ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8540 - 2025 / 11 / 28 - 22:04
المحور:
الادب والفن
يبدو "المجهول" في الأدب ليس مجرد وصف يُطلق على شخصية لا نعرف اسمها أو قصتها، بل هو مفهوم مركزي يتكرر في كل العصور، ويتحوّل من عمل إلى آخر، مكتسباً دلالات جديدة كلما انتقل من رواية إلى رواية، ومن ثقافة إلى أخرى. فالإنسان الذي يظهر بلا ماضي، بلا وثيقة، بلا تاريخ، أو بلا اعتراف من العالم، يتحول فوراً إلى مرآة أو زاوية يرى القارئ فيها نفسه، وهشاشته، وقلقه، وحقيقته التي ربما لا يجرؤ على مواجهتها في حياته اليومية.
إن المجهول في رواية "مجهولة نهر السين" للروائي الفرنسي "غيوم ميسو" وفي الأدب هو كائن يحرم القارئ من "امتلاك القصة"، فهو لا يمنح اسمه، ولا يقدّم ذاته، ولا يشرح ظروفه، بل يترك فجوة في السرد. وهذه الفجوة ليست نقصاً، بل قوة. إنها المساحة التي يسمح فيها الكاتب للقارئ بأن يشارك في بناء النص الروائي، بأن يملأ الغياب بخياله، وبأن يرى أن الرواية ليست فقط ما يُكتب، بل ما يُحذف أيضاً. إن رمزية المجهول في "مجهولة نهر السين" ليست تفصيلًا سردياً، بل هي لبّ الأدب نفسه هي الأدب يحب الفجوات، يحب أن يفتح باباً لا يُرى ما خلفه، ويترك القارئ يتساءل عن ماذا لو كان المجهول أنا؟
إن روكسان ليست محققة خارجية، بل شخصية متورّطة داخلياً في الحالة. فكلما اقتربت من الفتاة، بدت أجزاء من حياتها الشخصية تتشقق مثل برد مفاجئ يخترق العظام وشرود يقطع يومها واستعادة ذكريات من المدرسة وانجذاب إلى أسطورة القناع، وهروبها من العودة إلى منزلها وسرداب من التعب العاطفي يخنقها هذه العناصر تجعل من "المجهولة" انعكاساً لروكسان نفسها. فالمجهولة التي تبحث عن اسم هي تشبه روكسان التي تبحث عن معنى لعودتها إلى المدينة، عن قدرتها على الصمود في مهنة تستنزفها، عن مأوى داخلي.
في الأدب، حين يصبح التحقيق مطاردة ذاتية، نعلم أن "المجهول" ليس شخصية ثانية بل صورة من الذات المكبوتة.هذا ما شعرت به وأنا أقرأ " للروائي الفرنسي "غيوم ميسو" مجهولة نهر السين "حيث الفتاة التي تصل إلى المستشفى الباريسي وهي بلا اسم، بلا صوت واضح، بلا أي شيء يدل على هويتها سوى شعرها المنسدل وهمسها الألماني الغامض، تتحول من شخصية عابرة إلى رمز كثيف الدلالة. لقد دخلت الرواية كمريض، لكنها سرعان ما خرجت منه كمرآة فلسفية تطرح تساؤلات منها ماذا يبقى من الإنسان حين ينهار كل تعيين خارجي؟ هل يصبح قلبه هو اسمه؟ صمته هو لغته؟ جماله هو وثيقته السياسية؟
من هذا المنطلق تبدأ رحلة رمزية "المجهول" في تاريخ الأدب العالمي، وهي رحلة طويلة، متشعبة، ومتجددة باستمرار. فمن الأساطير الأولى، لا يكون المجهول مجرد غياب، بل يكون هوية أولية. البطل يولد غالباً دون معرفة واضحة بنسبه، أو يُخفى عنه أصله. أوديب نفسه، قبل أن يعرف من هو، كان يعيش في قلب سؤال: "من أنا؟". لكن هذا السؤال ليس فقط سؤال مصير، إنه سؤال أدب. فالمجهول هو الذي يطلق الحركة.إذ لا تبدأ الأسطورة إلا حين يفقد البطل اعتراف العالم به، أو حين يصبح وجوده معلقاً بين هوية وأخرى. فالمجهول في الأساطير لا يمثل الجهل، بل يمثل إمكانات متعددة. من لا نعرفه يمكن أن يكون ملكاً، أو قاتلًا، أو ضحية، أو إلهاً متنكراً. كل شيء وارد. وهذا الاحتمال المفتوح هو الذي يجعل السرد حياً.
