصول؟ وهل يمكن للذكاء أن يضمن استمرارية الكتابة؟
لو عدنا إلى أسماء كبار الكتّاب والمفكرين الذين نُحيي إرثهم اليوم، سنجد أن كثيراً منهم لم ينالوا الاعتراف في زمنهم.كتبوا في الظل، أو نُشرت أعمالهم في مجلات محدودة الانتشار، أو لم يُقرأوا إلا بعد موتهم. لكنهم كتبوا لأنهم لم يستطيعوا ألا يكتبوا. لأن ما في داخلهم كان أكبر من أن يُحمل في صمت. محمود درويش كتب أولى قصائده في منشورات حزبية مغمورة، ثم صار صوتاً لقضية وشعب. مي زيادة واجهت الإقصاء والتجاهل، لكنها بقيت تكتب، حتى وهي محاصَرة نفسياً وجسدياً نيتشه، الذي غيّر مسار الفلسفة، لم يُؤخذ على محمل الجد في زمنه.الجامع بينهم جميعاً أنهم لم يتخلّوا عن صوتهم، ولم يغيّروا مسارهم طلباً للرضا المؤقت. فهل يمكن للكاتب اليوم أن يستمد من تجارب هؤلاء دروساً للبقاء على صوته وسط التغيرات؟ وكيف تتعامل المجتمعات مع الأصوات الجديدة؟
لا يُقاس الكاتب الجيد بمكان نشره، ولا بعدد قرّائه في لحظة ما، ولا بكمية التفاعل الرقمي حول نصوصه.بل يُقاس بما يبنيه بصبره، بما يتركه من أثر، وبما يواجهه من تحديات دون أن يبدّل جلده أو يساوم على صوته.الكاتب الجيد ليس من يُسمَع دائماً، بل من يبقى صوته واضحاً حتى حين يختفي من المشهد. فهو من يعرف أن الفكرة الجيدة لا تموت، وإن طال صمتها. وأن الكتابة فعل مسؤولية، لا ترف.وأن المعركة الحقيقية ليست مع الخوارزميات، بل مع التسطّح، والتكرار، والخضوع للمطلوب. فاكتب حيث تستطيع، حيث تُسمع، أو حتى حيث لا يراك أحد.لكن لا تكتب أبداً ما لا يشبهك، ولا تقل ما لا تؤمن به.وإن كان لا بد من منصة، فاجعلها امتداداً لصوتك، لا مقبرة له. فتأكد أنت الكاتب، لا المنصة. أنت الفكرة، لا التغليف.أنت من تصنع الطريق، لا من يُقاد فيه.فهل أنت مستعد لأن تكون كاتباً صادقاً مع نفسه، بغض النظر عن الضجيج والمكان؟
بيروت -لبنان - الخميس 16 تشرين الأول الساعة العاشرة والنصف صباحا 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