ضحى عبدالرؤوف المل
                                        
                                            
                                                
                                        
                    
                   
                 
                
                
                
                
                 
                    
                
                
              
                                        
                                        
                                      
                                        
                                        
                                            الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 20:58
                                        
                                        
                                        المحور:
                                            الادب والفن
                                        
                                        
                                            
                                        
                                        
                                     
                                      
                                        
                                        
                                        
                                        
                                            
    
    
 
                                       
                                        
                                        
                                
                                
                                   
                                        
                                            
                                              رسالة إلى حفيدتي  يارا… 
يا زهرتي التي نمت في حديقة أيامي بعد طول انتظار، يا قطعةً من قلبي تمشي في العالم بخفةٍ تشبه الموسيقى...كل سنة وأنت بألف خير وكل دقيقة أنت برعاية الله الكريم المنان الذي جعلني جدة لطفلة رأيتها تكبر كل يوم وضحكتها لا تفارقني...
أكتب إليك اليوم وكأنني أكتب إلى الغد كله، إلى وجه الحياة حين تتفتح من جديد، إلى كل البنات اللواتي يشبهنك حين يقفن على عتبة العمر السابع عشر، ذاهباتٍ نحو الحلم، خائفاتٍ منه في الوقت ذاته.
أكتب لكِ لأنني رأيت ما لم تريه بعد، عشتُ الفرح وهو يولد ويموت، والأمل وهو ينهض ثم يتعثر، رأيتُ الوجوه تتبدل، والقلوب تتغير، والأيام تمضي بسرعةٍ تفوق الفهم. ورغم كل ذلك، ما زلت أؤمن أن الخير لا يفنى، وأن النور، مهما غاب، يعرف طريق العودة إلى القلوب الطيبة.
يا يارا،
في هذا العمر الذي تلمعين فيه كنجمةٍ يافعة، سيُغريكِ العالم ببريقه، ويخيفكِ بظلاله، سيُعلّمك الناس كيف تظهَرين، لكن قلّ من يُعلمك كيف تكونين. وأنا هنا لأهمس لكِ بما علّمتني إياه الحياة بعد أن أخذت مني الكثير: أن القوة لا تُقاس بارتفاع الصوت، بل بقدرتك على البقاء طيبة في عالمٍ صاخب. أن الكرامة ليست كبرياء، بل معرفة من أنتِ دون حاجةٍ لتصفيق أحد. وأن الحب، يا صغيرتي، أجمل حين يكون وعيًا لا هروبًا.
أول ما أريد أن أقول لك:
احذري من أن تخطئي في الحب. الحبّ يا يارا ليس تلك الأغنيات التي تُقال عند المساء، ولا تلك الرسائل التي تُكتب ثم تُمحى. الحبّ وعدٌ طويل المدى، مسؤوليةٌ لا يحملها إلا قلبٌ يعرف معنى الالتزام، وليس كل من يطرق قلبك يستحق الدخول. لا تبحثي عن الحب في العيون الجميلة، بل في الأفعال البسيطة، في الصدق، في الاحترام، في الطمأنينة.
الحبّ الذي يجعلكِ تقلقين أكثر مما تطمئنين، ليس حبًا، بل امتحانًا تتعلمين منه من أنتِ. احبي من يُنصت إليك أكثر مما يتكلم، من يراك كما أنت لا كما يريدك أن تكوني، من يحمي مساحتك، ويقدّس حريتك، من يراك حياةً كاملة، لا فكرةً مؤقتة. وإن لم تجديه بعد، لا تستعجلي. الحب لا يأتي بالبحث، بل بالاستحقاق.
وحين تكونين في سلام مع نفسك، سيجدك الحب كما يجد النهر طريقه إلى البحر. ثم أقول لك شيئًا أثمن من الحب كله:
