أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - رواية النفق منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع الخارجية















المزيد.....

رواية النفق منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع الخارجية


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 22:35
المحور: الادب والفن
    


يتبدّى أن النفق أنه ليس ممرًّا هندسيًّا في رواية «من زاوية النفق» للكاتبة" نادين أيمن" ولا مكانًا مادياً، بل حالة وجودية يعيشها الإنسان حين يُسلب من قدرته على التواصل مع ذاته ومع الآخرين. إنه الفضاء الذي يتكثف فيه القمع والخوف والارتياب، حتى يصير المكوث فيه نوعاً من السجن الطوعي، كأن الشخصيات لم تُجبر على الدخول إليه بقدر ما انجذبت إليه بسلطة غامضة. هذه المفارقة هي ما يمنح النص عمقه: فالنفق ليس جدراناً خرسانية بل منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع الخارجي ، فهي تنتمي إلى ذلك النمط الأدبي الذي يلتقي عند تخوم الفلسفة والميتافيزيقا، حيث يتحول المكان إلى مرآة للوعي الإنساني، والظلام إلى حقل تأملي في معنى الوجود والعدم. ليست «في زواية النفق» مجرد عمل سردي عن عتمةٍ تحت الأرض، بل هي استعارة كبرى للعصر الحديث بكل انغلاقاته وخساراته، وبحث عن النور في زمنٍ يتكاثر فيه الضياع. نادين أيمن لا تقدم عالماً يمكن قراءته على نحوٍ مباشر، بل تزرع في نسيج السرد شبكة رموزٍ تتخللها طبقات من التأويل، تجعل من الرواية تجربة فكرية قبل أن تكون حكاية.

تتعامل الكاتبة مع المكان بوصفه الكائن المركزي في الرواية. كل ما عداه يدور في فلكه، من الشخصيات إلى الأحداث. الجدران في هذا العالم ليست ساكنة، بل تتنفس، تراقب، وتعيد صياغة وعي ساكنيها. الضوء الذي يتسلل عبر الشقوق النادرة لا يؤدي وظيفة بصرية بقدر ما يحمل دلالة فلسفية، إذ يشير إلى الأمل الهش الذي يصر على الوجود رغم الخنق المحيط به. في مقابل هذا النور، يتكاثر الظلام ككائنٍ حيٍّ يبتلع الأصوات والأنفاس، حتى تغدو اللغة نفسها عاجزة عن إيصال المعنى. من خلال هذا البناء المكاني الكابوسي، تطرح الرواية سؤالها الأساسي: ما الذي يبقى من الإنسان حين تُسلب حريته وتُفرغ ذاكرته من المعنى؟ فالنفق لا يعزل الجسد فقط، بل يعيد تشكيل الروح وفق منطق الخوف والانصياع. في هذا المعنى، يصبح العمل تأملاً عميقاً في طبيعة السلطة، ليس بمعناها السياسي الضيق، بل كقوة تتسلل إلى الوعي وتتحكم بطريقة التفكير والإحساس. الشخصيات التي تعيش داخل الأنفاق ،المفكرون، الفنانون، المهمشون ،ليست سوى تجليات مختلفة لهذه الهيمنة التي تلغي الفرد لصالح الجماعة الصمّاء.

تنحت نادين عالمها بلغةٍ متوترة، متشابكة الإيقاع، تتراوح بين الحلم والهلوسة، بين السرد الواقعي والفنتازي. هذا المزج ليس ترفاً أسلوبياً، بل هو الطريقة الوحيدة القادرة على التعبير عن واقعٍ يتجاوز التصنيف. فالنفق في جوهره تجربة «بين بين»؛ بين الموت والحياة، بين الحقيقة والوهم، بين الداخل والخارج. لذلك لا يمكن للرواية أن تُقرأ وفق منطق الأحداث، بل وفق منطق الرؤى: كل مشهد فيها يمثل طبقة جديدة من الوعي الجمعي الذي يعيش انحداره المستمر.

