ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 16:22
المحور:
الادب والفن
لا يُقاس النجاح الأدبي في هذا العصر الحالي فقط بجودة الكلمة أو عمق الفكرة، بل غالباً بعدد اللايكات والتفاعل الذي يجذبه النص على وسائل التواصل. فالتداخل بين العالم الأدبي الكلاسيكي وميكانيزمات الإعجاب الرقمي يخلق وهماً جديداً للعديد من الكتاب، فوهم النجاح الذي ليس حقيقياً، بل مبنيّاً على هواجس لا طعم لها، على إعجابات قابلة للشراء، وعلى منصة وهمية تمنح قيمة زائفة للعمل الإبداعي. تتبعت صفحات الفايسبوك كثيراً وتأملت كيف يتغير إدراك الذات لدى الكاتب، وما هي التبعات الأخلاقية والروحية لهذا السعي وراء التقدير الرقمي. هل هي طبيعة النجاح الأدبي التقليدي ؟ أوالتحول الرقمي وتأثير وسائل التواصل؟ وهل شراء اللايكات هو مظهر من مظاهر تكثيف الوهم؟
قيمة الكتابة الأدبية في تقليدها الكلاسيكي ترتبط بفكرة الفعل الإبداعي كتمرد روحي، كبحث عن الحقيقة والذات. الكاتب لم يكن يبحث فقط عن الشهرة أو المكسب المادي، بل غالباً كان يريد مغزى وجودياً تفاعلياً ولو زائفاً. إن نجاحه الأدبي، بالمعنى القديم، كان يُقاس بما يثيره من أفكار، بما يوقظه من تأمل، بما يساهم به في الفلسفة أو في فهم الإنسان نفسه. فالنجاح الأدبي هو بداية تجربة روحية قبل أن يكون مادياً. فالكاتب، في لحظة الإبداع، يعيش تمرداً على الوضع الراهن، على الأشكال السائدة، على التوقع الاجتماعي. إنه يخلق كلماته من أعماق روحه، ليس لتلبية توقعات السوق بل ليمنح معنى. هذه الروح، عندما تقوى، تصبح مصدراً للحرية والإبداع. لكن في الزمن الرقمي، وتحت ضغط الانتشار، تغيّرت المعايير، فالإنسان الذي يكتب الآن يواجه سوقاً رقمياً، وقد دخل في سباق غير مرئي والأصح سباق اللايكات، التعليقات، المشاركات. وهنا يبدأ الوهم الأدبي وهو عندما تتحول الكتابة إلى أداء من أجل التفاعل، وإلى وسيلة لملء البروفايل الاجتماعي، وليس وسيلة للتعبير الداخلي.
لم تقدم وسائل التواصل الاجتماعي فقط منصة جديدة للكتاب، بل صنعت منظومة تقييم جديدة. في الماضي، كان الناشر أو الناقد هو الذي يقرّر قيمة النص من خلال قرائته، نشره، أو تقييمه. أما اليوم، فعدد التفاعلات (الإعجابات، التعليقات، المشاركات) أصبح ميزاناً سريعاً لقياس ما إذا كان العمل "ناجحاً" أو "مهماً". وهذا يخلق ضغوطاً على الكاتب ، ليس فقط أن يُبدع نصاً جميلًا، لكن أن يُصمّم نصاً قابلًا للانتشار، قابلًا للتريند، قابلًا لأن يُعاد نشره، قابلًا لأن يثير إعجاب جمهور واسع. الكتابة الأدبية تتحول بالتدريج إلى استراتيجية محتوى، والخطاب الأدبي يصبح جزءاً من "التسويق الذاتي". هكذا تنشأ فكرة الوعي الاجتماعي الرقمي أي الكاتب لا يكتب لنفسه فقط، بل يكتب للجمهور الرقمي، للجمهور الذي يقيس أعماله بوحدة تفاعلية هي لايك أو شير وهكذا، يتحول الفعل الأدبي إلى مزيج من الإبداع والتسويق، الإحساس والآلة الترويجية. إضافة إلى ذلك، تبيّن بعض دراسات علمية وجود سوق أسود لـ"الإعجابات" على الإنترنت. فعلى سبيل المثال، هناك باحثون لاحظوا أن بعض الأشخاص يدفعون مقابل "لايكات" لتعزيز مظهر المحتوى والتأثير الرقمي، وهذا ما يُعمّق وهم التفاعل الحقيقي. لهذا عندما يحقق كاتب ما عدداً كبيراً من التفاعلات، قد لا يكون ذلك دائماً نابعاً من إعجاب حقيقي بنصه، بل من استراتيجية مدفوعة.