في مجهولة نهر السين، تظهر الفتاة المجهولة أيضاً كبداية حركية، فالنص الروائي لا ينفتح لولا مجيئها، ولا يطرح أسئلته لولا غياب هويتها. إنها ليست شخصية إضافية، إنها "الشرط السردي" ذاته أي الغياب الذي يجعل الحكاية ممكنة.مع تطور الأدب، تحول المجهول إلى أداة بنائية. في الرواية البوليسية، هو المحرك العام للحبكة. فالقاتل مجهول، الضحية مجهولة الظروف، أو الحقيقة مجهولة. القارئ يُدفع نحو معرفة المجهول، نحو فك شيفرة الغياب .لكن المثير هو أن المجهول في الأدب البوليسي ليس مجهولًا فعلياً؛ إنه "مجهول مصطنع"، يقوم الكاتب ببنائه عمداً ليخلق توتراً. إنه مجهول "محسوب"، ولذلك يختلف جوهرياً عن المجهول في رواية مجهولة نهر السين.
فالفتاة في المقطع ليست لغزاً بوليسياً. ليست مهمتها أن تُكشف، بل أن تظل معلّقة، أن تظل صامتة كلوحة، أن تتحول من "مسألة يجب حلها" إلى "سؤال يجب تأمله".هكذا، يكون المجهول في هذا النوع من الأدب ليس تهديداً، بل جمالًا. فماذا حين يفقد الإنسان اسمه ويبقى الجسد وحده؟
واحدة من أقسى اللحظات في الرواية هي عندما يكتب الطبيب في التقرير الطبي كلمة "غير معروفة". هذه الكلمة الصغيرة تختصر علاقة الحداثة بجسد الإنسان. إذا لم يكن لك اسم، فأنت لا تنتمي إلى النظام الاجتماعي. الجسد وحده لا يكفي. وجودك الفيزيائي لا يمنحك حقاً في التعريف. في الأدب الحديث، تحولت هذه الفكرة إلى مركزية كبرى. كافكا، على سبيل المثال، بنى عوالمه حول بشر مجهولين، ليس فقط لأنهم بلا وثائق، بل لأن النظام لا يعترف بهم. شخصية "جوزيف ك" في المحاكمة لا يكاد يعرف لماذا يُحاكم، ومن يحاكمه، أو ماذا ارتكب. إنه مجهول حتى في حياته، مجهول أمام نفسه. بينما في الفتاة مجهولة ليس لأنها بلا أوراق، بل لأنها بلا قدرة على "إثبات ذاتها" بأي شكل. وهنا يتحول الجسد إلى آخر ما تبقى، آخر دليل على أن الحياة كانت هنا. الشعر المنسدل، اليد المرتخية، النفس المتقطع، هذه كلها ليست أوصافاً طبية بل "بقايا هوية" فهل رمزية المجهول في رواية مجهولة نهر السين تتخذ شكلاً أكثر عمقاً ؟ أم الجسد يصبح لغة الهوية البديلة أوالجسد هو الاسم الأخير؟.