ما يميز الرواية أنها لا تكتفي بتقديم ديستوبيا مغلقة على نفسها، بل تحاول فتح ثغرات نحو الأمل. فوسط هذا الخراب المتكاثف، يظل البحث عن الحقيقة هو المحرك الأساسي للسرد. الحقيقة هنا ليست مطلقة، بل مجزأة، تتبدى عبر وجهين: الحقيقة ونصف الحقيقة. إنّ إدراك الروائية بأن العالم لا يُختزل في يقينٍ واحد يجعل الرواية تحتفي بالشكّ، وتحوّل الحيرة إلى قيمة معرفية. فالشخصيات لا تسعى إلى الخلاص بقدر ما تسعى إلى الفهم، إلى إعادة بناء معنى الوجود داخل فضاءٍ يهدد كل معنى. من الناحية البنيوية، يمكن القول إن «النفق» تستند إلى تعدد الأصوات السردية، حيث تتقاطع الحكايات وتتشابك في خيوطٍ متوازية تشبه المتاهة. هذا التعدد لا يُقصد به الإرباك، بل يُستخدم كاستراتيجية سردية تكشف كيف يفقد الخطاب الواحد قدرته على تمثيل الواقع. فكل شخصية تمتلك روايتها الخاصة للعالم، وكل سردية تُفنّد الأخرى، ما يجعل الرواية ذاتها انعكاساً لبنية النفق الذي لا نهاية له. وبهذا تبرهن الرواية على أن الحقيقة ليست في الوصول، بل في التيه نفسه.

أما من حيث التخييل الفلسفي، فإن العمل يطرح رؤية عن الإنسان الحديث بوصفه كائناً محاطاً بالخرسانة المادية والرمزية معاً. العالم الخارجي، كما تصوره الكاتبة، لم يعد أرحم من النفق؛ بل صار امتداداً له في صورة أكثر بريقاً. فالمدينة فوق الأرض تحاكي المدينة تحت الأرض في ما يخص الخضوع والاغتراب. بهذا المعنى، تصبح الرواية نقداً حضارياً يتجاوز السياق المحلي إلى قراءةٍ كونية لمصير الإنسان حين تُفرغ التكنولوجيا والسياسة والثقافة من بعدها الإنساني.

لغة الرواية تنحاز إلى البنية الشعرية أكثر منها إلى السرد الخالص. الجمل قصيرة متقطعة أحياناً، تتنفس ببطء، كأنها تبحث عن منفذ هواء في هذا المكان المغلق. الإيقاع اللغوي نفسه يعكس فكرة الاختناق: فالتكرار المقصود لبعض الصور — الجدران، العتمة، الصوت، الصدى — يعيد إنتاج الإحساس بالدوران داخل الدائرة نفسها. ومع ذلك، يظهر في بعض المقاطع وميض ساخر أو حلمي يذكّر القارئ بأن هذا العالم، رغم قسوته، لا يخلو من إمكانية التبدّل.
من منظورٍ نقدي، يمكن اعتبار «النفق» واحدة من الروايات التي تسهم في تطوير الشكل العربي للديستوبيا، إذ تنقل هذا الجنس الأدبي من فضاء السياسة المباشرة إلى فضاء الوجود الإنساني العميق. فبدلاً من تصوير مجتمع شمولي على النمط التقليدي، تسعى الكاتبة إلى كشف البنية الذهنية التي تجعل القهر ممكناً، والاغتراب طبيعياً. إنها رواية عن «المجتمع من الداخل» أكثر مما هي عن سلطة خارجية قاهرة، ولهذا تأتي قوتها من بعدها النفسي لا من خطاباتها الأيديولوجية. ومع أن الرواية تغوص في العتمة، إلا أنها لا تنتهي في اليأس. فالفكرة الخاتمة التي تهمس بها هي أن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من إعادة اكتشاف الذات وقدرتها على المقاومة الفكرية والجمالية. الضوء الذي يتسلل إلى النفق ليس وعداً بالنجاة، بل تذكيراً بأن الإنسان، مهما غرق في ظلام العالم، يظل قادراً على التطلع إلى الأعلى.

