أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - التنمّر الأدبي














المزيد.....

التنمّر الأدبي


ضحى عبدالرؤوف المل

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 20:11
المحور: الادب والفن
    


يحدث التنمّر الأدبي حين يفقد النقدُ وظيفته الجوهرية في الإنارة، ويتحوّل إلى أداة للهيمنة الرمزية، حيث تتبدّل سلطة النصّ بسلطة الشخص، وينقلب الأدب من فضاء للحرية إلى ساحة صيدٍ يتربّص فيها البعض بقلوب الكتّاب قبل كلماتهم. إنّه العنف الذي لا يُرى، لكنه يثقل الصدر، يملأ الهواء بخوفٍ غير معلن، ويحوّل الكتابة من هذا الفعل الخلّاق الذي يولد من أعمق مناطق الإنسان إلى ساحة يُعاقَب فيها المبدع لأنه تجرّأ على الوجود بلغته الخاصة. التنمّر الأدبي ليس خلافاً جمالياً، ولا اختلاف ذائقة، ولا حواراً نقدياً مشروعاً، بل هو عدوانٌ مقنّع يرتدي قناع "الرأي"، ويستعمل مفردات النقد ليخفي بها رغبة دفينة في الإلغاء، في محو الآخر، في تكسير رئته الإبداعية من الداخل.
التنمّر الأدبي يبدأ عادة من لحظة خطيرة وهي حين يعتقد شخص أو مجموعة أنهم حماة "المعيار". إذ يصبح النقد سياجاً، لا فضاءً. يتحول إلى محكمة، لا مختبر. يتعامل المتنمّرون مع النصوص كأنها امتحانات عليهم تصحيحها، لا كعوالم ينبغي الإنصات لها. يتخذون من أنفسهم سلطة معرفية نهائية، ويستعملون اللغة ليس لقول شيء جديد، بل لخلق تفوّق زائف، لتأكيد مكانة اجتماعية في الوسط الثقافي، ولتذكير الآخرين بأن الكتابة ليست حقاً للجميع، بل امتيازاً تحت وصاية "النخبة". وفي هذه اللحظة بالذات، يتحول الأدب من جسر إلى جدار، من حوار إلى استعراض قوة، ومن اختبار معرفة إلى اختبار عضلات.
ما يجعل التنمّر الأدبي خطيراً هو أنه غالباً لا يأتي بصور فجّة؛ إنه يمشي على أطراف أصابعه. قد يتسلّل في جملة ساخرة، في تعليق استعلائي، في مقارنة مهينة، في تقسيم النصوص إلى"راقية" و" لا تنفع "، في ضحكة جانبية تُطلق أثناء ندوة، أو في أحكام قطعية تُلقى بثقة مطلقة دون قراءة حقيقية. يخلق المتنمّر مناخاً يجعل الكاتب يشعر بأنه مراقب، وأن كل ما يكتبه قابل للإعدام العلني. بهذا المعنى، التنمّر الأدبي ليس فقط اعتداءً لغوياً، بل اعتداء نفسي، يطال الجرأة الإبداعية مباشرة. الكتّاب لا يخافون النقد، بل يخافون السخرية المتخفّية خلف النقد. يخافون أن تُختَزل تجاربهم إلى نكتة، أو تُحقَّر جهودهم بجملة، أو تُشوَّه نواياهم بتفسير مسموم.
التنمّر الأدبي لا ينبع من القوة، بل من هشاشة المتنمّر نفسه. إنه محاولة لتعويض نقص ما عبر السيطرة على الآخرين. الكاتب الموهوب يقرأ النص ويتجاوب معه، أما المتنمّر فيقرأ الكاتب. يفتّش عن نقطة ضعف، عن خطأ لغوي، عن انحراف في الأسلوب، عن سهو في البنية، ليحوّله إلى" دليل" على أن النص برمّته ضعيف. هنا لا يعود النقد بحثاً عن القيمة، بل بحثاً عن ثغرة. كأن الهدف ليس تطوير النصوص، بل إثبات أن الكاتب لا يستحق صوته، وأن حضوره غير مرغوب فيه. لذلك أحببت أن أكتب هذا المقال لأن التنمّر الأدبي ليس نقداً سلبياً، بل نزعٌ للشرعية. هو محاولة لطرد الكاتب من المساحة التي يحاول أن يشارك فيها، أو لتطويعه ليكتب بما يناسب ذائقة المتنمّر، لا بما يناسب صدقه الداخلي.

والأسوأ أن التنمّر الأدبي ينمو في بيئات ثقافية غير ناضجة، حيث تُخلط السلطة بالمكانة، والذائقة بالسيطرة، والرأي بالحقيقة. حين لا تكون هناك ثقافة نقدية قوية، يصبح كل تعليق سلطة، وكل تهكّم معياراً، وكل استهجان سيفاً. لذلك ينتشر التنمّر خصوصاً في المساحات الرقمية أي في منصّات التواصل بشكل أوسع، في مجموعات القراءة، في التعليقات على نشرات الكتب، حيث يختلط الحسد بالتنافس، والرغبة بالاستعراض، والخوف من الاختفاء بالخوف من التفوق الإبداعي للآخر. يمنح العالم الافتراضي المتنمّر فرصة ليخفي ضعف رؤيته تحت ضجيج كلماته. وما لا يقال يُفهم وهو أن الكاتب الشجاع يُهدّد من لم يجرؤ على الكتابة أصلاً.

