ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 14:04
المحور:
الادب والفن
منذ أن وُجد الإنسان، لم يتوقف عن رواية الأساطير. لم تكن تلك الروايات مجرد حكايات خرافية، بل كانت ولا تزال أدوات لفهم الكون، الإنسان، والسلطة. فالأسطورة ليست نصا ًساذجاً ، بل بنية رمزية مُركّبة تُحمّل الوجود بمعنى، وتعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والعالم، بين الجسد والروح، بين الذكر والأنثى، وبين السلطة والتحرر. وفي الكتاب الميثولوجي "الأسطورة والمعنى " لفراس السواح نجد أنفسنا أمام سلسلة من الأساطير المتنوعة (البابلية، السومرية، الإغريقية، وغيرها) تتقاطع جميعها في نقطة مركزية وهي محاولة تنظيم الكون عبر رمز الأسطورة، حيث يُعاد خلق الحياة، وتُخاض الصراعات، وتُولد المعاني من الألم والمرض، كما تُعاد كتابتها عبر الولادة الجديدة، سواء بيولوجياً أو فكرياً. فكيف تنتج الأسطورة معناها الرمزي، وكيف تتجلى المرأة والرجل كقوتين متضادتين، وكمصدرين متكاملين للخلق والمعرفة والسلطة في هذا الكتاب؟
الخلق في الميثولوجيا لا يعني فقط ولادة الكون، بل تأسيس النظام الرمزي للعالم. فالأسطورة تبدأ دائماً من "العماء" أو "الفوضى" ثم تشرع في تنظيم الوجود"بعد أن خلق أنو السماء، وبعد أن خلقت السماء الأرض، والأنهار، والمستنقعات... ظهرت دودة السوس، ومضت إلى الإله شمش تشكو جوعها"هنا يبدأ الكون من التدرج، من السماء إلى الماء، ومن الماء إلى الكائن الطفيلي (السوس) الذي ينقلنا مباشرة إلى ثنائية الخلق والفساد، ما يجعل الأسطورة تصور الكون لا كولادة طاهرة فقط، بل كمسرح للصراع، والفساد، والمرض أيضاً . فهل المرأة في هذا الكتاب تحضر بعمق رمزي مركّب؟ وهل تُمثّل الأم الحامية، والرحم الكوني، والآلهة الشافية في آن؟ وهل المرأة أصل الخلق؟
في النموذج السومري، تبدأ الحياة من علاقة جسدية "زوجته فحملت منه وبعد تسعة أيام يعادل كل منها شهراً كاملاً، أنجبت الفتاة ننمو..." هذا التوالد الطبيعي يرمز إلى اتصال المرأة بالأرض، بالزمن الدوري، وبالخصوبة. ليست المرأة هنا وسيطاً، بل فاعلًا أول في عملية الخلق، قبل أن يُقصيها النظام الأبوي لاحقاً. فهل المرأة حامية من السلطة الذكورية في الأسطورة الإغريقية؟ وهل "عندما ولدت رحيا آخر أبنائها زيوس، كانت عازمة على الاحتفاظ به، فدافعت إلى كرونوس حجراً ملفوفاً فابتلعه..."؟
ريّا تُمارس الخديعة لحماية ولدها من الذكر المتسلّط (كرونوس)، وهي بذلك تعيد صياغة الأم كـ"مقاومة" ضد الاستبداد الأبوي. إنها الممثلة للرحمة والذكاء، في مقابل التهديد الذكوري المجنون بالحفاظ على السلطة. فالمرأة هي رمز للشفاء فعندما يظهر المرض في النص السومري، تأتي الأنثى مجددًا كمنقذة "تحولت إلى إلهة شافية، وُلدت من أعماق الماء ومن رحم الأرض بعد عملية معقدة" إذ تُمثّل المرأة الأرضية والعنصر المائي (العاطفي، العميق، اللاواعي) الذي يعيد النظام للعالم المختلّ. الشفاء لا يأتي من الأب، بل من الأم، من الحضور الأنثوي المرتبط بالحكمة الداخلية. وإذا كانت المرأة في الأسطورة تحضر كأصل بيولوجي ورمزي، فإن الذكر يظهر كقوة متسلطة، لكنها أيضاً تنقلب على نفسها. فهل الذكر مُبتلع للحياة في الأسطورة؟
كرونوس، المثال الأبوي الأبرز، يُجسّد هذا الدور" كان يبتلع أبناءه واحدًا تلو الآخر ليمنعهم من أخذ سلطته"إنه رمز السلطة التي تخشى الامتداد، المستقبل، والآخر. فالأب هنا لا يمنح الحياة، بل يسلبها، في دلالة واضحة على أن البنية البطريركية تحمل بداخلها خوفاً بنيوياً من التحول. فهل الذكر منظّم رمزي للكون في الأسطورة ومعناها ؟