بهذا الوعي المزدوج ، وعي الخراب ووعي الاحتمال ، تنجح «في زاوية النفق» في أن تكون أكثر من رواية عن الظلام؛ إنها رواية عن الإصرار على الرؤية في قلب العتمة. وإذا كانت الديستوبيا عادةً تكتفي بتصوير النهاية، فإن هذه الرواية تكتب ما قبل النهاية بقليل: اللحظة التي يقف فيها الإنسان بين الفناء والاختيار، ويكتشف أن الطريق إلى الخارج يبدأ من داخل النفق نفسه. باختصار، فالنفق رواية عن العالم المعاصر حين يُسجن في ذاته، عن الإنسان الذي تحوّل خوفه إلى موطنه، لكنها أيضاً عن الحلم الصغير الذي يصرّ على أن يحيا. عملٌ يمزج بين الرمز والواقع، بين الفلسفة والفنتازيا، ليقدّم مرآةً لما صرنا عليه وما يمكن أن نكونه، إن امتلكنا الشجاعة للخروج من أنفاقنا الخاصة نحو ضوءٍ حقيقيٍّ ينتظر منذ زمنٍ بعيد. رواية تثير زوبعة من التساؤلات. فهل يمكن للنفق أن يكون مجرّد ممرّ، أم أنه قدرنا الوجودي الذي صنعناه بأنفسنا؟وهل الظلمة التي نحياها هي من صنع السلطة أم من اختيارنا نحن؟و هل النور في نهاية النفق حقيقة، أم وهمٌ نُبقيه حيّاً كي لا نفقد معنى الحياة؟وهل ما نسمّيه تقدّماً ليس سوى هندسة أكثر دقّة لدفننا تحت الأرض؟ وهل الإنسان في النهاية قادر على أن يخرج من أنفاقه الداخلية، أم أن خروجه نفسه سيكون شكلًا آخر من أشكال العمى؟ وهل هي عن زمن خانق لكنه شفاف؟
بيروت-لبنان- في 4 تشرين الثاني 2025الساعة السابعة والنصف مساء



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة إلى حفيدتي يارا…
- حين تتحوّل الحكاية إلى لوحة في قصة جدتي ل -بيار فاضل-
- معادلة الميتا-كود والديجا فو (Déjà Vu) والإنسان كمنتَج خوارز ...
- هل الأسطورة والمعنى تمثل بناء النظام الرمزي للعالم؟
- هل تساوي قيمة الكاتب مكانَ نشره؟
- هل يمكن للمانغا أن تولد من رحم اللغة العربية؟
- الخوف من الحياة في شعرية المقاومة لدى إدريس سالم
- الهوية الكردية كخيط ناظم في رواية كريستال أفريقي
- الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط
- هل ما بين الكراهية والإعتراف عقدة نقص ؟
- ميغيل ميهورا في مجموعة قصصية بعنوان رجل واحد
- فن الطبخ في مسلسل -هنيبعل-: الجمال الملوث بالدم
- فلسفة هنيبعل وتفسير النفس البشرية
- هل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
- جدلية الشفاء والعجز في لقاء نيتشه وبروير في فيلم حين بكى نيت ...
- سردية التيه والوعي في هامش العالم العربي
- رحلة في عمق الحب والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي
- الحقيقة، حين تتأخر، تكون قد ماتت فعلاً.
- التطور القادم من التخابر
- السرد الرمزي العربي في رواية- الولد الذي حمل الجبل فوق ظهره ...


المزيد.....




- عدي رشيد يدخل هوليوود بفيلم يروي حكاية طبيب عراقي
- مهرجان مراكش الدولي للفيلم يكرم أربع شخصيات بارزة في عالم ال ...
- -العملاق- يفتتح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينم ...
- منصور أبو شقرا... مسيرة شعرية وثقافية تتجسد في إصدار مجموعته ...
- نردين أبو نبعة: الكتابة المقاومة جبهة للوعي في مواجهة السردي ...
- مصر: نقيب الممثلين ينفي فتح تحقيق مع عباس أبو الحسن بعد تصري ...
- جدل بعد بث أغنية أم كلثوم عبر أثير إذاعة القرآن الكريم المصر ...
- أشبه بالأفلام.. سيدة تُقل شرطيًا بسيارتها لملاحقة سارقة متجر ...
- -البيت الفارغ- والملاحم العائلية يمنحان الفرنسي لوران موفيني ...
- المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكرّم جودي فوستر وحسين فهمي


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - رواية النفق منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع الخارجية