ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8482 - 2025 / 10 / 1 - 13:31
المحور:
الادب والفن
ضحى عبدالرؤوف المل
يستند السرد في رواية "كريستال أفريقي" للروائي "هيثم حسين " إلى خيط ناظم عميق يتمثل في الهوية الكردية، التي تتحول من مجرد انتماء عرقي أو سياسي إلى مرآة فلسفية تعكس توتر الذات أمام الآخر، وتكشف عن هشاشة التصورات المسبقة حين تنهار أمام التجربة الحية. الرواية تطرح سؤالًا جوهرياً عن معنى الانتماء في عالم مهدد بالمنفى والتشظي، وعن إمكانية أن تتحول الهوية من عبء قومي إلى بوصلة أخلاقية. فالراوي، رغم حصوله على الجنسية البريطانية واندماجه في فضاء غربي، يبدو مشدوداً على الدوام إلى جذوره الكردية، يعود إليها كلما أحاطه الضياع أو التناقض. إنها ليست مجرد علامة دم أو سلالة، بل "منظور أخلاقي ورمزي" يعيد ترتيب علاقته بالعالم. ومع ذلك، يتورط في لحظة صادمة مع موظف المطار المدغشقري حين يكتشف أن صورته عن ذاته تحمل استعلاءً لا واعياً، فيسائل نفسه بمرارة: "هل كنت أتقمص شخصية الأوروبي المستعمر؟" هذه العبارة لا تمثل مجرد استفهام عابر، بل هي انكشاف داخلي يقلب الموازين، إذ يواجه الراوي إمكانية تحوله إلى "مستعمِر رمزي"، رغم كونه مهاجراً منفياً في الأصل. هنا تتجلى المفارقة الكبرى، المنفي قد يتماهى مع المستعمِر، والمقهور قد يعيد إنتاج أدوات القهر حين يتعامل مع الآخر المختلف عنه.
تبدو الرواية وكأنها تجربة وجودية تتأمل صراع الهويات في قلب الفرد نفسه ، الكردي، البريطاني، اللاجئ، المثقف، الحبيب المفجوع. كلها وجوه لشخصية تبحث عن توازن بين الانتماء والتشظي. الاستدعاءات الكثيرة للطفولة، العادات السرية، العلاقة مع الجسد، مع الماء، مع البول، مع الرعشة، ليست مجرد مشاهد واقعية بل هي مسالك إلى "الحقيقة الداخلية" التي يفضحها السرد بلا مواربة. الجسد هنا ليس عضواً بيولوجياً بل أرشيف ذاكرة، ومسرح اعترافات، وواجهة مقاومة أمام محاولات الإنكار أو الطهرانية الاجتماعية. فالعادة السرية، والتبول في السروال، والرعشة الجسدية تتحول إلى لحظات مواجهة مع الذات، تماماً، كما تتحول الهوية الكردية إلى مواجهة مع تاريخ مهمّش ومنفى طويل.
السرد "عند هيثم حسين " ليس مجرد مغامرة في مدغشقر، بل بحث عن أثر. هو بحث عن خيط يعيد للراوي إحساساً بالانتماء، لكنه في الآن ذاته تفكيك لوهم التفوق الثقافي. فمن خلال مشهد المطار تتجلى جدلية السلطة والمعرفة كما تحدث عنها فوكو: حين يظن الراوي أن امتلاكه الإنجليزية يمنحه سلطة رمزية، تنهار هذه السلطة أمام إتقان الموظف لها، فيكتشف هشاشة "تفوقه". اللحظة تتقاطع مع ما صاغه إدوارد سعيد عن تفكك "المركزية الأوروبية"، إذ يتبدد الوهم الاستشراقي بمجرد أن يفرض الآخر حضوره كلغة وكسلطة بديلة.