احفظي روحك من الضجيج. تعلمي أن تكوني صديقة نفسك قبل أن تبحثي عن أصدقاء. أن تجلسي بصمت دون أن تخافي من الوحدة، فالعزلة ليست فراغًا، بل مساحةٌ يلتقي فيها الإنسان بنفسه. وفي هذه المساحة، يا يارا، يولد النور الحقيقي. لا تظني أن الوحدة نقص، بل أحيانًا هي النعمة التي تُعيد ترتيبك. الوحدة تعلّمك أن تستمعي إلى داخلك، أن تفهمي خوفك بدل أن تهربي منه، أن تميزي بين صوتك وصوت الآخرين في رأسك. وفي زمنٍ يعلّم البنات كيف يرضين الجميع، أريدك أن تتعلمي كيف ترضين نفسك أولاً.
يا يارا،
احفظي في قلبك إيمانًا بسيطًا: أن هناك عدلاً لا نراه لكنه يحدث، وأن ما يُؤخذ منا يُعاد إلينا بطريقةٍ أخرى، ربما أجمل، وربما أنقى، وربما على هيئة راحةٍ بعد تعب. ثقي أن الحياة، رغم قسوتها، لا تظلم، بل تربي، وتُهذب، وتُعيد تشكيلنا حتى نصبح أكثر اتزانًا. سيؤلمك الفقد، وستعرفين الخيبة، لكن لا تجعلي الألم يسرق منك ثقتك بالعالم. ثمّة نورٌ في كل نهايةٍ، حتى لو تأخر ظهوره.وحين لا تفهمين ما يحدث، تذكّري أن المعنى لا يظهر في لحظة الوجع، بل بعد أن ننجو منه.
ويا ابنتي،
احترمي مشاعرك كما تحترمين جسدك. لا تتركي أحدًا يستهين بما تشعرين به، ولا تجعلي من نفسك مرآةً لتوقعات الآخرين. أنتِ لستِ صورةً تُرضي أحدًا، أنتِ كيانٌ كامل يستحق أن يُحترم كما هو.افخري بذكائك كما تفخرين بجمالك، وبرحمتك كما تفخرين بقوتك. لا تسمحي لأحد أن يُقنعك أن الطيبة ضعف، فالقلوب التي تعرف الرحمة تملك قوةً لا تراها العيون.
يا يارا،
ستكبرين وتكتشفين أن العالم ليس دائمًا منصفًا،وأن النوايا الجميلة لا تحمي أصحابها دائمًا، لكنها تجعلهم ينامون بسلام.
وستفهمين أن العطاء لا يجب أن يكون صفقة، بل امتدادًا لما فيك من نور. امنحي الخير لأنك أنتِ الخير، ابتسمي لأنك تملكين القدرة على جعل يوم أحدهم أفضل. واعلمي أن الجمال الحقيقي ليس في المرايا، بل في الطريقة التي تُضيئين بها المكان حين تدخلين. هو في كلماتك الطيبة، في نظرتك المتفهمة، في احترامك للناس وللأشياء. فلتكن خطواتك خفيفة على الأرض، ولا تجعلي حضورك يُثقل على أحد. كوني نسمةً تُخفف لا ريحًا تقتلع.
أما حين تغضبين، تذكّري أن الغضب نارٌ تأكل صاحبها أولًا. خذي نفسًا عميقًا، اهدئي، ثم فكّري: هل يستحق الأمر أن أفقد سلامي من أجله؟
الذين يعرفون كيف يهدأون في العاصفة، هم الذين يعبرون الحياة بأقل خسائر. ولا تخافي من أن تُخطئي، فكل خطأٍ دربٌ نحو النضج. المهم ألا تكرري الخطأ ذاته مرتين.
يا يارا، ستمرّين بأوقاتٍ تشعرين فيها أنكِ لا تفهمين نفسك، تتغيرين وتخشين التغيّر، لكن ذلك جزءٌ من الرحلة. النضج ليس أن تجدي الإجابات، بل أن تتعلمي كيف تحتملين الأسئلة. ستتبدل أولوياتك، وتكتشفين أن ما كان يبدو مهمًا بالأمس، لم يكن يستحق دمعة. وهذا هو جمال الحياة، أنها تُعلّمنا ما نحتاجه بالضبط حين نظن أننا فقدنا كل شيء. وتذكّري دائمًا:
أن الإنسان مهما علا، سيعود في النهاية ترابًا. سنترك ما جمعناه، وما نافسنا عليه، وسيبقى فقط ما وضعناه في قلوب الناس، ما زرعناه من أثرٍ طيبٍ في الدروب. لهذا، عيشي بلطف، وافعلي الخير خفية، فكل ما نمنحه يعود إلينا في الوقت المناسب، بطريقةٍ لا نتوقعها.
يا حفيدتي،
لا تقيسي قيمتك بآراء الآخرين. الناس يتغيرون، وأمزجتهم تتبدل، لكن قيمتك ثابتة لأنك أنتِ من تحددينها. احبي نفسك كما هي، بتناقضاتها وضعفها وقوتها، فهي أجمل مما تظنين. ولا تضيّعي عمرك في مقارنة نفسك بغيرك، فكل زهرةٍ تزهر في موسمها، وكل روحٍ تلمع بطريقتها الخاصة.
حين يخذلك أحد، لا تردي الأذى بأذى. امشي بهدوء، واتركي الأبواب خلفك مواربةً للنسيان. الكرامة لا تعني القسوة، والتسامح لا يعني البقاء في مكانٍ يؤذيك.تعلّمي أن تغادري حين ينتهي المعنى، فأجمل أنواع القوة أن تعرفي متى تمضين دون ضجيج.
يا يارا،
العالم لن يمنحك دائمًا ما تستحقين، لكن إن حافظتِ على صدقك، سيمنحك في المقابل ما تحتاجين. احلمي كثيرًا، لكن لا تنسي أن تمشي بخطى ثابتة على الأرض. خططي، ولكن اتركي دائمًا مساحةً للدهشة، فالحياة لا تمضي كما نريد، بل كما يجب أن تمضي. لا تخافي من الفشل. الفشل ليس نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية.من لا يفشل لا يتعلّم، ومن لا يتعلّم يبقى صغيرًا مهما كبر عمره.ابتسمي حين تسقطين، فالسقوط يعلّمك كيف تنهضين بطريقةٍ أجمل. ولتعلمي أن ما كُتب لك سيجدك، حتى لو تأخر.
وتذكّري يا صغيرتي، أنك حين تنظرين إلى المرآة، لا تري وجهك فقط، بل ترى تاريخ نساءٍ سبقنك، أمهاتٍ وجداتٍ وملايين النساء اللواتي مشين قبلك في هذا العالم، زرعن القوة فيكِ دون أن تعرفي، فأكملي الطريق لهنّ وبهنّ. احملي إرثهنّ النبيل: الصبر، والكرامة، والحنان، والإرادة. فكل امرأةٍ قوية اليوم، هي امتداد لامرأةٍ صبرت بالأمس. وإن شعرتِ يوماً بالضياع، توقفي، تنفّسي، وتذكّري أن في داخلك بوصلة، هي قلبك حين يكون صادقًا مع نفسه. القلب الصادق لا يضل الطريق مهما طال العتم. استمعي له حين يهمس، ولا تجبريه على ما لا يرتاح له. الحدس هديةٌ من الحياة، فاحترميه.