هذا الواقع الرقمي المزدوج (التفاعل الطبيعي + التفاعل المدفوع) يخلق لدى الكاتب شعوراً متضارباً من جهة، الفخر والاعتزاز بعدد التفاعلات؛ ومن جهة أخرى، الخوف من أن يكون ذلك كله مزيفاً، وهو وهم مبنيّ على زرّ دفع قبله، وليس على تقدير نقي للكتابة. وهذا مظهر من مظاهر تكثيف الوهم. فشراء اللايكات هو المظهر الأوضح لهذا الوهم. في بعض الأحيان، يلجأ بعض الكتاب أو صناع المحتوى إلى شراء الإعجابات والتفاعل من أجل تعزيز مظهر نجاحهم الرقمي. هذا الفعل يحمل معنى مزدوجاً، من جهة، هو محاولة لتعزيز المصداقية الرقمية أي " إذا حصل نصي على آلاف اللايكات، فهو مهم." من جهة أخرى، هو اعتراف ضمني بأن التفاعل الطبيعي لا يكفي، أو أن التقدير الحقيقي غير مضموم. لذلك اللايك المشتراة تعمل كأداة تخدير نفسية وهي تخدير لقلق الكاتب الذي يراقب أرقامه الرقمية ويريد المزيد من التفاعل ليشعر بأنه "ناجح". هو وهمٌ مضاعف لأن اللايك نفسه وهم قيمة، ثانياً أن هذا التفاعل ليس صادقاً تماماً. أما من الناحية الفلسفية، فشراء اللايكات يشبه تسليع الكرامة الأدبية. إذا كان الإبداع الأصيل هو صوت الذات الصادقة، فإن التلاعب بالتفاعل الرقمي هو محاولة لتزييف هذا الصوت، ليبدو كما لو أن هناك جمهوراً حقيقياً يتفاعل مع الفكرة. لكن ما ينجزه بعض الكتاب هو نصّ قصير للاهتمام الرقمي، لأن هذا الاهتمام ليس بالضرورة مولوداً من تقدير حقيقي للنص، بل من آلة ترويج أو سوق تفاعلي مدفوع.
وهذا الوضع يضع الكاتب في مأزق ويطرح تساؤلاً هل هو يكتب من أجل التعبير والحرية؟ أم يكتب من أجل الأرقام؟ إذا قبل بشراء التفاعل، فربما يكون قد وهَب جزءاً من كرامته الإبداعية مقابل وهم لا يدوم.
هذا الوهم الرقمي لا يقتصر على تأثيرات خارجية، بل له تبعات نفسية عميقة على الكاتب. أولًا، يشعر الكاتب بضغوط هائلة لأن يكون مرئياً ومهماً، فالتفاعل ليس فقط مقياساً لنجاحه، بل وسيلة للبقاء في اللعبة الرقمية. إذا لم يحصل النص على عدد جيد من اللايكات أو المشاركات، قد يشعر الكاتب بأنه فشل، حتى وإن كان النص جميلاًوصادقاً. وهذا يخلق توتراً دائماً بين الإبداع والرقم. الكاتب يواجه صراعاً داخلياً من جهة، الرغبة في كتابة شيء عميق وصادق؛ ومن جهة أخرى، الرغبة في جذب التفاعل، لأن التفاعل يعطيه إحساساً بالاعتراف. هذا الصراع يمكن أن يثبّط الإبداع الحقيقي، ويحوّل الكتابة إلى أداء تسويقي. وقد يتسبب هذا الوهم في فقدان الرابط الروحي بين الكاتب ونصّه. عندما تصبح عدد اللايكات مقياساً لقيمة النص، قد يغفل الكاتب عن الأسباب الحقيقية التي دفعته للكتابة في البداية وهو ربما الشغف، ربما الألم، ربما الحلم. بمرور الوقت، قد يكتشف أنه يكتب ليس من أجل الذات بل من أجل الجمهور الرقمي، وهذا قد يؤدي إلى إحساس بالفراغ والتناقض الداخلي. هذا يسقط الكاتب في فخ الذات الزائفة أي إنها الذات التي تقدّرها المنصات الرقمية، الذات التي ترضي معايير الإعجاب الاجتماعي، لكن هذه الذات ليست بالضرورة نفسها التي رأت الضوء أول مرة حين ولجت عالم الكلمة. وهنا يمكن استحضار فكرة التمرد بأن الكاتب الحر هو الذي يدرك هذه الضغوط ويتحدىها، الذي يرفض أن يزوّر تفاعله، ويصرّ على أن يكون إبداعه نقيّاً ما أمكن. فكيف يمكن للكتاب أن يحرروا أنفسهم من هذا الوهم؟ وكيف يمكنهم إعادة تعريف النجاح الأدبي بعيداً عن الإعجابات الرقمية؟