لكن الهوية الكردية لا تظهر كموضوع مباشر بقدر ما تنبعث كظل مرافق للسرد، كعلامة على جرح لم يندمل. ففي قلب مدغشقر يكتشف الراوي وجود شخصية كردية منفية، "أوصمان صبري"، الذي تحوّل حضوره في ذاكرة العجوز إلى شهادة مضادة للنسيان. وهنا تتحقق المفارقة، لم يكن الراوي "الكردي الأول" في هذا المكان الغريب، بل تابعاً لخطى آخرين سبقوه. قوله: "ظننت أنني الكردي الأول الذي يزور مدغشقر" ليس مجرد وهم فردي، بل هو تكثيف لفكرة البطولة الزائفة التي تتهاوى أمام الذاكرة الجمعية. وهنا يولد ما يمكن أن نسميه "الدهشة العكسية" الانتقال من وهم التفرد إلى إدراك الامتداد التاريخي، ومن فردية البطولة إلى جماعية المعاناة.
استدعاء شخصية أوصمان صبري لا يعمل فقط كعودة رمزية إلى الأصل، بل كحفر في الذاكرة المنفية للكرد، التي لا تحفظها كتب التاريخ الرسمي، بل تظل محمولة على ألسنة نساء عجائز أو محفوظة في حكايات شفاهية. في حوار الراوي مع المرأة العجوز، تتجلى هذه الذاكرة كجزء من الحكمة الشعبية، وكأنها تحرس المعنى ضد النسيان. العجوز هنا تمثل حضوراً أسطورياً، فهي ليست مجرد شاهدة، بل "حارسة المكان"، كأنها حارسة للهوية الكردية المنفية، أو لجزء من تاريخ الإنسانية المنسي.
ولعل لحظة السؤال "هل أحببته؟" الموجهة من الراوي للعجوز، تكشف عن رغبة دفينة في ربط الهوية بالتجربة الإنسانية الشاملة، لا بالسياسة وحدها. في هذا المزج بين الحميمي والوطني، بين العاطفي والتاريخي، تتحقق الرواية كفضاء فلسفي يفكك الحدود بين الخاص والعام.
إن التحولات الجسدية والنفسية في النص ليست مجرد سرديات طفولة، بل هي استعارات لهشاشة الهوية في مواجهة قسوة العالم. ذكر الاستحمام، التبول، العادة السرية، كلها لا تعمل كتفاصيل مثيرة بل كعلامات على "تجريد الذات" ومساءلتها في أعمق طبقاتها. وكما الهوية الكردية مهمشة ومنفية، فإن هذه التفاصيل الحسية تمثل ما يُهمش في الجسد الاجتماعي. اعتراف الراوي بها يكشف عن جرأة أدبية نادرة، لكنه أيضًا يعكس مشروع الرواية في مواجهة الرقابة الأخلاقية والاجتماعية.
المكان في النص (إفريقيا، مدغشقر، مالي) ليس فضاءً استشراقياً، بل يتحول إلى مسرح لتفكيك الأوهام. فإفريقيا هنا ليست غرائبية، بل مرآة تعكس هشاشة الذات أمام الآخر، وتعيد صياغة العلاقة بين الشرق والغرب. مشهد المطار، مشهد السيارة "بيجو 504"، مشهد الكاميرا، كلها تكشف عن صدمات متتالية تزعزع الأنا. فحين يرى الراوي السيارة لا يراها كوسيلة نقل، بل كذاكرة لأجهزة المخابرات، أي كأرشيف قمعي يطارده. هنا تبرز قوة "التداعي الحر" الذي يجعل من كل صورة بوابة إلى جرح داخلي.
أما الكاميرا فتتحول إلى أداة فلسفية: هي ليست مجرد آلة تسجيل، بل كيان يتماهى مع الجسد إلى حد الذوبان."والكاميرا تدور بي وكأنني مختصر بعدستها أو مندمج معها وفاقد لأيّ وجود أو تجسيد واقعي". إنها لحظة انمحاء الحدود بين الإنسان والآلة، بين الذات والموضوع. الكاميرا تعكس إشكالية أخلاقية. فهل الصحافة توثيق أم استغلال؟ هل من الأخلاقي أن نوثق المعاناة بينما لا نستطيع التخفيف منها؟ وما الذي يعنيه أن تكون شاهداً على مأساة دون أن تغيّر مسارها؟ هذه الأسئلة ليست مهنية فحسب، بل أنطولوجية، إذ تمس جوهر الوجود الإنساني أمام المأساة.