لكن الأب يتحول لاحقاً إلى منجِب رمزي، كما في ولادة أثينا من رأس زيوس " الرجل يحمل ويلد أيضاً كما المرأة، ولكنه يلد الأفكار من رأسه كما صدرت أثينا..."هذه الولادة اللاجسدية تُقصي المرأة من مشهد الخلق. إنها أسطورة استعمار الذكر للخصوبة الأنثوية وتحويلها إلى رمز فكري، وهي أساس النظام الأبوي الثقافي. كما يُظهر كتاب السواح طقوساً انتقالية واضحة، خاصة في مراحل البلوغ "ينتزعون الفتى من بيت أمه، ويعزلونه في كوخ حيث يخضع لطقوس تطهير من آثار النساء..."المرأة تُقدَّم هنا كبيئة يجب تطهير الذكر منها، في إشارة إلى أن الذكورة لا تكتمل إلا بنبذ الأمومة والأنوثة، والانتقال إلى نظام ذكوري خالص.هذه الطقوس تؤسس الأسطورة كأداة اجتماعية لتثبيت الهُوية، لكنها تُظهر أن الذكورة لا تُبنى تلقائياً، بل تُنتَزع عنوة من الحاضنة الأمومية. فهل الأسطورة كتحليل أخلاقي تظهر في مقطع كي الذي يضاجع ابنته ثم حفيدته "وماذا عن قيام كي بمضاجعة ابنته ثم حفيدته ثم ابنتها؟" يُحمّل الكتاب هذا الفعل عواقب أخلاقية وجسدية. إذ يعقبه المرض، والفساد، والعقم الرمزي "لقد استولدت لك الآلهة مرضاً في فمك، في جسدك، في عظامك..."إذ لا تُستخدم الأسطورة فقط لتفسير المرض، بل لتأطيره أخلاقياً الاختلال الأخلاقي يؤدي إلى اختلال كوني وجسدي. فالأسطورة تُنَصّب نفسها كقاضٍ، وتُعلِّم الإنسان عبر التحذير والترميز. فماذا عن صراع الأجيال و كيف يُخلع الآباء؟
في كل أسطورة، نجد نمطاً متكرراً مثل الأب يتسلّط ، والابن يثور، الأم تساعد ، النظام يتغير مثال ذلك " في كتاب السواح الآلهة الشابة من الجيل الثالث قد لجأت إلى مردوخ وأسلمته القيادة بعد أن تنصل منها أفراد الجيل الثاني" إنه انتقال رمزي للسلطة من الجيل العجوز (العاجز أو المستبد) إلى جيل جديد.هذا الانتقال لا يتم عبر السياسة، بل عبر الصراع الكوني. الأسطورة هنا تشتغل كـ"ذاكرة ثقافية" تنقل المجتمعات من بنية قديمة إلى بنية جديدة. فهل الأسطورة والمعنى تمثل بناء النظام الرمزي للعالم؟
بعد كل هذه الأمثلة، تتضح وظيفة الأسطورة، فهي ليست فقط تفسيراً للعالم، بل إنتاجٌ لمعنى الوجود ذاته.إذ تولّدالأسطورة نسقاً من القيم (من يُولّد؟ من يحق له الحكم؟ من يُقصى؟ من يُعاقب؟) كما تنقل الذاكرة الثقافية للجماعة وتُطبع الأدوار الجندرية، وتُظهر كيف أن الخلق ليس بريئاً، بل هو سياسي، ثقافي، وجنسي "الأسطورة لا تُسلّم نفسها لمستوى واحد من التفسير، بل تقوم في الأصل على عدة مستويات من الطرح الزمني"وهذا يؤكد أن كل أسطورة هي مساحة تفاوض رمزي بين القوى الأنثى/الذكر، الماضي/الحاضر، السلطة/الحرية، المرض/الشفاء. فهل قراءة النصوص الميثولوجية القديمة ليست استعادةً لحكايات مندثرة، بل كشفٌ للنواة الرمزية التي تقوم عليها حضاراتنا المعاصرة.؟ وهل في كل أسطورة خلق أو صراع، نجد تأملًا عميقًا في أسئلة الوجود والسلطة والهوية؟
دراسة مثل "الأسطورة والمعنى" وبكل ما فيها من غموض وثقل معرفي تضعنا أمام سؤال عميق وهو هل نحن مَن يصنع الأسطورة، أم أنها هي من تصنعنا؟ وربما لا نجد إجابةً حاسمة، لكن يكفينا أن نُدرك أن خلف كل سرد ميثولوجي، هناك صراع حقيقي على المعنى، على من يُنجب، ومن يُحكم، ومن يُنقذ هذا العالم من الفوضى التي بدأ منها. فهل دراسة الأساطير تشكك في الإيمان بالله؟
الميثولوجيا لا تُقدَّم بوصفها حقائق إيمانية، بل بوصفها نصوصاً ثقافية أنتجتها المجتمعات القديمة قبل ظهور الأديان التوحيدية، مثل الإسلام والمسيحية واليهودية.هي مجرد محاولات بشرية قديمة لفهم كيف نشأ الكون؟من أين جاء الإنسان؟ما معنى المرض والموت؟ لماذا هناك خير وشر؟ فهل سؤال الإنسان القديم عن معنى وجوده يُعد كفراً ؟