ربما عليهم أن يدركوا أن الكتابة هي فعل داخلي قبل أن تكون فعلاً خارجياً. النجاح الحقيقي لا يعتمد فقط على تفاعل الجمهور، بل يعتمد أولًا على سلام الكاتب مع نفسه، على الفرح أو الألم الذي يولّد الكلمة، على المسار الروحي الذي يقوده النص. كما يمكن للكتاب أن يمارسوا ما يمكن تسميته "مقاومة رقمية" أي كتابة لمعنى وليس للتفاعل، نشر دون توقع تلقّي الآلاف من اللايكات، وربما تجاهل بعض مقاييس المنصة. هذه الممارسة ليست سهلة، لكنها إعادة بناء لنظرتهم لنجاحهم وليس كقيمة تُشترى بالكليكات، بل قيمة تُنشأ في القلب. كما أن إعادة التواصل مع جمهور حقيقي .إذ يمكن للكتاب بناء جمهور يقدّر النص لا من أجل الرقم، بل من أجل المعنى. جمهور صغير لكنه حقيقي يمكن أن يكون أعظم دعم للكاتب من جمهور وهمي كبير لكنه سطحي. كما يجب على الكتاب أن يعيدوا النظر في علاقتهم بالإبداع على أنه غاية في حد ذاته. أن يروا أن الكتابة ليست مجرد وسيلة للانتشار، بل وسيلة لفهم الذات، لتجربة الحياة، لخلق العالم، أن الإبداع يعطي معنى، وليس فقط الوسيلة لمنصة رقمية. ببساطة أن يكتبوا بما يشعرون، حتى وإن لم يحققوا التفاعل الذي يرونه مرغوباً. أن يتقبلوا أن بعض النصوص ستكون"خارج الموضة الرقمية" ، وأن ذلك لا يقلل من قيمتها الداخلية. أن تكون الأصالة أولوية، وأن يكون الفشل الرقمي خياراً مقبولًا في سبيل الحرية الفنية.
إن وهم النجاح الأدبي في العصر الرقمي ليس مجرد طموح سطحي، بل ظاهرة عميقة لها جذور نفسية وفلسفية. شراء اللايكات ليس مجرد خداع رقمي، بل هو مؤشر على أزمة تقدير داخلي لدى بعض الكتاب بمعنى أنهم يبحثون عن التقدير عبر الأرقام، وليس عبر الإحساس الحقيقي بالكلمة. لكن الأمل ليس مفقوداً الكتاب الذين يفهمون هذا الوهم يمكنهم أن يرفضوه، أن يقاوموه، أن يعيدوا تصميم علاقتهم بالكتابة. إن إعادة تعريف النجاح الأدبي كحرية داخلية، كتمرد على المنصات الرقمية، كبحث عن الذات وليس الجمهور، هو الطريق لإعادة الأصالة لحياتهم الإبداعية. لهذا أقول في نهاية مقالي هذا الكتابة الحقيقية تبدأ عندما يختار الكاتب أن تكون كلمته له أولًا، وليس لللايكات، وأن تكون روحه أولاً، وليس المنصة. وعندها، سيصبح النجاح الأدبي ليس مجرد تفاعل، بل انعكاساً لحرية حقيقية، ولتمرد داخل القلب، والإبداع ينبع من أعماق الإنسان وليس من سوق وهمي.
لبنان - بيروت الجمعة 21 تشرين الثاني الساعة الثانية عشرة ظهرا
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