في شخصية "ميديت"، يتجسد الضمير الإنساني النقي، الذي لا يحتمل مواجهة المجازر في رواندا. انهيارها النفسي ليس ضعفاً، بل قوة إنسانية تتحدى برودة العالم. هي تمثل المرآة العاطفية التي تنكسر أمام الحقيقة، على عكس الآخرين الذين يختبئون خلف الحياد أو التبرير. موتها ليس حدثاً عرضياً بل علامة على اغتيال الضمير نفسه، على أن العالم الحديث قد يقتل الرسالة قبل أن تصل.
الفصل المتعلق بتهريب الأموال ("أموال صدام في باماكو") يمثل بدوره بعداً فلسفياً عن هشاشة الإنسان أمام المال والسلطة. اختيار مالي، الدولة الفقيرة، كمسرح للعملية ليس اعتباطياً. الفساد هناك يتيح تمرير الأموال بسهولة، لكنه في الوقت نفسه يكشف أن المال في فضاء هش يتحول إلى عبء وخطر لا إلى حماية. الأوراق المزورة التي تصف الأموال على أنها "كريستال" ليست مجرد حيلة تقنية، بل استعارة عن الوهم الاقتصادي والسياسي الذي يخدع الذات والآخر.
المال هنا يصبح "شيفرة تاريخية مقدسة" و"الكلمة السحرية"، لكنه في الآن ذاته فخ يجر الشخصيات إلى الخضوع والقلق. فحامل الأموال لا يملك حرية الاختيار، بل يتحول إلى رهينة، كما يتحول المنفي إلى أسير هوية لا يستطيع التملص منها. العلاقة بين الفساد السياسي والتهريب تفضح هشاشة الدولة، لكنها في العمق تطرح سؤالًا فلسفياً عن قيمة المال أمام هشاشة الإنسان.
كل هذه العناصر تجعل الرواية نصاً متشعباً، يمكن مقاربته بعدة مستويات. نقد ما بعد الكولونيالية (تفكيك المركزية الأوروبية)، التحليل النفسي (استدعاء الطفولة والجسد)، النقد الثقافي (الهوية والتاريخ)، الدراسات النسوية (دور المرأة كحافظة للذاكرة). الرواية تكتب من الهامش، عن الهامش، لكنها في الوقت ذاته تجعل الهامش مركزاً جديداً للفكر والذاكرة.
الهوية الكردية إذن تتحول من مجرد انتماء إثني إلى "بوصلة وجودية" ترشد السارد في مواجهة ضياع العالم. الرحلة إلى مدغشقر ليست مغامرة سياحية بل عودة إلى الذات، إلى التاريخ، إلى المنفى. ومن خلال هذا الحفر المتواصل في الذاكرة والجسد والمكان، تخلق كريستال أفريقي سردية مقاومة للنسيان، ومواجهة للاستعلاء، وتجسيداً لفلسفة أدبية ترى في الاعتراف والانكشاف الطريق الوحيد لفهم الذات والآخر.
إن كريستال أفريقي لا تستقر على نوع سردي واحد، بل تتموضع في منطقة التداخل بين الأجناس؛ فهي من جهة رواية ما بعد كولونيالية تفكك صورة الاستعمار وتعيد مساءلة علاقة الشرق بالغرب، ومن جهة ثانية رواية منفى تبحث عن خيط الهوية الكردية في فضاءات الشتات. لكنها أيضاً رواية نفسية–وجودية تكشف هشاشة الذات عبر اعترافات الجسد والذاكرة، ورواية رحلة لا تنحصر في الجغرافيا بل تمتد إلى أعماق الذات والتاريخ. وفي الوقت ذاته لا تنفصل عن بعدها السياسي–التوثيقي حين تفتح ملفات المنفى، المال، والمجازر. بهذا المعنى يمكن اعتبارها رواية تجريبية فلسفية–أنثروبولوجية، تنسج من تداخل الأنواع قوة تعبيرية خاصة، تجعلها نصاً مفتوحاً على مستويات القراءة المختلفة.
