ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 13:56
المحور:
الادب والفن
قراءة في رواية قاع البلد للروائي صبحي فحماوي
تنتمي رواية قاع البلد للروائي صبحي فحماوي إلى أدب ما بعد النكبة، وتُمثل أسلوبا أقرب إلى الواقعية السحرية أو السرد الاعترافي الذاتي، حيث تختلط الحكاية الشخصية بالتاريخ الجمعي، وتمتزج الغرابة بالفقر، والسياسة باليومي والضحك والمرارة، ففي زاوية معتمة من فندق مهلهل في "قاع المدينة"، وفي زمن متشظٍ ما بين ما بعد النكبة وما قبل اجتياح الذات، يتشكل أمام القارئ سرد فريد، مليء بالهذر والوجع والوعي المفاجئ، يستند إلى لقاء شبه عبثي بين شخصيتين: طالب طب جامعي (الراوي)، ورجل غريب الأطوار يُدعى الهربيد عوض. وبين سريرين متجاورين في غرفة لا تتجاوز المترين، يتكشّف عالمٌ بأسره. فهل الهربيد هو المجنون الحكيم، أو الفيلسوف الشعبي؟
يسطو الهربيد بقوة على بداية الرواية وعلى المكان، وعلى القارئ نفسه، بصوته الهادر، وحركاته العنيفة، وأفكاره المتدفقة. فهو "رجل يبدو ثلاثيني العمر، حاد النظرات الساخطة، بسوداويتها وتوهانها في فضاء الغرفة"، وكأنه شخصية خرجت من قصص غسان كنفاني أو معين بسيسو، ولكنه لا يحمل شعارات سياسية جاهزة، بل يعبر عن المأساة الفلسطينية من خلال سرد الحياة اليومية، العبثية أحياناً والمليئة بالتناقضات وكأن حضوره اعتراض وجودي على كل شيء.لكن هذا الرجل، الذي قد يبدو تافهاً أو مجنوناً لأول وهلة، يكشف عن وعي فلسفي شعبي نادر، حين يقول: "من قال إن النائم ميت؟ هذا غير صحيح. النائم شخص آخر... النوم يصفي أوساخ مشاكل يومه.. يحللها، يذوبها، يزيلها، ثم يكوي هيئته وهو يصحو بنفسية جديدة مغسولاً، منظفاً، خالي الوفاض من أعبائها."فهو لا يتحدث كمجرد نزيل فندق رخيص، بل فيلسوف عابر، يقرأ النوم كعملية تطهير نفسي، لا تقل عمقاً عن التحليل النفسي الفرويدي، ولا عن تطهر المتصوفة. وهذا يأسر القارىء ويجعله يسأل هل الراوي عاقل أم مأسور؟
يتقاطع في الرواية الحلم مع الموت، ويصبح السرير استعارة مرعبة للموت القريب ، وهو ما يشي بأن الرواية ليست عن قصة حدثت، بل عن معاناة لم تنتهِ، لا في الزمن النفسي، ولا في الواقع السياسي، كما في وصفه للصحراء لا نهاية لها، تمتد"من أقصى الدنيا إلى أقصى الآخرة" وكأنها التيه الأبدي للإنسان المنفي من رحم الطمأنينة "كل ما حولي رمال صحراء لا نهاية لها ...هناك بلا مكان..الأرض بلا معالم.."فالصحراء هي رمز للنفي، للضياع، للمحو.كما يقول إدوارد سعيد:" المنفى ليس فقط حالة فقد المكان، بل فقد المعنى أيضا"، وهو ما يتجسد في عبارات الهربيد الذي لم يعد يرى حتى الأغنام"لأنها تماهت مع سراب الصحراء"
