ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 04:57
المحور:
الادب والفن
هل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
ما زالت لوحة "العشاء الأخير" لليوناردو دا فينشي، بعد أكثر من خمسة قرون، تنبض بالحياة كما لو أن الزمن قد توقّف داخلها. ليست مجرد صورة دينية، ولا مشهداً طقسياً مقدساً، بل دراما نفسية متوترة ومكثفة، تختزن سرداً بصرياً مكتنزاً في لحظة واحدة، هي لحظة إعلان المسيح أن أحد تلاميذه سيخونه. لوحة العشاء الأخير تُجسّد لحظة واحدة، لكنها تحمل سرداً بصرياً متعدّد الطبقات، غنياً بالاحتمالات، ومفتوحاً على التأويل. ومن خلال توظيف دا فينشي لعناصر مثل التمثيل التعبيري، التكوين المكاني، وتفاعل المتلقي، يتحقّق أمامنا ما يمكن وصفه بدقة بـالسرد البصري المكتنز " وهذه مفردة سمعتها في ندوة أدبية في مختبر السرديات من دكتور أيمن بكر عن السرد المكتنز في الأدب. لكنها جذبتني بصرياً نحو الفنون التشكيلية بقوة "السرد البصري المكتنز" هو أحد أكثر المفاهيم إشكالية عند الحديث عن الفن البصري الثابت، لأنه يتحدّى الزمن ويختصره في لحظة. في لوحة العشاء الأخير، لا نجد تسلسلًا للأحداث، بل تجميعاً سردياً بصرياً مشحوناً داخل لحظة واحدة، تمثل نقطة انفجار درامي داخلي. هذا السرد المكتنز الذي جعلني أرى هذه اللوحة بمنظار بمختلف بعد ندوة دكتور أيمن بكر عن السرد المكتنز في في الأدب مفردة أدهشتني حقيقة وجعلتني أرى العديد من اللوحات برؤية مكتنزة منها للفنان جميل ملاعب وللفنان علي آل تاجروغيرهم وهذه اللوحة التي عدت لأكتب عنها تحت عنوان . هل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
إنها ليست لوحة تُحكى، بل لوحة تُقرأ ، ولا تُقرأ قراءة واحدة، بل متعددة، لأن الاكتناز لا يفرّط في دلالة، بل يُراكمها، منتظراً من المتلقي أن يُحرّرها. فمن منظور السرد المكتنز، لا يمثل المسيح هنا راوياً، بل "مركزاً دلالياً تُبنى حوله شبكة من التعبيرات السردية البصرية عبر وجوه التلاميذ وأجسادهم وإيماءاتهم. كل عنصر بصري هنا يؤدي وظيفة سردية دون أن ينطق بكلمة واحدة. فهل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
استوعب ليوناردو مفهوماً بالغ الحدّة لما أسماه لاحقاً غوتهولد إفرايم لسّينغ بـ"اللحظة الخصبة"، أي تلك النقطة الزمنية التي تحمل في طياتها ماضياً يُلمح إليه ومستقبلًا يُنتظر، دون أن تُفرّط في شيء من التوتر الدرامي. هنا، لا نجد تسلسلاً للأحداث كما في الرواية أو الفيلم، بل تكثيفاً سردياً بصرياً داخل إطار واحد، يتطلب من المتلقي أن يقرأ بشكل بصري، يستنتج، ويتفاعل. فاللوحة تتمتع بـ سرد بصري مكتنز لأنها تنقل قصة معقدة ومشحونة بالعواطف والرموز بتركيز شديد ووضوح من دون تشتيت، حيث كل عنصر فيها يخدم السرد العام.
المسيح في مركز اللوحة، بهدوئه السماوي وجسده الثابت كعمود النور، يُلقي جملته المزلزلة: "إن أحدكم سيسلّمني." من هنا تبدأ العاصفة، لا في صورة حركة جسدية فحسب، بل في تفاعلات نفسية متفجرة تُترجمها تعبيرات الوجوه، الإيماءات، وتوزيع الأجساد على الطاولة. رغم ثبات التكوين العام للوحة، فإن داخلها صراعٌ نفسي وجماعي. دا فينشي لا يحرّك الشخصيات، بل يُحرّك القلق داخلها.هذا هو السرد المكتنزهو توتر مشحون داخل الهدوء.