لكن أجمل ما في الأدب أنه مقاوم بطبيعته. الكلمة التي تُكتب بصدق لا تسقط بالتنمّر. قد ترتبك لحظة، لكنها لا تنطفئ. فالأدب، منذ نشأته، وُلِد من الصراع أي صراع مع الجهل، مع القمع، مع ضيق العالم. التنمّر الأدبي، رغم قسوته، لا يصمد أمام نصّ حقيقي. إنّه يشبه الغباروهو يعلو سريعاً، لكنه يهبط أسرع حين تظهر الشمس. لأن ما يبقى ليس صوت المتنمّر، بل أثر النص. المتنمّرون يختفون عندما يتغير المزاج الثقافي، أما الكتاب الحقيقيون فيبقون لأنهم يكتبون من منطقة لا يستطيع المتنمّر الوصول إليها وهي منطقة التجربة الإنسانية العميقة.

ربما أهم ما يجب عليّ قوله هنا إن مقاومة التنمّر الأدبي لا تكون بالانسحاب، بل بالكتابة الأكثر نضجاً، بالاستمرار، بالثقة في الذائقة الداخلية، وببناء نقدٍ حقيقي يفضح الممارسات السامة دون أن يتحول بدوره إلى تنمّر مضاد. النقد الناضج يختلف عن التنمّر لأنه يفتح الباب، لا يغلقه. يضيف طبقة من الفهم، لا طبقة من الترهيب. النقد الحقيقي يهتم بالنص، أما التنمّر فيحاول سحق الكاتب. لذلك فإن حماية المشهد الثقافي لا تكون بالرقابة، بل ببناء ثقافة ذكية تفهم أن الاختلاف في الأسلوب جزء من جمال الأدب، وأن التجريب ليس تهديداً، وأن الجديد يحتاج وقتاً ليُسمَع، لا سكيناً ليُذبح.

في النهاية، التنمّر الأدبي ليس ظاهرة تافهة، بل علامة على أزمة أعمق وهي أزمة في فهم دور الأدب، وفي فهم دور الإنسان في فضاء الكلمة. وإذا كان التنمّر يُمارَس لإسكات الأصوات، فإن مقاومتَه تُمارَس بصناعة أصوات أقوى. كل نصّ يُكتب بشجاعة هو صفعة على وجه المتنمّر، وكل كاتب يستمر رغم الجرح هو دليل على أن الأدب أقوى من العنف الرمزي، وأكبر من كل من يحاول احتكاره أو تصغيره. وهكذا، لا يمكنني أن أسأل كيف نمنع التنمّر الأدبي؟ بل يصبح: كيف نصنع مشهداً أدبياً أو حتى فنياً تشكيلياً لا يخاف فيه أحد من كتابة ما يشبه روحه؟ أو رسم عبثي يبعث الفرح في نفوس الآخرين وهذا، في نهاية المطاف، هو جوهر الحرية وجوهر الأدب والفن معاً .
الأربعاء في 19 تشرين الثاني 2025 الساعة السادسة مساء



#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الخوف والرغبة في الحياة في فيلم فيلم Love Me Tender 2019
- هل رواية- بيت الجاز- هي جولة في النفس البشرية المشتعلة؟
- رواية النفق منظومة فكرية ونفسية تُنتج عالماً موازياً للمجتمع ...
- رسالة إلى حفيدتي يارا…
- حين تتحوّل الحكاية إلى لوحة في قصة جدتي ل -بيار فاضل-
- معادلة الميتا-كود والديجا فو (Déjà Vu) والإنسان كمنتَج خوارز ...
- هل الأسطورة والمعنى تمثل بناء النظام الرمزي للعالم؟
- هل تساوي قيمة الكاتب مكانَ نشره؟
- هل يمكن للمانغا أن تولد من رحم اللغة العربية؟
- الخوف من الحياة في شعرية المقاومة لدى إدريس سالم
- الهوية الكردية كخيط ناظم في رواية كريستال أفريقي
- الطغيان كـ كود احتمالي، لا كظاهرة سياسية فقط
- هل ما بين الكراهية والإعتراف عقدة نقص ؟
- ميغيل ميهورا في مجموعة قصصية بعنوان رجل واحد
- فن الطبخ في مسلسل -هنيبعل-: الجمال الملوث بالدم
- فلسفة هنيبعل وتفسير النفس البشرية
- هل السرد البصري المكتنز هو فعل مشترك بين الفنان والمشاهد؟
- جدلية الشفاء والعجز في لقاء نيتشه وبروير في فيلم حين بكى نيت ...
- سردية التيه والوعي في هامش العالم العربي
- رحلة في عمق الحب والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي


المزيد.....




- من أرشيف الشرطة إلى الشاشة.. كيف نجح فيلم -وحش حولّي- في خطف ...
- جدل بعد أداء رجل دين إيراني الأذان باللغة الصينية
- هل تحبني؟.. سؤال بيروت الأبدي حيث الذاكرة فيلم وثائقي
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- الأخوان ناصر: إنسان غزة جوهر الحكاية.. ولا نصنع سينما سياسية ...
- -سيرة لسينما الفلسطينيين- محدودية المساحات والشخصيات كمساحة ...
- لوحة للفنان النمساوي غوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يُب ...
- معاناة شاعر مغمور
- الكويت تعلن عن اكتشافات أثرية تعود لأكثر من 7 آلاف سنة
- الصين تجمّد الأفلام اليابانية في ظل اشتعال ملف تايوان


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضحى عبدالرؤوف المل - التنمّر الأدبي