سأسمح لنفسي هنا الجواب وهو بالطبع لا...بل إن هذه المحاولات الفطرية لفهم الحياة تدل على حاجة الإنسان إلى التفسير والمعنى، وهي ما مهّد الطريق لاحقًا للنبوات والرسالات. فالقرآن نفسه فرّق بين "الأسطورة" كفكر بشري و"الوحي" كفكر رباني ففي القرآن نجد ذكر "الأساطير"، لكن كيف جاءت؟
"وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" (الفرقان: 5) المشركون هم من اتهموا النبي ﷺ بأن ما يقوله "أساطير الأولين"، أي حكايات بشرية قديمة. لكن الله فرّق بين الأساطير كحكايات موروثة غير موثوقة والوحي كحق مطلق من عند الله إذًا، الأسطورة موجودة كموروث إنساني، والقرآن لم ينكر وجودها، بل رفض أن يُساوى الوحي بها. ونحن لا ندرس الميثولوجيا بوصفها وحياً، بل بوصفها تاريخاً إنسانياً مليئًاً بالرموز والدلالات. فهل دراسة الميثولوجيا هي فهم لثقافات ما قبل الأديان؟ ولماذا الميثولوجيا وُجدت في الحضارة السومرية والحضارة البابلية والحضارة الفرعونية واليونان والرومان والشعوب الحورية والكنعانية...وكل هذه الحضارات سبقت الأديان الإبراهيمية، وكانت تبحث بطريقتها البدائية عن الإله، أو تفسّر ظواهر الطبيعة من خلال القوى الغيبية.
فدراسة هذه الأساطير لا تعني أننا نُؤمن بها، بل تعني أننا ندرس كيف تطوّر عقل الإنسان في فهمه للوجود.كما أن دارس الميثولوجيا لا يعبد مردوخ أو إنكي أو زيوس، تماماً كما أن دارس الفلسفة لا يعبد أرسطو أو أفلاطون. فالأسطورة أداة تحليل ثقافي، وليست معتقداً دينياً ففي العلوم الإنسانية، "الأسطورة" هي"نص رمزي يعبّر عن رؤية شعب ما للعالم والكون والحياة، ويستخدم الرموز والشخصيات لتفسير الظواهر."أي أن مردوخ في الأسطورة البابلية لا يساوي إله حقيقي وأثينا في الميثولوجيا اليونانية ليست إلهة تُعبد الآن كي وننمو في الأسطورة السومرية ليسوا حقائق مطلقة بل هم رموز لــ الخلق ، التنظيم، الصراع، الولادة، التحول، الشفاء فهل يجوز أن نمنع فهم هذه الرموز بدعوى أنها "كفر"؟
هذا منع للعلم، وليس حماية للعقيدة. فالتفكير المتشدد يرى كل شيء خارج الدين تهديداً ، وهذا خطأ فالمتشدد غالباً لا يفرّق بين دراسة فكرة ما و فهمها ، فالإيمان بفكرة ما لا يعني اعتناقها وهذا من الأخطاء المنهجية.فمن يدرس الأساطير ليس مشركاً، بل إنسان يحاول فهم جذور تفكير الإنسان القديم، كما أن من يدرس البوذية أو الزرادشتية لا يتحول تلقائياً إلى بوذي .وهذا يُشبه من يدرس الطب اليوناني أو الرياضيات الهندية ، فهل نقول إنه صار عبداً للآلهة الوثنية التي ابتكر أصحابها العلوم؟! فالميثولوجيا ليست كفراً، بل مادة إنسانية لفهم الوعي البشري القديم. والأسطورة ليست حقيقة دينية، بل بناء رمزي من رموز الشعوب. والإيمان لا يتناقض مع فهم ثقافات الآخرين. والنبي ﷺ نفسه استمع إلى شعراء الجاهلية ولم يمنع أحداً من دراسة ثقافته السابقة. والقرآن فرّق بوضوح بين الوحي والأسطورة، دون أن يُنكر وجود هذه الأخيرة. وفي القرآن الكريم، ورد ذكر "الأساطير" في سياقات توضح الفرق بين الوحي والحكايات القديمة، مثل قوله تعالى "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" (الفرقان: 5) الناس آنذاك اتهموا النبي ﷺ بأن ما ينزل عليه هو مجرد "أساطير" من القصص القديمة، غير صحيحة. والقرآن يُبيّن أن ذلك غير صحيح، لأن الوحي مختلف عن هذه الأساطير.وهذا دليل على أن القرآن نفسه يعترف بوجود هذه القصص والأساطير عند الناس، لكنه يرفض مساواتها بالحق الإلهي.
بيروت -لبنان- الإثنين 20 تشرين الأول الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