من أبرز وظائف “المجهول” في الأدب أنه يسمح للقارئ بملء الفراغ. إن الشخصية التي لا نعرف عنها الكثير تصبح أكثر قدرة على تمثيل القارئ نفسه. في علم السرد، يُعرف هذا باسم “Neutral Character Slot” أي الشخصيات التي تُترك عمداً فارغة كي ينظر القارئ فيها ويرى نفسه. وهذا تماما ً ما يحدث مع الفتاة المجهولة في رواية غيوم ميسو . فهي ليست محددة الملامح بالكامل، ولا معروفة الأصل، ولا موصوفة بجذور أو تاريخ طويل. وهذا يفتح الباب للقارئ ليضيف عليها ما يشاء فقد يراها كضحية للعنف، أو مهاجرة غير شرعية، أو فنانة متجولة، أو حتى روحاً حائرة.
كل قراءة من أي قارىء ستضيف إليها هوية جديدة. وهكذا يتحول المجهول إلى مرآة، إلى مساحة فارغة ينتج فيها القارئ معنى مختلف، ففي الأدب العربي عرف هذا جيداً أيضاً. شخصيات مثل "قابيل" في بعض القراءات الرمزية، أو "الصوت" الذي يتكلم في قصائد أدونيس، هو"مجهول" بمعنى أنه يسمح بتعدد الأصوات داخله.
هناك لحظة في بداية الرواية يصف فيه غيوم ميسو الضوء الذي ينعكس على وجه الفتاة لحظة سكونها الأخير. هذا وصف جمالي وليس سردياً. إنها ليست لحظة موت، بل لحظة جمال متجاوز الفتاة الغارقة ذات الابتسامة الهادئة التي تحولت قناعاً وأيقونة في الفن والأدب. الفنان يرى في المجهول شيئاً لا يمكن معرفته بالكامل، شيئاً مفتوحاً دائماً، غير مكتمل، غير قابل للاستهلاك.فالهوية الثابتة "تقيد" الجمال، بينما الهوية المجهولة توسّع مداه.هكذا يصبح المجهول جمالًا لأنه لا يمكن امتلاكه. والسؤال الأخلاقي هو من نعترف به؟ ومن يحق له أن يكون إنساناً؟
عندما يقال: "فضاعت منا… أتقولين إن المريضة هربت؟" يأتي الهروب كقمة المأساة وكذروة المقاومة.لقد عجزت المؤسسة عن احتوائها، ورفضت هي أن تتحول إلى ملف وبطاقة تعريف.الهروب هو لحظة استرداد "اللااسم" كقوة. فالمجهول الذي لا تستطيع السلطة القبض عليه يصبح أسطورة. إن ضياعها ليس ضياعاً جسدياً بل تحرّراً من جهة تريد تعريفها بالقوة. الأدب، منذ بداياته، لم يستخدم المجهول فقط كرمز جمالي، بل كقضية أخلاقية من يحق له أن يكون “مرئياً؟ من نعترف به كذات؟هل إنسان بلا وثائق، أو بلا أهل، أو بلا لغة، هو أقل قيمة؟
غيوم ميسو طرح السؤال بحدة وبقوة فالطاقم الطبي مرتبك، النظام البيروقراطي صامت، المستشفى يعجز عن إيجاد أي سجل لها، وحتى صوتها لا ينقذها، لأنه لم يكن سوى همس غير واضح. لقد صارت الإنسانية مرتبطة بقدرتنا على الإدراج في نظام. من ليس له ملف، يصبح غير موجود. هذا السؤال يظهر في الأدب باستمرار مثل "البؤساء" لفيكتور هوغو، حيث يصبح جان فالجان مجهولًا كي يستطيع النجاة. وفي أدب اللاجئين المعاصرين، حيث تتحول الهوية إلى ورقة، والإنسان إلى احتمال للرفض أو القبول عند الحدود. وفي أدب النسوية، حيث كثير من النساء المجهولات كنّ ضحايا للنظام الأبوي الذي لا يسجل أصواتهن ولا يعترف بوجودهن. إن المجهولة في رواية ميسو ليس شخصية، بل موقف أخلاقي مغمس بالفلسفة والتساؤلات العميقة التي تختلف من قارىء لقارىء مثل هل نقبل بالإنسان حين لا يقدم لنا وثيقة تثبت أنه إنسان؟