وأخيرًا يا يارا،
لا تخافي من الغد. الغد لا يأتي ليؤذي أحدًا، بل ليعلّمه. عيشي يومك كما لو كان قصيدة، استمتعي بتفاصيله الصغيرة: فنجان قهوةٍ دافئ، ضحكة صديقة، غروبٌ هادئ، كلمة طيبة. هذه التفاصيل هي ما تصنع المعنى الحقيقي للحياة. تذكّري أن العالم ليس مكانًا كاملاً، لكنه جميل بما يكفي لمن يرى الجمال في الأشياء الناقصة. ولا تبحثي عن الكمال، فهو عبءٌ ثقيل، بل ابحثي عن السلام، فهو الجمال الأبقى. وحين يأتي الليل، قبل أن تغمضي عينيك، اسألي نفسك: هل أحببت اليوم بصدق؟ هل سامحت؟ هل تعلمت شيئًا؟ إن كانت إجابتك نعم،فقد مضى يومك كما يجب أن يمضي، ببساطةٍ وصدق، كما يليق بروحٍ جميلةٍ مثلك.
يا يارا،
في هذا اليوم الذي وُلدتِ فيه، أريدك أن تتذكري أنك لم تأتي عبثًا. لكِ مكانك في هذا الكون، ودورك في جعل العالم أكثر لطفًا. كل ابتسامةٍ تمنحينها، كل يدٍ تمسكينها، كل كلمةٍ حنونةٍ تقولينها، هي خيطٌ صغير في نسيجٍ عظيمٍ يُعيد للإنسانية دفئها. كوني نورًا، ولو خافتًا، كوني صدقًا، ولو في زمن الزيف، كوني أنتِ، بكل ما فيك من جمالٍ ونقصٍ، فأنتِ بهذا التوازن معجزة صغيرة تمشي على الأرض. وعندما تحتفلين بيومك، تذكّري أن العمر ليس عدد السنوات التي عبرتِها، بل عدد اللحظات التي أحببتِ فيها بصدق، وتسامحتِ، ونضجتِ، وابتسمتِ رغم كل شيء. فكل عامٍ وأنتِ أكثر وعيًا، أكثر لطفًا مع نفسك، وأقرب إلى السلام الذي يسكن القلوب المطمئنة. جدتك ضحى عبدالرؤوف المل يا صورة من الحياة التي ألجأ اليها عند كل هم لأبتسم وأرى زهرتي الحنونة يارا 
كل عام وأنت بخير 
بيروت - لبنان الساعة السابعة مساء من يوم الُإثنين في 3 تشرين الثاني 2025
                                                  
                                            
                                            
                                          
                                   
                                    
      
    
  
                                        
                         #ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ) 
                           
                         
                            
                         
                        
                           
                         
                         
                
                                        
  
                                            
                                            
                                             
                                            
                                            ترجم الموضوع 
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other 
languages
                                        
                                            
                                            
                                            
الحوار المتمدن مشروع 
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم 
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. 
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في 
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة 
في دعم هذا المشروع.
 
  
                                                               
      
    
			
         
                                         
                                        
                                        
                                        
                                        
                                        
                                         
    
    
    
                                              
                                    
                                    
    
   
   
                                
    
    
                                    
   
   
                                        
			
			كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية 
			على الانترنت؟