تفاوت في الوعي والتعليم داخل نفس القاع المجتمعي نشعر به مع الدكتور طالب طب في جامعة الأزهر، فيبدو ـ للوهلة الأولى ـ نقيضاً للهربيد: عاقل، متزن، غير منجرف، ورافض لاختراق خصوصيته من هذا الغريب. لكنه في الحقيقة، هو المرآة التي ينكسر فيها الواقع، وهو شاهد العجز الوجداني والسياسي، كما يتجلى في صرخته الداخلية اللعنة على هذا الاحتلال الذي يوسع حدود عدوانه كل يوم... فلسطين كلها صارت ببطن العدو الذي تضخم مثل أفعى ابتلعت أرنباً كبيرا." هو واعٍ، نعم، لكن وعيه جامد، صامت، مقموع، بعكس الهربيد الذي يعيش كل لحظة من تمزقاته وكأنه يُعلن عن خيبته في مكبر صوت داخلي. فهل الفندق هو وطن مؤقت، مسكون بالغربة؟
الفندق في الرواية ليس مجرد مكان إقامة، بل رمز قوي للوطن المؤقت، المهدد، المفخخ بالغرابة والانفصام. إن الفندق الذي "يصنف كأقل من نجمة واحدة" يبتلع النزلاء مثلما ابتلعهم المنفى. يتحدث النص عن النوم على "السطوح"، عن السقوط مثل "شوال التبن"، عن الجرذان والأفاعي ككائنات تتربص بالكرامة "ولهذا صرت يا أبو الحبايب، والاحتياط واجب، أربط رجلي برجل حديد السرير، مثل ربطة الفجل، كي أصحو وأنتبه..."هذه العبارة لا تُقرأ فقط كحركة بدائية لردع المشي أثناء النوم، بل كرمز للخوف من فقدان الذات، من الانزلاق إلى هاوية النسيان، من السقوط إلى قاع لا رجعة منه. فهل ثنائية الكلام والصمت في الرواية هي من يحكي ومن يصمت؟
الهربيد يتكلم. الراوي يصمت. الهربيد يطبخ، يعرض، يضحك، يغني، يشرب. الراوي يراقب، يرفض، يتحفظ، يتكتم.هذه الثنائية ليست فقط أسلوباً سردياً، بل تكشف عن عمق التفاوت في القدرة على التعبير عن الألم. فالهربيد، رغم وضعه المزري، يملك صوتاً ومخيلةً و"كيسين من ورق الإسمنت"، وذاكرةً حية، أما الراوي، فرغم علمه وتعليمه، لا يستطيع إلا أن يراقب، ويصمت، ويتحسر على "طعام أمه المحتجزة خلف الحدود". فماذا عن البراندي مقابل الماء؟ حضرت معي زجاجتين من عند أولاد مشربش... واحدة عصير تفاح، والثانية كونياك... براندي يشفي العليل." البراندي هنا ليس مجرد مشروب، بل رمز للانفلات، وربما للانسلاخ عن القيم القديمة. هو يعرضه بفخر، فيما يرفضه الراوي لأنه "طالب أزهري". لكن الخلفية الأخلاقية ليست محل النقد، بل ما يُقال بين السطور: هناك فئة من الشعب، الجياع، المهمشين، صارت تبحث عن أي شيء لتحتمل به قساوة العيش، حتى لو كان براندي "يشفي العليل" مجازاً، بينما فئة أخرى تراقب وتحكم وتنعزل. كما أن أحد أقوى المشاهد الرمزية في الرواية، هو حين يشبه الهربيد نفسه ب"المسيح الكنعاني" :"أسير متثاقلاً مثل "المسيح الكنعاني" الذي يحمل صليبه على كتفيه ....لماذا شبقتني" إذ يمتد الألم الفردي ليصبح صرخة كونية ضد الخذلان.الهربيد لا يردد فقط صرخة المسيح، بل يعيد تأويلها في سياق كنعاني-فلسطيني في تذكير أن الفداء قد يكون بلا خلاص،وبأن الألم قد يكرر نفسه دون نهاية. لكن بعد كل هذا يزداد تساؤل القارىء لماذا الرواية مقسمة إلى ليالي وكل ليلة تدفعك قسراً لتقرأ الليلة التي ما بعدها ؟