ترددت كثيرة في الكتابة عنها لأنها متشعبة ويشعر القارىء أنها سلسلة من روايات ثلاثة، ولأنها عمل سردي يصعب إخضاعه للتصنيف التقليدي، فهي ليست رواية واقعية صرفة ولا سيرة ذاتية محضة، وليست توثيقاً تاريخياً بقدر ما هي حفر في الذاكرة والهوية عبر مسالك متشابكة. يمكن القول إنها تنتمي إلى الرواية الهجينة، حيث يذوب الحدّ بين الأجناس الأدبية ويتولد نصّ مفتوح يتيح مستويات متعددة للقراءة.
من جهة أولى، نجدها رواية ما بعد كولونيالية، لأن بنيتها تقوم على مساءلة علاقة الذات بالآخر، ومراجعة الخطاب الاستعلائي الذي مارسه الغرب على الشرق وأفريقيا، بل وعلى المهاجرين واللاجئين. غير أن النص يذهب أبعد من ذلك، إذ يقلب الموازين ويكشف أن المنفي ذاته قد يتورط أحياناً في تبني خطاب المستعمِر، كما في سؤال الراوي: "هل كنت أتقمص شخصية الأوروبي المستعمر؟"، وهو سؤال جوهري يجعل الرواية جزءاً من النقاش الفكري حول الاستشراق وتمثيلات الهوية.
ومن جهة ثانية، هي رواية منفى وهوية، حيث تنبض الصفحات بحنين دائم إلى الجذور الكردية، وببحث لا يهدأ عن معنى الانتماء في فضاء الشتات. هنا تتقاطع مع تقاليد "رواية الشتات" التي عرفها الأدب العالمي، لكنها تنفرد بخصوصية كردية تجعلها نصاً عن أمة بلا دولة، عن ذاكرة جماعية منفية تبحث عن مكان لتثبت حضورها.
كما يمكن قراءتها بوصفها رواية نفسية–وجودية، فالسرد يغوص في اعترافات الجسد وطفولة الراوي، ويكشف أدقّ لحظات الضعف والارتباك واللذة، ليحوّلها إلى استعارات عن هشاشة الذات الإنسانية في مواجهة الزمن والاغتراب. هنا يقترب النص من الأدب الاعترافي الذي يجعل من الكتابة أداة لمواجهة الذات وتعريتها.
وإذا تأملنا بناءها، فإنها تتخذ شكل رواية رحلة، فالانتقال إلى مدغشقر أو مالي ليس مجرد انتقال جغرافي بل رحلة داخلية تعيد ترتيب علاقة الإنسان بذاته وبالعالم. هذه الرحلة تذكّر بتقليد أدب الرحلات، لكن الرواية تنقله من مستوى الوصف الخارجي إلى مستوى الغوص في الذاكرة والمنفى. ولا يغيب عنها البعد السياسي–التوثيقي، إذ تتضمن إشارات إلى شخصيات كردية تاريخية مثل أوصمان صبري، وإلى ملفات معاصرة مثل تهريب أموال الأنظمة أو المجازر في رواندا. هذا الجانب يمنحها صفة "الرواية الوثائقية"، لكنه لا يطغى على بعدها الفلسفي، بل يتكامل معه ليجعل النص شهادة مضادة للنسيان.
إذن، كريستال أفريقي ليست نصاً متجانساً في النوع، بل نص تجريبي يتعمد تكسير الحدود بين الرواية والسيرة والرحلة واليوميات والفلسفة. وهذا التداخل لا يعدّ ضعفاً بل هو سرّ قوتها، إذ يتيح للكاتب أن يعبّر عن التمزق الداخلي للهوية بطريقة شكلية أيضاً، فكما تتشظى الذات بين انتماءات عدة، كذلك يتشظى النص بين أنماط متعددة. ومن هنا يمكن اعتبارها رواية فلسفية–أنثروبولوجية، تدرس الإنسان من خلال الجسد والمكان والذاكرة، وتطرح سؤالاً وجودياً عن المعنى في عالم تمزقه المنفى والهيمنة.
بيروت -لبنان في 1 تشرين الأول 2025 العاشرة والنصف صباحاً
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