المجهول في الأدب يملك قوة لا يملكها المعروف لأنه يبقى. فالشخصية المعروفة تُستهلك، بينما المجهول يبقى مفتوحاً للتأويل. لذلك تتحول الفتاة في الرواية إلى أثر، إلى علامة، إلى شيء يتجاوز موتها. فالرواية لا تجعل موتها نهاية، بل تجعل منه بداية.فالمجهول لا يُدفن؛ إنه يتكاثر. نحن نقرأ مجهولة نهر السين إلى الآن، رغم أنها ماتت منذ أكثر من قرن.ونقرأ الشخصيات المجهولة في أدب بورخيس لأنها لا تملك حدوداً. وأيضاً "الرجل الذي لم يكن هناك" في الأدب الأمريكي لأنه يفتح سؤالًا: هل يحتاج الإنسان أن يكون موجوداً كي يترك أثراً؟ فما الذي يجعل الإنسان إنساناً؟
في الفلسفة الوجودية، المجهول هو "الحقيقة الخام" للوجود. نولد دون معرفة من نكون، ونقضي حياتنا نبحث عن إجابات، ونرحل ونحن لم نفهم كل شيء.وهكذا يصبح الأدب مساحة لتمثيل هذا القلق الوجودي الفتاة في مجهولة نهر السين لا تعرف نفسها، ولا يعرفها أحد. لكن لحظتها الجمالية عند الموت، وصمتها الغريب، وملامحها التي تشبه أثراً أكثر مما تشبه وجهاً، كل ذلك يجعل القارئ يتساءل كلما توغل في الرواية مسرعاً ليعرف من تكون . هل الهويّة شيء نكتسبه، أم شيء نفقده؟هل المجهول نقص، أم شكل من أشكال الحرية؟هل يجب أن "نعرف" الإنسان كي نمنحه معنى؟ والأهم هل كلنا سنصبح مجهولين في النهاية؟
في أعماق رمزية المجهول يكمن شيء مرعب وبسيط هو أن كل البشر الذين يعيشون الآن سيصبحون مجهولين ذات يوم. سيُقرأ اسمهم آخر مرة، ثم يتوقف أحد عن ذكره. ستبقى بقايا صور، ثم تختفي. ستبقى آثار، ثم تبهت. فهل الأدب وحده يقاوم هذه النهاية؟ .
رواية "مجهولة نهر السين "تخلّد فتاة بلا اسم، بلا سجل، بلا أهل. لكن السرد يجعلها "أيقونة"، يجعلها جزءاً من ذاكرة لا تموت. فهل مجهولة نهر السين تجمع بين أجمل ما في الإنسان، وأقسى ما فيه؟
بين الحاجة إلى المعنى، والخوف من الفقد. بين الصمت الذي يقتل، والصمت الذي ينقذ. بين الجسد الذي يختفي، والأثر الذي يبقى. غيوم ميسو يلتقط هذا كله في صورة واحدة، فتاة مجهولة في غرفة مشفى، لكنها تتحول في اللحظة ذاتها إلى رمز أدبي خالٍ من الزمن، رمز يتجاوز حدود حياتها القصيرة، ويجعل من غيابها حضوراً، ومن ضياعها جمالًا، ومن موتها نصاً روائياً يُقرأ. وهكذا يتأكد أن "المجهول" ليس شخصية بلا اسم، بل هو طريقة الأدب في القول. : إن الإنسان أكبر من سجلاته، أعمق من أوراقه، وأجمل من اسمه. المجهول هو الإنسان حين يُرى لأول مرة. لكن في نهاية مقالي يمكنني القول أن الرواية تضعك على مفترق عدة تأويلات فهي أشبه بشجرة مثمرة كلما أمسكت بغصن تتمنى لو تمسك بالآخر.
بيروت- لبنان الجمعة في 28 تشرين الثاني 2025 الساعة السابعة مساءا
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