هذا الإعلان ليس مجرد "حدث"، بل هو نقطة انعطاف سردي، تنتقل باللوحة من مشهد ساكن إلى مسرح داخلي للصراع والشك والدهشة. ولئن كان الفن الثابت عاجزًا – كما يرى بعض المنظرين – عن تمثيل الزمن، فإن دا فينشي يُثبت العكس تماماً أن الزمن هنا حاضر، لا كتعاقب لحظات، بل كـ كثافة شعورية متراكمة في لحظة واحدة. كل وجه من وجوه التلاميذ يحكي قصة. لا توجد كلمات، لكن هناك سرد صامت ينبعث من العيون والشفاه الملتوية، من الأيادي المرفوعة، من الانحناءات المرتبكة. فيليبوس يرفع ذراعيه بدهشة، توما يشير بإصبع الاتهام، أندراوس يتراجع،بطرس يهمس ليوحنا، ويهوذا، الغامض المظلل، يخبئ كيس المال، وقد جرّ كرسيه إلى الوراء، كمن يريد الهرب من لحظة لا خلاص منها. هنا لا نحتاج إلى راوي، فكل شخصية تحمل صوتها السردي الخاص، دون أن تنطق. لقد استبدل دا فينشي الحبكة بالحركة، والحوار بالملامح، فجاءت النتيجة سرداً مكتنزاً مرئيًا ينفتح على قراءات لا تنتهي. فهل التكوين الهندسي في هذه اللوحة المكتنزة بصرياً تفتح المسرح البصري للسر في الفن على مداه؟
لم تكن عبقرية ليوناردو مقتصرة على رسم الوجوه، بل شملت كذلك تنظيم الفضاء فالمنظور المركزي ينتهي عند رأس المسيح، النوافذ الثلاث تشكل رمزاً للتثليث المقدس، والطاولة تمتد أمامنا كخشبة مسرح.هذا البناء الهندسي ليس زينة، بل جزء من السرد فالخطوط تقود العين نحو البطل الصامت، وتمنح لحظة الإعلان ثقلًا درامياً مذهلًا. أما الفضاء وراء الشخصيات، فخاوٍ تماماً، كأنه يُسقط الحدث داخل عزلة مصيرية لا يمكن الفرار منها. فهل السرد المكتنز هو لغة الصورة بدل الحكاية؟
ما يميز "العشاء الأخير" عن معظم الأعمال الفنية التي تناولت المشهد نفسه، هو أن ليوناردو لم يرسم ما حدث، بل رسم ما يحدث في أعماق الشخصيات. هذا هو جوهر السرد البصري المكتنز، لا تسلسل، لا بداية ولا نهاية، بل لحظة مشحونة تُختزن فيها كل الانفعالات والتحولات.الصورة لا تُخبرك بالقصة، بل تدفعك لتكتشفها، لتُكملها في ذهنك. إن وظيفة المشاهد هنا ليست التأمل السلبي، بل التفاعل النشط، عبر تفكيك الإيماءات، قراءة التوزيع، وربط الرموز. فهل حين يتفوّق الفن على الزمن نصاب بدهشة السرد البصري ؟
"العشاء الأخير" ليس فقط مشهداً دينياً، بل درسٌ في السرد البصري، حيث تتحول الصورة إلى حكاية، والسكينة إلى صراع. لقد منح دا فينشي للصورة الثابتة القدرة على قول ما لا تقوله الكلمات، واختزل الزمن كله في لحظة واحدة نابضة. في هذا العمل، يصل الفن إلى ذروة قدرته على التكثيف السردي، ويُثبت أن اللوحة، متى امتلكت الحس الدرامي، يمكن أن تُنافس الرواية والمسرح والسينما، بل وتتفوق عليها، لأن لحظة واحدة، عندما تُرسم بصدق، تكفي لتحمل وزن العالم.
فهل غياب السرد اللفظي وحضور "التلميح" في لوحة ليوناردو التي لم يستخدم فيها نصاً، ولا رموزاً دينية مباشرة (كالهلّة، أو الملائكة). بدلًا من ذلك، اعتمد على:الإيماءة اليدوية (مثلاً: يد المسيح الممدودة، يد يهوذا المتجهة نحو طبق واحد)ونظرات الأعين المتقاطعة وحركة الأجساد داخل مساحة ضيقة تُلمّح إلى الحبكة – لكنها لا تقولها صراحةً.؟ وهل المُتلقي كمُكمل للسرد المكتنز بصريا؟
بما أن اللوحة لا تروي قصة كاملة، فإن المُشاهد هو من يملأ الفراغات. لا يقدّم دا فينشي تفسيراً أو مفتاحاً جاهزاً، بل يدفعنا نحوالتأويل الفردي ربط الرموز بالسياق الديني إسقاط الخبرة الذاتية على تعبيرات الوجوه وهكذا يتحول المتلقي من مشاهد إلى مشارك في بناء السرد البصري. فهل الدراما الداخلية مقابل السكون الخارجي في لوحة ليوناردو ؟
رغم ثبات التكوين العام للوحة، فإن داخلها صراعٌ نفسي وجماعي. دا فينشي لا يحرّك الشخصيات، بل يُحرّك القلق داخلها.هذا هو السرد المكتنز توتر مشحون داخل الهدوء. في العشاء الأخير، لا نرى القصة، بل نراها مضغوطة، مختزلة، مخبأة داخل الجسد والإيماءة. إنها لوحة لا تُشاهد، بل تُقرأ... لا تُشرح، بل تُستكمل ذهنياً وكلما أمعنت النظر فيها، كلما ظهرت طبقات سردية جديدة ! لا لأن هناك معلومات جديدة، بل لأنك أنت كمشاهد تنضج سردياً في كل قراءة بصرية مكتنزة وخصبة . فما العلاقة بين الاكتناز البصري والبلاغة الفنية ؟وهل يمكن النظر إلى السرد البصري المكتنز كبنية بلاغية تُقابل "الإيجاز" في اللغة؟
لا تصور لوحة العشاء الأخير أحداثاً متعددة أو متعاقبة، بل تختزل الزمن في لحظة واحدة وهي إعلان المسيح أن أحد تلاميذه سيخونه. هذه اللحظة ليست محض تمثيل ديني، بل هي لحظة درامية محمّلة بصراع نفسي وجماعي، تحوّلت إلى صورة ثابتة تختزن داخلها سلسلة من ردود الفعل والانفعالات. فما هي حدود السرد البصري المكتنز؟وهل يظل مفهوماً فاعلًا فقط في الفنون التشكيلية الكلاسيكية، أم يمكن توسيعه ليشمل التصوير الفوتوغرافي، أو حتى التصاميم الرقمية الحديثة؟
بيروت - لبنان -الأربعاء 3 أيلول الساعة الواحدة صباحاً قبل الفجر
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