الليالي لست مجرد إطار سردي، بل تحمل في طياتها رموزاً عميقة واستدعاءات ثقافية تمتد من التراث العربي الشفهي إلى بنىة الحكي الحديثة أو بالأحرى بنية ليالي هي حيلة وجودية، ففي التراث العربي وتحديداً في ألف ليلة وليلة، تقوم بنية السرد على تقطيع الحكايات إلى ليالٍ، كل ليلة تنتهي بعقدة مؤجلة. بهذه الطريقة، كانت شهرزاد تؤجل موتها، فالسرد هو وسيلة للبقاء في الليلة الثانية من قاع البلد يستدعي الفحماوي هذه البنية، لكن لا لتأجيل الموت الجسدي، بل للتشبث بالحياة النفسية والهوية والذاكرة.فالهربيد، مثل شهرزاد، يحكي كل ليلة، لكنه لا يحكي للنجاة من السيف، بل من الصمت، من الجنون، من الفقد التام. كل ليلة تمثل وحدة سردية منفصلة، لكنها متصلة، مثل درجات سلم يؤدي إلى أعماق الذات.الليل هنا ليس توقيتاً فقط، بل حالة شعورية ونفسية:" الليلة الثانية من معرفتي بالهربيد، وارتباطي بجيرته الغريبة، جاءني متأخراً كالعادة."هذا المشهد الليلي يذكّرنا بأن الليل فضاء البوح والانكسار، حيث تسقط أقنعة النهار، ويبدأ العقل الباطن في فرض لغته. ومع كل ليلة جديدة، يدخل القارىء في الحلم، أعمق في الوجع، وكأن الحكاية نفسها تتعرض لحالة تشظّ زمني متواصل ومثلما أن الحزن لا ينفجر دفعة واحدة، بل يُكشف تدريجياً يستخدم الفحماوي الليالي كاستراتيجية نفسية تسمح بفك طبقات الألم، وإعادة تشكيل الصدمة مثلا الليلة الأولى بداية التعارف، إشارات أولى إلى كآبة الهربيد والليلة الثانية انزلاق كامل نحو الألم، الحلم الكابوسي، الاستبطان. هذه البنية تشبه في بنيتها جلسات تحليل نفسي، أو ليالٍ في عيادة روحية، حيث كل لقاء يحفر أعمق في الماضي وفي الذات فهل ما لايُقال في النهار، يقال في الليل ؟
رواية قاع البلد تُنجز ما عجزت عنه مئات القصائد والخطب .إذ يُعرض صبحي الفحماوي المأساة الفلسطينية دون شعار. يفضح الواقع العربي المهترئ دون بكاء. يسخر من البؤس دون قسوة. يخلق شخصية سردية (الهربيد) هي بحد ذاتها رواية تمشي على قدمين. فهل الهربيد مجنوناً ؟أم هو كما في بعض اللهجات العربية المحلية هو الإنسان التائه، غير المتزن، الذي يسير بلا هدف أو وعي أو المشرد أو المهمش ؟
الهربيد في قاع البلد هو المشرد المثقف بالفطرة، ناقم لكن ليس مفسداً هو المنفي في وطنه التائه في الحياة هو مرآة مكسورة، تعكس هشاشتنا جميعًا كما يعكس حالة التيه الكبرى . هو الحي في عالم الموتى، وهو العاقل في وطنٍ فاقد للوعي. يسير في نومه، نعم، لكنه الوحيد الذي يرى الحفرة قبل السقوط فيها. وأما الراوي، فربما سيكتشف بعد فوات الأوان، أن رفضه للطحالات والبراندي ورأس الخروف، لم يكن موقفاً أخلاقياً فقط، بل كان فقداناً لفرصة التعرف على الحقيقة.في النهاية، الهربيد هو نحن... حين نُحاصر فلا نجد سوى الثرثرة، والهذيان، والسير على الحواف. وقد مرّ بتحولات نفسية كثيرة من التمرد على الأب، إلى السعي للاستقلال،إلى الغرق في الفقر والتيه، ثم إلى الاكتفاء المؤلم، في داخله مفكر ساخر، وعاشق للنساء والحياة، ولكنه غير فاسق بالمطلق، بل هو شخصية معقدة ذات تناقضات أخلاقية انبثقت من قاع البلد وقاع الذاكرة. فهل ما طرحه الفحماوي في رواية قاع البلد هو مفهوم مكسور لمعنى السكن ؟
السكن في معناه الجوهري ليس حكاية عن بيت أو غرفة أو جدران وسقف بل هو السكون النفسي والجسدي، حالة استقرار وجودي في عالم متصدع. ولعل أكثر ما يدهشنا هو تلك الفقرة التي يقارن فيها الراوي بين سكن الجسد المتعب، وسكن الروح في امرأة صالحة، وبين سكن الذاكرة في بيت لم يعد موجوداً. هكذا، يصبح سؤال السكن سؤالًا فلسفياً وجودياً، يشبه سؤال الوجود ذاته. أين نكون إذا لم يكن لنا مأوى؟ وماذا يبقى من الإنسان إذا ما فقد حقه في أن يتعب، ثم يسكن، في حضن امرأة، أو وطن، أو حتى غرفة صغيرة في شارع مهجور؟
يعيدنا الفحماوي إلى البؤساء والرغيف المسروق في أكثر المشاهد كثافةً وعنفاً رمزياً، يسرق الراوي رغيفاً من بسطة خبز، ويتناول اللقمة أمام عينَي الخباز. لحظة مدهشة من الصراع الإنساني الخام بين غريزة البقاء، والخوف، والعار، والكرامة. في هذه اللقمة، تختزل القصة كل ما يمكن أن يُقال عن الجوع الفلسطيني، عن الجوع العربي، عن الإنسان الذي يُرمى في قاع المدينة ليبحث عن طعام لا يخدش حياءه، ولكن لا يجده.فالرواية في جوهرها، ليست رواية حزينة بل رواية فلسفية في لبوس الحزن. هي سرد ممتد لسؤال مهم جداً. كيف تعيش على الهاوية دون أن تسقط؟ كيف تبني إنسانيتك من فضلات المدينة، ومن توافه السوق، ومن وجوه النساء، ومن فتات المخابز؟
الراوي، رغم كل ما مرّ به، لا يفقد إنسانيته. يسرق الرغيف، لكنه يعتذر عنه في داخله. يحب النساء، لكنه يتساءل عن الحلال والحرام. يشتغل عتالًا، لكنه يرى في بيوت الأغنياء فناً، وحدائق تُشبه الحلم. فهل يقدم الفحماوي ما يمكن تسميته بـالأنثروبولوجيا الروحية للنكبة. لا شعارات، لا بيانات سياسية، لا خطاب كراهية. فقط إنسانٌ يبحث عن سقف، وامرأة، وقهوة، ومدينة تحبه، ولا تطرده. فالرواية ليست قصة لاجئ فلسطيني فحسب، بل مرآة لكل منفيّ في وطنه، ولكل فقير لم يجد السكينة، ولكل إنسان يبحث عن رغيف لا يُذله. الرغيف هنا ليس طعاماً، بل وثيقة نجاته من الانقراض. والخباز ليس خصماً، بل مجتمعاً كاملاً يراقب، ولا يتدخل. تلك النظرات الصامتة بين الراوي والخباز، تصلح أن تكون لوحة فنية بعنوان: "الصمت الذي لم يمنع الموت". لهذا اسمحو لي أن اتوقف هنا عن كتابة ما يصعب كتابته بأسطر أو مقالة عن رواية تستحق دراسة كاملة وتوقف عند كل مشهد نرى فيه فقراء في منفى وطنهم ورغم كل هذا تستمتع وأنت تغرق في قاع البلد حيث التشرد الذي يعيدك إلى قصة مدينتين لتشارلز ديكنز ولمسلسل الأنيمي Arcane لكن هذه المرة مع هربيد صبحي الفحماوي في قاع البلد.
لبنان - بيروت الأربعاء 27 آب 2025 الساعة الحادية عشرة ظهرا
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